مجلة الرسالة/العدد 75/إلى مؤتمر الفردوسي

مجلة الرسالة/العدد 75/إلى مؤتمر الفردوسي

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 12 - 1934


1 - بين القاهرة وطوس

للدكتور عبد الوهاب عزام

أطوى حديث السفر بين القاهرة وبغداد، فقد وصفت هذه المراحل من قبل في الكلام عن سفرتي إلى مدينة العباسين، وليس في هذه المراحل من جديد إلا السيارات الضخام التي تعبر بادية الشام بين المدينتين الخالدتين: دمشق وبغداد. أعدت شركات عربية، وأخرى أوربية، سيارات كباراً تسع واحدتها أكثر من عشرين راكباً في مقاعد وثيرة، تريح المسافر صاحياً وتمكنه من الإغفاء حتى يغلبه النوم. ركبنا إحدى هذه السيارات، ففصلنا من دمشق صبيحة الثلاثاء سادس عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وألف من الهجرة (الخامس والعشرين من سبتمبر سنة 1934) وبلغنا بغداد والساعة تسع من صباح الأربعاء بعد سفر ستة وعشرين ساعة

فهذه بغداد العظيمة في جمالها وكبريائها، تزدحم فيها حادثات التاريخ أكثر من ازدحام أهلها، وتزخر فيها ذكرى الماضي أعظم من زخور دجلتها. والله بغداد، ما يستقر بها فكر زائرها حتى يحلق في أرجاء العصور، وثنايا التاريخ أمداً بعيداً. فما يفتأ البصر يترامى بين الرصافة والكرخ، يبتغي أن يقع على موكب من مواكب الخلفاء، أو مجلس من مجالس العلماء، أو حفل للأدباء والشعراء. ففي كل نظرة ذكرى خليفة، وفي كل فكرة حديث فيلسوف أو عالم أو شاعر

ثم يقع الفكر وقوع الطائر بعد طول التدويم، فيستريح من بغداد الحاضرة إلى أمة قد أخذت للمجد أهبتها، وأعدت للعظائم عدتها، وعرفت بين الأمم غايتها، وشقت بين الخطوب سبيلها. فسارت في مواقع من الهمة القعساء، والعزة الشماء. تحدوها عزة إسلامية، وأنفة عربية. قد آلت لتسيرن سيرتها حتى تبلغ غايتها. وسير الله يمينها، ويعنو الزمان لأمرها.

وما جهد هذا الدهر إلا هزيمة ... إذا نازلت عزم الكرام كتائبه

ذلكم ماضٍ مجيد يمد حاضراً مجيداً، ذلكم تاريخ يتدفق من قمم المجد الشاهقة في مجرى العزمات الماضية، إلى المستقبل الوضاء. ومن ذا يصد السيل إذا هدر، أو من ذا يرد على الله القدر؟ بل من يسلسل البحر بأمواجه، ويرد الحر الأبي عن منهاجه؟ السلام! رعاك الله في كل خطوة، وخار لك في كل عزمة.

دار السلام لا عداك المجد ... وارفة ظلاله تمتد

ولا حدا نجمك إلا السعد ... موصولة الآجال بالآجال

لابسةمجددالقرون

أن حديث بغداد لا ينفد، وحبها في القلوب لا يحد. وإنك أيها القلم لأعجز من أن تخط الزمان الماجد، والتاريخ الخالد، والخطوب والعبر، والقضاء والقدر، في هذه الأسطر. فحدث عن الرحلة إلى طوس؛ وحسبك أن تحمل (الرسالة) هذه الرسالة

لبثنا ببغداد من صبح الأربعاء إلى عشية السبت، في حفارة إخوان كرام، وسرور بدار السلام. ويوم السبت ركبنا نحن والوفود التي قدمت إلى بغداد في طريقها إلى طهران، قطار الليل نؤمّ خانقين. والمسافة بين خانقين وبغداد زهاء مائة ميل، ولكن قطار خانقين المتمهل يقطعها في عشر ساعات، فيمكن المسافر أن ينام ملء جفونه حتى يصبح. برحنا بغداد والساعة ست مساء، وودعنا على المحطة القائم بأعمال المفوضية المصرية حافظ بك عامر، ووزير إيران في بغداد. وسافر معنا الأديب الفاضل أحمد حامد الصراف مندوب العراق إلى مؤتمر الفردوسي. وكان المندوب الثاني الشاعر الكبير الزهاوي، قد سبقنا إلى خانقين في سيارة. وصحبنا في القطار إلى منتصف الطريق الأخ الهمام إبراهيم الواعظ المحامي، وكان ذاهبا إلى كركوك، فما زلنا في إكرامه واحتفائه حتى افترقنا؛ أهدي إلى وإلى الأستاذ العبادي ديوان السيد محمد سعيد الحبوبي النجفي، فكان خير زاد للمسافر. ولما وقف بنا القطار على محطة باب الشيخ ببغداد اشترى لنا قلة بغدادية روينا بها في سفرنا. وقلل بغداد نقية الطينة، سريعة التبريد، تمنيت أن أحمل بعضها إلى مصر فلم يتيسر لي، وهي أمنية أعجزت الأستاذ الزيات من قبل

بلغنا خانقين والساعة أربع من الصباح، فبقينا في القطار حتى أسفر النهار، فنزلنا وحملنا أمتعتنا إلى حجرة من حجرات المحطة، استبد بها الأستاذ الصراف فشاركناه فيها. ولبثنا ننتظر قدوم مندوبي الحكومة الإيرانية حتى جاء القنصل الإيراني، وآقاي روشن المهماندار، الذي كان طليعة ركبنا في رحلتنا كلها. وعلمنا حينئذ أن موعد السفر غد، أول أكتوبر فتفرقنا. ذهب جماعة إلى دار القنصل، وآخرون إلى المنازل أخرى. ودعنا صديقنا الصراف إلى دار صديقه عبد القادر صالح، معاون جمرك خانقين، وكلمه بالتلفون، فأرسل سيارته، فذهبنا إلى الدار فإذا فتى نبيل من فتيان العراق، وكم في العراق من فتى نبيل! فلبثنا في ضيافته إلى صبيحة يوم الثاني، وسعدنا بصحبة موظفي خانقين الكرام، واحمدنا هذا التأخر الذي أتاح لنا هذه السعادة

وخانقين مدينة صغيرة على حدود العراق، وعلى طريق خراسان، يمر بها نهر حلوان (حلوان جاي) ويسمى نهر ألوند، وهو فرع من نهر ديالى أحد روافد دجلة. وعند المدينة قنطرة كبيرة من أثار الساسانيين. وقد وصفها ياقوت في المعجم. وكانت المدينة في العصور الإسلامية الأولى معروفة بالتمر والغلة، ولا تزال كثيرة التمر. وقد مدح أبن المعتز نبيذها. وقال عتبة بن الوعل التغلبي:

ويوم ببا جسري كيوم مقيلة إذا ... ما اشتهى الغازي الشراب وهجرا

ويوم بأعلى خانقين شربته ... وحلوان حلوان الجبال وتسترا

وفي خانقين حبس كسرى برويز النعمان بن المنذر حتى مات. ويوم الاثنين أجتمع المندوبين عند محطة خانقين، وجاء آخرون من بغداد منهم أستاذي سيردنسن روس، والشاعر الإنكليزي درنكووتر، وعبد الكريم أفندي الحسيني، والدكتور نظام الدين مندوبا حيدر أياد. وتقسمنا السيارات فركبت أنا والأستاذ العبادي والأديب الصراف معاً، وكانت صحبة الصراف فألا سعيداً في هذه السفرة، فقد نعمنا بحديثه وإنشاده من الشعر العربي والفارسي وتغنيه بالأغاني المصرية. كنا كما تمادى بنا السير وماطلنا المدى، قلنا هات يا صراف، فانطلق ينشد من محفوظه الذي لا ينفد، فيدوي صوته على الجبال الشاهقة، وفي السهول الفسيحة، فننشط له نشاط الإبل للحداء. وسنذكر بعد طرفا من حديث الصراف. سرنا إلى الحدود في طريق معبدة مقيرة، فوقفنا قليلاً؛ وجاء إلينا رسول إيراني فرحب بنا وأعطانا دليلاً مكتوباً بالفارسية والفرنسية، فيه طرف من أخبار البلاد التي نمر بها بين خانقين وطوس. وهناك تركت الرفيقين الكريمين، وركبت مع صديقي عبد الكريم الحسيني مندوب حيدر أياد، إذ كان في سيارة وحده فأردنا أن نؤنسه في السفر

بلغنا قصر شيرين بعد نصف ساعة، فتوقفنا لشرب الشاي على الطريق. وقصر شيرين مدينة صغيرة على طريق خراسان، وعلى نهر حلوان، سميت باسم القصر الذي بناه كسرى برويز (590 - 628م) لامرأته شيرين

ولا تزال أطلال قصور كسرى قائمة إلى الشمال والشرق من المدينة. وقد وصفها ياقوت فقال: (وفيه أبنية عظيمة شاهقة يكل الطرف عن تحديدها، ويضيق الفكر عن الإحاطة بها؛ وهي أيونات كثيرة متصلة، وخلوات وخزائن، وقصور وعقود، ومنتزهات ومستشرفات، وأروقة وميادين، ومصايد وحجرات، تدل على طول وقوة). ولا تزال ذكرى كسرى وشيرين وعاشقها فرهاد الزائر، والمغني بلهبذ تطيف بها الخرابات، وأساطيرهم تسمع في هذه الأرجاء

وحلوان المدينة القديمة المذكورة في الأخبار والأشعار قريبة من قصر شيرين. وكانت مدينة كبيرة عامرة ثم خربت منذ القرن الثامن، فلم يبقى منها إلا أطلال دراسة، ونخلتا حلوان وقصصهما وما قيل فيهما من الأشعار من الأحاديث الذائعة.

يتبع

عبد الوهاب عزام