مجلة الرسالة/العدد 747/مبادئ مالية في الإسلام

مجلة الرسالة/العدد 747/مبادئ مالية في الإسلام

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 10 - 1947



للأستاذ لبيب السعيد

1 - الإسلام دين ودولة، فهو إذ يشرع لأهله ما يبلغهم السعادة الأخروية، يعنى كذلك بمصالحهم الدنيوية، ويقرر لها نظماً يهدف بها إلى إتاحة الرفاهية قدر المستطاع لكل منهم، وتحقيق القوة والسيادة لمجموعتهم.

2 - والمال عصب الحياة، والشريعة الإسلامية واقعية، ولذلك أقامت للمال موازين: عرفت كيف زين للناس حبه، فتكاثروا به، وتقاتلوا في سبيله، فالتفتت إلى المطامنة من هذا الحب، وأخذت من فضل هذا لتعالج عدم ذاك، محققة لكليهما الخير المعنوي والمادي وعرفت أن القوة والمنعة والأمن لا تقوم إلا على دعامة من المال، فجعلت لولي الأمر حقاً معلوماً في مال كل ذي مال لتقيم به هذه الدعامة.

فرضت الشريعة على الفرد عدة واجبات مالية ليس من همنا الآن تناولها بالبيان الوافي، ولكننا نعرض فحسب ما يتعلق بها من مبادئ رئيسية، غير مقتحمين ما للفقهاء فيها من تفاصيل.

3 - التزم الإسلام العدل الأوفى في فرض هذه الواجبات

فهو في وضع الخراج مثلاً يوجب مراعاة وجود الأرض واختلاف أنواع زرعها وما تسقى به.

وهو ينظر من أعسر بخراجه

والجزية التي يفرضها على أهل الذمة هي من الاعتدال بحيث لا تبلغ إلا سبع ما كان يفرضه الرومان مثلاً على الأمم التي أخضعوها. وفوق هذا، فهو يرعى حال من تفرض إليه الجزية إذا كان موسراً أو وسطاً أو فقير معتملاً. ويميز بين أرباب المهن المختلفة، فالصيرفي والبزاز وصاحب الصنعة والتاجر والطبيب وما إليهم غير الخياط والصباغ والجزار والإسكافي ومن أشبههم. . .

وهو لا يوجب الجزية على امرأة ولا صبي، كما يعفى منهما الأعمى والزمن والمفلوج والشيخ الكبير الفاني ولو كانوا موسرين ويضعها عن أصحاب الصوامع إلا إذا كانوا من الأغنياء.

والمبدأ المقرر لدى فقهاء المسلمين أنه (لا يضرب أحد من أهل الذمة في استيدائهم الجزية، ولا يقامون في الشمس ولا غيرها ولا يجعل عليهم في أبدانهم شئ من المكاره، ولكن ريفق بهم ويحبسون حتى يؤدوا ما عليهم.

والإسلام يشترط للزكاة نصاباً معيناً في كل نصف وجبت فيه، وهو ينظر إلى ناقص الملك نظرة خاصة رحيمة، ويسقط - على الأرجح - الزكاة عن المديان.

وهو ينكر على الفرد أن يأتي بما يملك فيقول هذه صدقة، ثم يقعد يتكفف الناس؛ يمدح القرآن أناساً فيقول: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)

ونبي الإسلام يقدر ما يحيط بالمالك من ظروف لها اعتبارها عند تقدير الزكاة المطلوبة، فهو يقول للعمال الذين ولاهم على خرص الثمار - وهو الحرز والتخمين لتقدير زكاة قبل الإثمار ولأمن من الخيانة من رب المال - يقول لهم: (خففوا الخرص، فإن في المال الوصية (أي ما يوصي به أربابها بعد الوفاة) والعرية (أي ما يعرى للصلات في الحياة) والواطئة (أي ما تأكله السابلة منه، سموا واطئة لوطئهم الأرض) والنائبة (أي ما ينوب الثمار من الجوائح)).

وكذلك في شأن الخراج، تذهب الشريعة إلى أن لا يستقصي في وضعه غاية ما تحتمله الأرض لتجعل لأربابها بقية يجبرون بها النوائب والجوائح.

4 - ويقترن بذلك العدل حزم (في التنفيذ لا هوادة فيه، ودقة في القواعد لا تدع سبيلاً إلى العبث أو التحايل.

فمن مطل بالخراج، مع يساره، حبس، إلا أن يكون له مال فيباع عليه في خراجه كالديون.

والأرض التي يمكن زرعها يؤخذ عنها الخراج وإن لم تزرع، وإذا عجز رب الأرض عن عمارتها طلب إليه أن يؤجرها أو يرفع يده عنها ليتولاها من يقوم بعمارتها. ونذكر على سبيل الاستطراد أن الشريعة تأبى ترك الأرض على خرابها وإن دفع خراجها

ومن منع الزكاة فلوالي الصدقات أن يقاتله كما قاتل أبو بكر مانعي الزكاة، بل لقد ذهبت طائفة إلى تكفيره

والكتاب والسنة ينصان على فداحة إثم مانع الزكاة، وقد تبرأ منه النبي بقوله في سياق حديث: (لا أملك لك من الله شيئاً)، وذلك - كما يقول ابن حجر - مؤذن بانقطاع رجائه ثم الشريعة تثني على مؤتي المال على حبه، وترغبه في ذلك ما وسعها الترغيب، وتعده في الدنيا والآخرة أحسن الوعود وأبعدها مدى في نفسه.

وإذا مات من عليه الزكاة بعد وجوبها عليه فإنها تخرج من رأس ماله

ومن باع ثمرة طابت فعليه زكاتها، ومن جز زرعه فراراً من الزكاة لم تسقط.

والتمليك ركن من الزكاة، فلا يجوز صرفها في بناء مسجد أو حج أو إصلاح طرق أو نحو ذلك.

وقد ذهب بعض الفقهاء إلى وجوب زكاة الفطر على كل مسلم ولو كان جنيناً في بطن أمه، وإلى وجوب تزكية السيد عن رقيقه مؤمناً كان أو كافراً لتجارة أو لغير تجارة.

والشريعة توجب الإنفاق من الطيبات وتنهى عن تيمم الخبيث قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه، واعلموا أن الله غني حميد) ويقول: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون)

5 - والأموال التي تدفع يقصد بها دائماً الصالح الأعلى للأمة، والإسلام يتحرى مصارف هذه الأموال أشد التحري:

فالصلة التي لا تعود بمصلحة على الأمة لا تكون من مالها، بل تكون من المال الخاص لمن يدفعها؛ قال الماوردي: وكان مما نقمه الناس على عثمان أن جعل الصلات من مال الفيء ولم ير الفرق بين الأمرين.

ولا يصح أن يدفع المرء زكاته إلى من تجب عليه نفقته، ولو أن دفعها ف غيرهم من الأرحام أفضل لأنها تكون صدقة وصلة.

ويستحب الفقهاء أن لا تنقل الصدقة من بلد المزكي إلى بلد آخر، لأن (أعين المساكين في كل بلدة تمتد إلى أموالها، هذا، مع عدم رؤية الفقهاء بأساً من الصرف على الغرباء في البلدة).

والعشور - وهي شبيهة بما نسميه الآن الضرائب الجمركية - مقصور بها صالح الأمة الإسلامية ذاتها، فللإمام - على مذهب الشافعي - أن يزيد في المأخوذ عن العشر أو أن ينقص عنه إلى نصف العشر أو أن يرفع العشور كلها عن البضاعة إذا رأى المصلحة في شئ غير ذلك. والإسلام يقدر أن فرض العشور قد ينقص من واردات بلاد المسلمين فيضارون ولذلك رأى أن لا يزيد أخذ العشور من كل قادم بالتجارة على مرة واحدة في كل سنة ولو تكرر قدومه إلا أن يقع التراضي على غير ذلك.

6 - والشريعة الإسلامية مع تدقيقها في استيداء حقوقها المالية على الأفراد، تحفل بضمائرهم، وتدعو ولي الأمر إلى الثقة بهم:

فليس لوالي الصدقات أن يسأل أو يبحث عن شئ ليس تحت نظره، وإنما عليه أن يأخذ مما يجد، مما تجب فيه الصدقة.

ويلزم رب المال فيما بينه وبين الله سبحانه بإخراج ما أسقطه من أصل الزكاة أو ما تركه الوالي من زيادة.

7 - والإسلام لا يجب أن يجد السلطان باسم الشرع ذريعة لإغرام أي فرد مالاً بغير حق، فيقول الرسول صراحة: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام)، فعلم أنه لا يحل إغرام مسلم شيئاً بغير نقص صحيح.

8 - والإسلام يصون لمستحقي الزكاة كرامتهم وإنسانيتهم ويأبى أن تذل نفوسهم، فهو يرغب في صدقة السر، ويقرر بطلان الصدقات التي يعقبها المن والأذى، يقول تعالى في الصدقات (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم)، ويقول سبحانه: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى)، ويقول نبي الإسلام: (لا يقبل الله صدقة منان).

وهو فضلاً عن هذا يعتبر من يأخذ الزكاة صاحب حق في مال الغني، وصاحب الحق إذا تقاضى حقه تقاضاه غير مغض نظره ولا حانياً عوده؛ قال تعالى: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم).

9 - الشريعة تعين للزكاة مصرفاً يجمع سائر الأبواب التي يتعين الإنفاق فيها لصالح الفرد والجماعة والدولة والدين، والتي يستريح للإنفاق فيها ضمير المزكي. قال تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل).

وهذه الأبواب جميعاً ظاهرة الحكمة، وفيها تكافل وتعاطف ناصعان، وفيها تأييد عملي حازم لمبادئ الحرية والإخاء والمساواة، وفيها رفق عال وتقدير للمجاهدين وحفظ لمجد الدولة.

وربما كان جديراً بالذكر أن الغزالي يحبب أن يطلب المتصدق لصدقته من تزكو بهم الصدقة، وهم عنده المتجردون للآخرة، وأهل العلم، والصادقون في تقواهم، والمخفون حاجتهم، والمعيلون أو المحبوسون بمرض وذوو الأرحام.

10 - وتختط الشريعة في محاربة الفقر مذهباً وسطاً، لا يضار منه الغني ولا تفوت بسببه المصلحة على فقير، فهو يحدد مقادير الزكاة تحديداً معقولاً، ولا يفرض على الأغنياء أكثر منها إلا أن تحدث أمور توجب المواساة والإعطاء كأن يوجد جائع مضطر أو عار مضطر أو ميت ليس له من يكفنه ولا من يدفنه.

ولقد ذهب أبو ذر إلى عدم جواز ادخار الذهب والفضة، وروى أبو هريرة أن النبي (ص) لم يحب لنفسه أن يكون له ذهب، ولكن الرد على هذا أن النبي قدر الواجب من الزكاة في الذهب والفضة، فلو كان إخراج الكل واجباً لما كان للتقدير وجه، وقد في الصحابة ذوو يسار ظاهر مثل عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وعلم النبي ذلك منهم فلم يأمرهم بإخراج الجميع.

11 - والإسلام يفرض الجهاد بالمال مثلما يفرضه بالنفس قال تعالى: (. . . إن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم. . .)، وجهاد المرء بماله يكون بإنفاقه في إعداد ما يلزمه للجهاد من العدة بمختلف أنواعها، ويكون أيضاً بإنفاقه على غيره من المجاهدين وإمداده بالزاد والعدة. والشريعة تعنف أشد التعنيف كل من نكل من الجهاد.

12 - وهي تفرض على الحجاج الهدايا يوزعون لحومها على الفقراء، وتوجب على الموسرين نحر الضحايا وإعطاء الفقراء أيضاً منها.

وكذلك كفارات الرُّخَص في العبادات وكفارات كثير من الأخطاء واجبات مالية ينتفع بها الفقراء الذين لا تبرح الشريعة تنظر في مصالحهم.

13 - ومن المبادئ الإسلامية البالغة الأهمية والتي تُغني عن التطلع إلى النظم الوضعية أن الشريعة تقتضي الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم وأن يجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بينهم:

فيقام للفقراء بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، وباللباس للشتاء، والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة.

بل لقد ذهب أبو محمد بن حزم إلى رأي لا نحسبه معروفاً جيداً لجمهرة المسلمين قال: (ولا يحل لمسلم اضطر أن يأكل ميتة أو لحم خنزير، وهو يجد طعاماً فيه فضل عن صاحبه لمسلم أو لذمي، لأن فرضاً على صاحب الطعام إطعام الجائع، فإذا كان ذلك كذلك، فليس بمضطر إلى الميتة ولا إلى لحم الخنزير).

ويمضي أبو محمد فيقول: (وله - يقصد المسلم المضطر - أن يقاتل عن ذلك، فإن قتل فعلى قاتله القود، وإن قتل المانع، فإلى لعنة الله لأنه منع حقاً، وهو طائفة باغية، قال تعالى: (فإن بغتْ إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) ومانع الحق باغ على أخيه الذي له حق، وبهذا قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مانع الزكاة، بالله تعالى التوفيق).

وبعد، فهل يسع المنصف أن لا يقرر أن المذاهب والمشروعات الاجتماعية الحديثة مع ما في بعضها من آراء تستحق التقدير، وتحمل على بعض الأمل في أن تطب لأدواء الفقر، لا تتسامى إلى المبادئ الإسلامية في دقتها وشمولها وعملها المنظم على موازنة الثروات، والتقريب بين الطبقات، وإقامة التكامل الاجتماعي، واحترام الإنسانية، وتمكين الأمة من حفظ قوتها وشوكتها.

لبيب السعيد