مجلة الرسالة/العدد 747/حول الجدل في الجامعة

مجلة الرسالة/العدد 747/حول الجدل في الجامعة

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 10 - 1947



للأستاذ عبد الفتاح بدوي

نشر الأستاذ (العباس) مقالاً في (الرسالة) عنوانه (جدل في الجامعة) وموضوعه رسالة قدمت في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول لنيل درجة الدكتوراه.

ونشر الأستاذ (محمد خاف الله) مقالاً بعده ينفي فيه أن يكون الأستاذ (أحمد أمين) قد عاب الرسالة لضعف في منهجها أو لإنكار ما فيها من حقائق وعلمية ويقول: إن كل ما صنعه الأستاذ أحمد أمين أنه لفت ذهن الجامعة إلى أن مناقشة الرسالة قد تثير ضجيجاً لما فيها من أفكار وآراء.

وليس يعنينا ضعف منهج الرسالة فليس الناس ولا أهل العلم خاصة قوامين بالقسط على الرسائل التي تقدم في الجامعة فذلك شأن الممتحنين من دون الناس جميعاً

ولكن الذي لنا وللعلماء خاصة هو القيامة على الحقائق العلمية وعلى الحقائق الدينية ننفي عنهما الخبث وندافع عنهما كل من يحاول عليها العدوان.

ولقد دلنا الأستاذ (خلف الله) بمقاله على أن في الرسالة التي تقدم بها إلى الجامعة أحداثاً خطيرة في العلم وفي الدين، ودعاني مقاله هذا إلى البحث عن غير ذلك التقرير، ومادمنا نملك هذا المقال فإننا نملك باباً وسيعاً من المناقشة والحساب في مسائل علمية ودينية لها أكبر الخطر ويترتب عليها أعظم النتائج العلمية والأدبية والاجتماعية والقانونية إلى أن نحصل على أشياء أخر غير المقال.

يقول الأستاذ (خلف الله): ومن المعروف دينياً ألا نستنتج من نص قرآني أمراً لم يقصد إليه القرآن. . . وهذه الدعوى هكذا تهجم عارم على العلم وعلى القرآن جميعاً، ودلالة صريحة على أن من يدعي هذه الدعوى يستبيح للناس أن يقولوا عنه أنه لا يعرف شيئاً من المنطق؛ والمنطق ميزان القول، وهو لا يعرف قواعد اللغة، ولا يتكلم بكلام الناس، ولا يصح أن تكون له رسالة يتقدم بها إلى الجامعة أو إلى سواها لأنه ليس من أهل العلم في شئ.

أليس القرآن الكريم كاملاً له الدلالات المنطقية الثلاث المطابقية والتضمينية والالتزامية التي لكل كلام سواء في ذلك كل أنواع الكلام؟ فإذا قال القرآن الكريم: (إن أول بيت وض للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين) ألا تفهم منه أن هناك بلداً اسمه (بكة) وأن في هذا البلد بيتاً، وأنه وضع للناس، ثم نفهم الأمر الديني فوق هذا وهو أن هذا البيت مبارك وهدى للعالمين؟ أليس لنا ذلك ونحن لا نستطيع أن نفهم هذا الأمر الديني إلا مع فهم تلك الدلالات؟ بل أجمع العلماء على أن القرآن الكريم فوق هذه الدلالات الثلاث التي تجمع عليها عقول البشر لكل كلام دلالة أخرى سامية هي دلالة الفحوى التي يكون مثلها للنثر الفني أو الشعر البليغ، وأجمعوا على أن هذه الدلالة مرعية قطعاً وإن اختلفوا في أنه هل تقوم على هذه الدلالة أحكام شرعية أم لا؛ إننا إذا حرمنا القرآن الكريم دلالاته الالتزامية وهي التي تستنتج من الكلام فقد حرمناه أخص المزايا العقلية لكل كلام وليس يملك هذا الحرمان أحد، إنما يدعيه من حرم قواعد العقل وخرج من ميدان التفكير، وإذا كانت الحقائق العلمية التي بنى عليها الأستاذ (خلف الله) رسالته من مثل مقاله هذا فويل للعلم وويل للعلماء

ويدعي الأستاذ (خلف الله) أن الأستاذ (محمد عبده) قد قال بهذا القول فأي قول هو هذا الذي قال به الأستاذ الإمام؟ أن كلام الأستاذ محمد عبده مثل كلام كل العلماء أن القرآن الكريم ليس كتاباً أنزل للتأريخ وضبط الوقائع وترتيب الحوادث التاريخية بعضها على بعض ولكنه بالإجماع يستخدم التاريخ ويقص من هذا التاريخ حقائق واقعة ثابتة مرتباً بعضها على بعض ترتيباً لا استنساخ فيه كما يستنتج المؤرخ ولكن ترتيب الحق والواقع وينزل بذلك الواقع المرتب ترتيب الحقائق لهداية الناس وإرشادهم إلى الخير والفلاح

فالقرآن يخالف كتب التاريخ في أمور ويوافقها في أمور؛ فالمؤرخ قديري من واجبه أن يتتبع تفاصيل الواقعة: من الأسماء والزمان والمكان والأحداث وتفاصيلها لأن هذا كله قد يعينه على استنتاج الحكم التاريخي الذي يحكم به على الواقعة أو يشبع به نهم العواطف الكثيرة المختلفة من قراءة التاريخي؛ أما القرآن الكريم فقد لا يعنيه بعض هذا لأنه لا يستنتج الأحكام التاريخية ولكنه الحكم الفيصل فيها؛ فقد لا تعنيه الأسماء مثلاً فيقول: (قتل أصحاب الأخدود) لأن العبرة التي تترتب على القصة أي الحكم التاريخي لا يتوقف على أسماء هؤلاء الناس، وليس له بأسمائهم صلة، وقد لا يهتم القرآن الكريم بالزمان فيذكر قصة (يوسف) عليه السلام وفيها اسم يوسف والمكان الذي كانت فيه القصة ولا يذكر زمانها؛ وقد لا يظهر بالمكان فيذكر قصة لوط فيبين اسمه وأنه معاصر لإبراهيم ويذكر الحوادث ولا يذكر المكان؛ وقد لا يهتم القرآن الكريم بالتفاصيل فيذكر قصة يونس عليه السلام وأنه (ساهم فكان من المدحضين) دون أن يدل على تفاصيل المساهمة ولا على نوعها ولا على المساهمين، ذلك كله لأن القرآن يخالف المؤرخ فالمؤرخ قد يتتبع ليستنتج، أما القرآن فهو منزل بالواقع، والحكم التاريخي فيه حكم العالم بالحقيقة فهو لا يستنتج ولكن يقرر الواقع ويذكر من الأسماء والأزمان والأمكنة والأحداث ما يعيننا على فهم ذلك الحكم التاريخي وتلقيه بالقبول، ويتفق التاريخ والقرآن في أن كلاً منهما يرتب الحكم التاريخي على المقدمات التي يذكرها وإن كانا يختلفان في طريقة ذلك الترتيب، فالمؤرخ يرتب المقدمات ترتيباً ظنياً خاضعاً لآلاف الفروض وأنواع الحدس والتخمين، فإذا ذكر المؤرخ أسباب سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية كان كل سبب مما يذكر موضع نقاش طويل في جميع مراحله؛ أما القرآن الكريم فيرتب المقدمات ترتيباً يقينياً لاشك فيه؛ فإذا قرأنا قوله تعالى (ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) رأينا المقدمات يقينية الوقوع والحكم الذي ترتب عليها هو عين اليقين؛ فالقرآن مصدر من مصادر التاريخ وليس كتاباً من التاريخ والفرق بينهما واضح كل الوضوح، وليس في المسلمين من يقول بغير هذا.

ويقول الأستاذ (خلف الله): على أن هذه المسألة قديمة ومن أجلها عد الأصوليون القصص القرآني من المتشابه ولقد نتج عن ذلك طريقتان. طريقة السلف وطريقة الخلف أما الأولون فيذهبون إلى أن كل ما ورد في القصص القرآني من أحداث قد وقع. وأما الآخرون فلا يلتزمون هذا وعلى طريقتهم جرى الأستاذ الإمام. . .

وهذا الذي يقوله الأستاذ خلف الله جرأة أخرى على الأصوليين ولا أحداً من المسلمين يعتبر القصص القرآني متشابهاً ولا نعرف أحداً من الأصوليين ولا من المسلمين لا يقول بأن ما ورد في القرآن إنما هو أحداث وقعت وحوادث هي خلاصة الحقيقة التي وقعت في سوالف الأزمان يسوقها القرآن عبرة وهدى للعالمين؛ وليدلنا الأستاذ على أصولي لا يقول بهذا أو على مسلم لا يقول بهذا وكلام الأستاذ خلف الله افتراء على الأستاذ الإمام يكذبه قول الإمام ومنهجه الذي اختطه لنفسه في صراحة لا شية فيها ولا اختلاط؛ ونورد هنا نص عبارة المنار وهي على أتم وضوح ليتبين للناس مقدار تهجم الأستاذ خلف الله على العلم وعلى رجال العلم ولنبين له كيف أراد أن يلبس على الناس بأقواله في مقاله ويقول ما ليس بحق.

قال في المنار عند تفسير قوله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء): تمهيد للقصة ومذهب الخلف والسلف في المتشابهات: أن أمر الخلقة وكيفية التكوين من الشئون الإلهية التي يعز الوقوف عليها كما هي وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الإنسانية على نحو ما يؤثر عن أهل الكتاب من قبلنا ومثل لنا المعاني في صور محسوسة وأبرز لنا الحكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار كما هي سنته في مناظرة الخلق وبيان الحق وقد ذهب الأستاذ إلى أن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة وذلك محال على الله تعالى وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم ومحاجة وجدال وذلك لا يليق بالله تعالى أيضاً ولا بملائكته ولا يجامع ما جاء به الدين من وصف الملائكة بكونهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وقد أورد الأستاذ (يعني محمد عبده) مقدمة تمهيدية لفهم القصة فقال، ما مثاله: أجمعت الأمة الإسلامية على أن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقات وقد قام البرهان العقلي والبرهان النقلي على هذه العقيدة فكانت هي الأصل المحكم الاعتقاد الذي يجب أن يرد إليه غيره وهو التنزيه فإذا جاء في نصوص الكتاب أو السنة شئ ينافي ظاهره التنزيه فللمسلمين فيه طريقتان أحدهما طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيد العمل فيه النقل كقوله تعالى ليس كمثله شئ وقوله عز وجل سبحان ربك رب العزة عما يصفون وتقويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا ويأتينا في ذلك بما يقرب المعاني من عقولنا ويصورها لمخيلتنا والثانية طريقة الخلف وهي التأويل يقولون: إن قواعد الدين الإسلامي وضعت على أساس العقل فلا يخرج شئ منها عن المعقول فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره ولابد من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل: قال الأستاذ (محمد عبده) وأنا على طريقة السلف في وجوب التسليم والتفويض فيما يتعلق بالله تعالى وصفاته وعالم الغيب وأننا نسير في فهم الآيات على كلتا الطريقتين لأنه لابد للكلام من فائدة يحمل عليها لأن الله عز وجل لم يخاطبنا بما لا نستفيد منه معنى

قال صاحب المنار: وأقول أنا مؤلف هذا التفسير. إنني ولله الحمد على طريقة السلف وهديهم، عليها أحيا وعليها أموت إن شاء الله تعالى.

فالأستاذ الإمام لم يقل إن القصص من المتشابه ولم يقل بذلك مسلم قبله أو بعده والأستاذ الإمام يقول: إن الآيات في قصة الخليقة في الأرض من المتشابه وفسر ذلك التشابه بأنها لا تحمل على ظاهرها وفسر ذلك الظاهر الذي لا تحمل عليه بأن فيها حواراً وجدلاً بين الله تعالى والملائكة والجدل والحوار على ظاهرهما لا يليقان بالله تعالى ولا بالملائكة فيجب تأويل ذلك الجدل والحوار وحملهما على (خلاف مقتضى الظاهر) وبين التأويل الذي يراه لهذا الحوار ولهذا الجدل في ص254 من تفسير المنار لنفس هذه الآيات فقال: وأم الفائدة فيما وراء البحث في حقيقة الملائكة وكيفية الخطاب بينهم وبين الله تعالى فهي من وجوه أحدهما أن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه الخ ثانيها إذا كان من أسرار الله تعالى وحكمته ما يخفي على الملائكة فنحن أولى بأن تخفى علينا ثالثها أن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم بعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم رابعها تسلية النبي عن تكذيب الناس الخ فأين ما ادعاه الأستاذ خلف الله على الأصوليين وعلى الإمام. إن هذا إلا اختلاق.

حسب الرسالة اليوم هذا فإن الحساب بيننا وبين الأستاذ خلف سيطول.

عبد الفتاح بدوي المدرس في كلية اللغة العربية