مجلة الرسالة/العدد 75/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

مجلة الرسالة/العدد 75/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

مجلة الرسالة - العدد 75
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
ملاحظات: بتاريخ: 10 - 12 - 1934


1 - تطور الحركة الفلسفة في ألمانيا

للأستاذ خليل هنداوي

فصول لم نرد بها التحدث عن الفلسفة للفلسفة، ولكنا أردنا بها أن تبدي تأثير الفلسفة في تطوير الأدب الألماني، وما كان لأصحاب الفلسفة من فضل عميم على هذا التطور الذي أصاب جميع حقوله الأدبية.

الكاتب

تمهيد

الفلسفة الألمانية قبل (كانت)

كانت تستمد ألمانيا مادة فلسفتها وأدبها من فرنسا طيلة القرن السابع عشر، والفلسفة الديكارتية هي الفلسفة التي كانت تتطارحها الجامعات الألمانية، (وليبنيز) (1646 - 1716) هو أول فيلسوف استطاع أن يبث الحياة في عروق الفلسفة الألمانية ويذهب بها في مضمار التقدم شوطاً بعيداً، كتب الفلسفة باللغة اللاتينية طوراً، وطوراً بالفرنسية، وهما اللغتان السائدتان يومئذ، ولعل شيوعهما واستئثارهما بالكتابات الفلسفية كان يقرب كثيراً بين المفكرين والأدباء حتى يغدو هذا التقريب أحد الأسباب العاملة على تشييد صرح اللغة وتزينه وتجميله بما يستطيع فكر ناهض أن يضعه؛ ولكن علة (ليبنيز) أنه كان يتناول المسائل الفلسفية كمادة فنية تلهو بها نفسه، وهو خلال ذلك قد يعالج المسائل الكبرى، كمسألة الحياة والوجود، وقد يوفق في الإجابة عنها توفيقاً كبيراً، ولكنه كان واحداً من كثيرين ممن يعالجون الفلسفة، ولا يعملون على لم أفكارهم حتى تكون مذهباً خاصاً يضم منها الآراء الناضجة وفكرتهم الخاصة في الحياة؛ وجل ما وصل إليه في فلسفته أن عالج الجبر والاختبار، ومعرفة الله وعلمه بالمستقبل، والعناية الإلهية ووجود الشر، وألف مذهبه في الذي يرضى عن الوجود ويحبب الوجود إلى الإنسان، هذا المذهب الذي سخر منه (فولتير) في مقطوعته زلزال (ليزبونة) وفي روايته (كانديد)، وخير كتب ليبنيز الخالدة كتابه وفي هذا الكتاب يعلن انفصاله عن المذاهب المتقدمة ومروقه من مذهب ديكارت الذي جعل من الكون جزأين: أحدهما عالم الأرواح والآخر عالم الأجساد، فجاء ليبنيز ونقض هذا المذهب، وأحل محله مذهب (الجزء الفرد الذي لا يتجزأ ولا يفنى، وشأنه في مذهبه هذا كشأنه في غيره يفتقر إلى ترتيب وتوفيق وتوحيد

وهذا العمل الذي كانت تفتقر إليه آثار (ليبنيز) إنما أتمَّه وشذَّبه من بعده الفيلسوف الصارم (وولف) الذي نزع عن فلسفة ليبنيز الخيال والشعر وشد وثاقها بالحقيقة، ونفي عنها شيئاً وزاد عليها شيئاً حتى غدت أجزاؤها متآلفة متداخلة كأنها أعضاء في جسد واحد. وقد كان له تأثيره العظيم في الأدب الألماني والفلسفة الألمانية بشهادة الفيلسوف (كانت)، لأنه هو الذي خلق في الألمانية لغةً للفلسفة خاصة، وهو الذي فتح آفاقاً واسعة في التعبير والأداء لمن بعده، فهان على هؤلاء أن يجلوا وأن يحلقوا ما استطاعوا؛ ومن هؤلاء (كانت) نفسه، الذي كانت له صفحات خاصة تشدو بالمزايا التي أسداها (وولف) إلى الأدب وإلى الفلسفة

على أن الأندية الفلسفية قد تغض بصرها عن كل ما شاد هؤلاء في صرح الفلسفة، وتعتقد أن الفلسفة الألمانية إنما كانت قبل (كانت) غيهباً ممدوداً، وأن الذي محا هذا الغيهب وبعث النور في خلاله هو الفيلسوف العظيم (كانت) الذي تزعزعت له الأندية الفلسفية والأدبية، وكانت له فيهما جولات يعزى إليها كل ما غمر الحقل الأدبي والفلسفي - في ألمانيا - من خصب ومن إنتاج.

كانت 1724 - 1804 حياته: فلسفته: تأثيره

حياته

كان (كانت) في التاسعة من عمره حين فقد والده، فكفلته أمه ونشأته تنشئة عالية، فدرس في بدء عهد اللاهوت، كما هو العهد في دراسات تلك العصور، ثم درس الرياضيات، ثم الفلسفة، حتى إذا أتم عهد الدراسة عرض له هم المعيشة، الهم الذي كان يوقر ظهره في جميع أدوار حياته، فرضى بأن يدرس في مواطن خاصة، وهو خلال ذلك يتفرغ إلى الدرس، ويلم بجميع العلوم التي توائم الفلسفة. وفي عام (1770) أُسند إليه كرسي خاص لتدريس الفلسفة، وقد عاد أمره إلى الضيق، وحريته إلى الإرهاق في عهد فردريك غليوم، إذ تدافعت عليه الوشايات يخلقها حسد القوم؛ ولكنه ظل مثابراً على العمل حتى عام (1797). وقد كان لعهده هذا التأثير بليغ في نفوس طلابه الذين جالت براعاتهم من بعده في صحف الأدب والفلسفة، وهو الذي يوصي زملاءه في إحدى محاضراته: (بأن يحذروا كل الحذر من أن يلقوا في نفوس طلابهم أن العلم بالغ أوج الكمال، أو أن يعلموهم ما هي ماهية الفلسفة، وإنما ينبغي لهم أن يلقونهم كيف يتفلسفون، وأن يساعدوهم - لا أن يحملونهم على ظهورهم - إذا أرادوا أن يعلموهم الدروج على الأقدام). والحق يقال أن (كانت) لم يخلق إلا ليعيش فيلسوفاً، ولم يلاق منه مذهبه إلا قريناً يحيا به ومعه، ناهيك ببعض مآثر رواها عنه القوم، تدل على ما أتصف به كانت من حب العمل والنظام والتوقيت ومواصلة الجهود الجبارة في سبيل دراساته المتتالية، فقد كان الرجل موفقاً كل التوفيق بين مذهبه وسلوكه؛ قد سن لكل شيء نظاماً، وأتبع هذا النظام كأنه الرسول يأمر وهو أول من يأتمر

وكان آخر كلمة له هذه الكلمة حين لقي حتفه عام 1804: (أنه حسن!) كأنما يريد أن يقول (لقد عشت كما كنت أود أن أعيش)

فلسفته

بدأت فلسفة (كانت) تنمو شيئاً فشيئاً شأن كل فلسفة، وإنما تميزت من غيرها بطابع الاستقلال الذي انتحى بها ناحية جديدة، فقد تأثر كانت بمن تقدمه من الفلاسفة وأتخذ غذاءه العقلي منه، وما كاد ينشأ ويترعرع ويشتد ساعده حتى أعلن انفصاله عنه ونهج منهجاً جديداً أختطه لنفسه. وفي كتابه (آراء في التقويم الحقيقي للقوات الحية) حيث أراد أن يوفق في الفلسفة الطبيعية بين لبينيز وديكارت يقول: (قد أتمثل أن هنالك لحظات لا يقنع الإنسان فيها أن يعتمد على قوته، أن هذا الاعتماد ليولد فينا جهوداً متواصلة ويمنحها سبيلاً يفيدها في سعيها نحو الحقيقة، وجميل بنا أن ننخدع ألف مرة، لأن الضال المنخدع ليعمل على خدعة العلم أكثر ممن لا يسلك ألا السبيل المطروقة. . . أنني هنالك سأطأ. . . ولقد سلكت السبيل التي أردت أن أتبعها. . . سأسلكها ولم يقف سيري أحد)

أن هذه الثقة المطلقة بالنفس بدأ يظهر فضل إنتاجها في فلسفة (كانت) لأنها فرضت عليه أن يخط سبيلاً جديدة، ويطلع على الناس بمدرسة للفلسفة جديدة، وهل كان العصاميون ألا أبناء اعتمادهم على نفسهم؟ وقد ظهر أول إنتاجه في كتابه (تاريخ الطبيعة العالمي، ومنهج السماء العام وتجربة على الأصل الميكانيكي للعالم حسب قوانين نيوتن)، فكتابه هذا هو تجربة ميكانيكية سماوية مؤسسة على علم الطبيعة. فالعالم نيوتن لم يسن إلا قانون الحركات السماوية. وعندما أتى على درس أصل هذه الحركات ناط الأصل بالإرادة الإلهية التي يعن لها كل شيء، ولكن (كانت) أدرك أن القانون الذي أفاد في تعين مذهب الوجود، ينبغي له أن يحلل مركباته، وأن القوات التي تحفظ الوجود ينبغي ألا تختلف عن القوات التي أبدعت الوجود. وأخيراً يفترض في بيان أصل الوجود أن مادة متشابهة مؤلفة من أجزاء متشابهة تقودها حركة دائرة، وهي تتشكل وتتنوع بحسب ما يحتوي باطنها من قوة وفاعلية، ثم يصف الخلاء (أو الفراغ)، وقد استحال جواً غائماً، وشموساً وسيارات وأقماراً، ولكنه في الحقيقة لم يزد شيئاً، إلا أنه سار بالمسألة التي وقف نيوتن عليها، وهذه المسألة المبهمة هي عديمة الحل في ذاتها، إذا ليست الحياة إلا العمل الدائم نقبله على وضعه؛ وفصول أخرى جاءت في الكتاب تغمرها أنفاس شعرية تبدي لنا (كانت) في عهد كان لا يفر من عاطفته، وقد تراه في بعض صفحاته يسوق إليك نظريات قد أستغلها (لابلاس) نفسه بعد خمسين عاماً. كانت العلوم الطبيعية هي شغل (كانت) في جميع أدوار حياته، وهذه العلوم هي التي فتحت لنفسه أفقاً جديداً تركها لا يقنعها مدى الأفق الضيق الذي تخلقه المدرسة، حتى إذا مرت عليه أعوام عاد إليه حنينه إلى الفلسفة المقصودة بذاتها، فحارب المذاهب الهندسية التي تعنى بالبراهين المنطقية ولا تعنى بالبراهين العملية، وقد وضع كتاباً خاصاً ناضل به أصحاب العلم النظري

يستشهد (كانت) بكلمة لأرسطو (ترانا حين نكون شيوخاً نعيش سواء في هذا العالم نفسه، ولكننا عندما نسترسل في الأحلام والأوهام كل منا له عالمه. . . ثم يقول: (وحين يبني الناس دعائم الوجود كل بحسب رغبته، فليأذنوا لنا بأن نقول: أن هؤلاء الناس يحلمون! ولكن هل يدفعنا هذا إلى القول: أن كل علم نظري فاسد؟ لا. لأن العلم النظري قد يسد حاجة من حاجات عقلنا، ولكنه لم يكن ناجحاً مفيداً إلا إذا كان موثقاً بحبال معرفتنا. ويقول كانت: أن العلم النظري له عملان: يجيبنا في الأول على أسئلة كثيرة يخلقها العقل الطامح إلى كشف أسرار الوجود، وهاهنا يكثر انخداعنا بنتائج تأتينا على غير ما نتوقع؛ وفي العمل الثاني يبين لنا ماهية المسألة التي نعالجها وموضوعها من حدود إدراكاتنا، وإمكان اتصالها أو استحالته بتجاربنا ومعارفنا. وعلى هذا نرى العلم النظري إنما هو معرفة لحدود العقل البشري، وهو كل البيت الصغير ترى حدوده دائماً كثيرة، وإنما ينبغي لهذا العلم أن يكون أكثر شغفاً بالمعرفة، وأشد صيانة لما يملكه، لأن ذلك أجدى عليه من إنتصارات جديدة يركض ورائها ركضاً أعمى لا يغنيه شيئاً

هذا هو رأي كانت في العلم النظري، وهذا الرأي نفسه هو الذي خلق كتابه (نقد العقل الخالص) هذا الكتاب الذي أظهر مزية (كانت) وعلو كعبه في الفلسفة، وكان له التأثير العميق في فلسفة أوربا الحديثة.

خليل هنداوي