مجلة الرسالة/العدد 75/جزيرة العرب

مجلة الرسالة/العدد 75/جزيرة العرب

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 12 - 1934



صفحة مجيدة من تاريخها القديم

بقلم الأستاذ رزوق عيسى

كلمة عرب وأصل معناها. المكتشفات الحديثة. الكتابات الأثرية. ملكة سبأ والسبئيون. معين والمعينيون. اكتشاف أسماء 32 ملكاً. التجارة القديمة وطرق المواصلات. اللبان والأطياب. المعارف والعلوم في الجاهلية. التقاليد والروايات القديمة. الإله أونيس. الأنباط. وطن الساميين الأول. الحروف الهجائية العربية أقدم من الحروف الفينيقية. شهادة من التواريخ القديمة العهد.

ذهب اللغويون والمؤرخون في معنى كلمة عرب مذاهب متعددة، فمنهم من قال إنهم تسموا باسم جدهم يعرب بن قحطان، وذهب فريق إلى أن العرب مشتقة من (عربا) وهي مفقودة في العربية إلا أنها موجودة في العبرية والآرامية بمعنى البادية والصحراء، ومنهم من زعم أن كلمة (عرباء) وردت في العربية بمعنى خالص في قولهم العرب العرباء أي العرب الخلص، وهم أهل البادية؛ وقال آخرون إن اسم العرب وبلادهم التي تدعى جزيرة العرب مشتق من لفظة (عربة) وهي أرض بتهامة دعيت بذلك أخذاً من يعرب بن قحطان جد العرب الأولين، وفي فلسطين موضع يسمى عربة أيضاً كما جاء مراصد الاطلاع.

والأقرب إلى الصواب أن لفظة عرب مشتقة من (أوربي) الشمرية بمعنى سكان الخيام، فأن كلمة أور - أو - أورو التي أصبحت في عصر البابليين والآشوريين بمعنى مدينة كان يراد بها في عهد الشمريين الخيمة، ثم أطلقت على الدار من باب التوسع. وهذا الاشتقاق ليس ببعيد، لأن العرب من أعرق الشعوب في القدم، وقد عاصروا جميع الأمم المعروفة في التاريخ كالشمريين والآكديين، والبابليين، والكلدان، والآشوريين، والميتانيين، والحثيين، والمصريين، والفرس، واليونان، والرومان. وكانت بلاد العرب تعرف عند الآشوريين باسم أريبي وأهلها أوربي أو أوروبي، ومعناها ديار ساكني الخيام.

جزيرة العرب قديمة جداً، ولا تفوقها في القدم ديار مصر وبابل، وقد جاء في كتاب مصادر البشر لمؤلفه صموئيل لينغ الإنكليزي ما نصه: (عثرنا مؤخراً في أصقاع عربية على أنباء آثار وكتابات ربما ضارعت في قدمها أنباء بلاد مصر والكلدان، فقد كانت بلاد العرب، ولم تزل، من الأقطار المجهولة الوعرة، ولا سيما في الأزمنة المتأخرة حينما أصبحت مقدسة في نظر أصحابها، ولا يجوز للرواد والرحالين الأجانب أن يطئوا أرضها، قصد الاكتشاف والتنقيب في طلولها الدوارس).

وقد توفق نفر من السياح الأوربيين وعلمائهم إلى التوغل في بلاد العرب، بعد أن خاطروا بحياتهم وقاسوا من المشاق والأهوال ما لا يوصف، بيد أنهم نالوا مبتغاهم أخيراً، واكتشفوا مواقع المدن القديمة، ونسخوا كتابات عديدة وجدوها مطمورة في الأنقاض ومسطورة على الجدران المتداعية. وفي متاحف أوربا ودور كتبها آثار البلاد العربية المنقوشة على الحجر، وعلى ألواح نحاسية، وعددها يبلغ اليوم نحو ثلاثة آلاف عادية. ومن العلماء الذين جاهدوا جهاد الأبطال في الوقوف على مجاهل هذه البلاد الدكتور غلازر فأنه راد الديار العربية الجنوبية ثلاث مرات، ونسخ في خلالها من الصور والكتابات التي عثر عليها في رحلاته 1031 صورة حملها معه إلى مسقط رأسه، وبينها آثار نفسية، ولأكثرها فائدة تاريخية عظيمة، إذ وقفت علماء الآثار على ما كانوا يجهلونه من تاريخ هذه البلاد ومدينتها في جاهليتها.

لقد استفاد الباحثون المدققون فوائد شتى من أنباء تلك الكتابات ومن غيرها أيضاً، حتى تسنى لهم أن يكشفوا النقاب عن أصل السكان القدماء، ويزيلوا الغموض والإبهام عن تاريخهم ويستقصوا أخبار الأمم الغابرة، وما كانت عليه البلاد العربية من الحضارة والتجارة في العصور العريقة في القدم، واليك ما قاله الأستاذ سايس: (إن ماضي تاريخ شبه جزيرة العرب المظلم قد انبثق فجره بغتة فسطعت أشعته وأنارت وجه المسكونة، فقد وجدنا أن البلاد العربية كانت قبل عصر صاحب الشريعة الإسلامية بزمن مديد أرض الثقافة والأدب والحكمة، وكانت موقع ممالك ودول قوية بلغت شأواً بعيداً في تاريخ العالم القديم، وانتشرت في ربوعها تجارة واسعة) إلى آخر ذلك المقال البديع.

إن زيارة ملكة سبأ أورشليم ومثولها بين يدي سليمان ملك إسرائيل تعد من اللمع الأولى الواردة في الأخبار القديمة، وقد جاء ذكرها في سفر الملوك من التوراة، وكانت تلك الملكة العربية، ويظهر أنها قدمت من ديار كانت لها حضارة عريقة في القدم، ولها سطوة عظيمة بين الأمم، والهدايا التي قدمتها إلى سليمانتدل على أنها جلبت من حاصلات قطر اشتهر بلبانه وأطايبه، وهذا القطر واقع في جنوب بلاد العرب، وقد عرف باسم سبأ أو شبأ في تاريخ العالم القديم.

انتشرت تجارة هذه المملكة القديمة العهد في أقطار العالم، امتدت إلى بلاد الحبشة والصومال حتى ساحل أفريقيا الشرقي، والكتابات الآشورية تؤكد ذلك، فقد ورد فيها أن سبأ كانت مملكة عظيمة في القرن الثامن قبل الميلاد، وكانت تخومها تحاد تخوم مملكة نينوى من جهة الشمال في عصر (ثغلث فلاسر) وسرجون الثالث، فيستفاد من هذا النبأ وغيره أن بلاد العرب كانت مملكة قديمة جداً، وقد تدرج الحكم فيها من الملوك الكهنة وحكومات المدن المستقلة ودويلات وإمارات إلى اتحاد مملكة عظيمة واسعة الأطراف فسيحة الأرجاء كالتطور السياسي الذي نشأ في مصر وفي بلاد الكلدان. وكان الملوك الكهنة يعرفون باسم (مكارب) كما جاء في بعض الآثار، وواحدهم (مكرب) ويراد به رئيس كهنة السبئيين. وتدل هذه الكلمة على أن الحكم الأول كان عبارة عن دولة تحت رياسة الله (طقراسيه)، هذا ولفظة سبأ اسم آله أطلق على بقعة في بلاد عربية، كما أطلقت كلمة أشور على صقع في بين النهرين وتفيد معنى الآله.

ورد في بعض العاديات أن مملكة سبأ القديمة تأسست على أنقاض دولة أقدم منها عهداً نشأت في هذا الاقليم وعرفت باسم معين، فقد عثر الباحثون المنقبون على أسماء 32 ملكاً من السبئيين والمعينيين، وهذا عدد كبير لا يستهان به، بالنسبة إلى قلة المكتشفات الأثرية في تلك الأصقاع. وجاء في بعض الكتابات أن سلطة بعض الملوك المعينيين لم تكن محصورة في المنطقة الجنوبية بل منتشرة في كل بلاد العرب حتى تخوم سورية ومصر؛ ويؤيد ذلك كل التأييد عثور المنقبين على ثلاثة أسماء من أولئك الملوك في أطلال تيماء الوارد ذكرها في العهد القديم من التوراة في الطريق المؤيدة إلى بلاد الشام وسيناء. وفي البلاد العربية الجنوبية وجدت صحيفة نذر جاء فيها أن أصحابها يشكرون الآله (اطار) على نجاتهم من الحرب الناشبة بين حاكم الجنوب وبين حاكم الشمال، وخلاصهم من القتال الواقع بين مظة ومصر، ويحمدون الآله على عودتهم سالمين إلى مسقط رأسهم مدينة قوران؛ وأصحاب هذه الكتابة يصرحون بأنهم كانوا تابعين لملك معين المدعو (رابي - يدعى - ياثي) وهو أحد حكام بلاد تسار وأشور ووراء ضفة النهر.

لقد ورد اسم تسار مراراً عديدة في الآثار المصرية كحصن قائم في جهة الحدود العربية، وموقعه يمثل اليوم طرفاً من قناة السويس. هذا وكتابة أخرى تشير إلى غزة، ويظهر من مضمونها أن سلطة الحكام المعينيين امتدت إلى أردم فبلغت فلسطين وما جاورها من البقاع، والقبائل القاطنة فيها خضعت لسلطانهم. وقد أسست المعاقل في البراري والقفار للمحافظة على طرق المواصلات، وأنشئت المدن العظيمة في تلك الأصقاع النائية لتوسيع نطاق التجارة والعمران منذ القدم، لأن سيل التجارة بين الشرق والغرب كان متدفقاً بعضه يجري بطريق البحر الأحمر وبطريق خليج فارس، ومن أطراف هذه المياه الشرقية ينتقل إلى البحر المتوسط، وبعضه يسير في طريق القوافل مجتازاً آسيا.

وكان الاستيلاء على أحدها هذه الطرق يعد طريقة ناجحة في ترويج التجارة وباباً للمواصلات مع ممالك عديدة، فان سليمان ملك إسرائيل لما عقد معاهدة مع مدينة صور أخذت تجارة مملكته تنتشر انتشاراً مطرداً حتى بلغت شأناً عظيماً، ونالت شهرة واسعة، فقصدها التجار الأجانب من كل فج وناحية، والحروب التي وقعت بين المصريين والآشوريين والحثيين والعيلاميين والبابليين كان منشؤها السيطرة على طرق المواصلات، ليتسنى للدولة القابضة على أزمة تلك المسالك أن تروج تجارة بلادها أولاً ثم تفرض الضريبة على البضائع والأموال التي تمر في أراضيها، وبهذه الوسيلة يزداد إيرادها وتقوى شوكتها.

كان للبلاد العربية موقع تجاري مهم، وكانت مركز اتصال بين الشرق والغرب تحميه الصحاري الرملية الوعرة من هجوم الأعداء وتوغلهم في قلب الجزيرة، وتكتنفه البحور فتدفع عنه غارات الدول؛ وكان للأصقاع الجنوبية تجارة واسعة وشهرة عظيمة، فان اللبان والأطايب كانت تصدر بمقادير كبيرة تنفق في أسواق العالم المعروف في ذلك الزمن القديم، وكانت توقد في الهياكل والمذابح والمعابد في قصور الملوك والأمراء وفي دور الأغنياء، ولم يمكن الاستغناء عنها بوجه من الوجوه، لأنها كانت مفروضة في الديانات القديمة كالقرابين والذبائح. فإذا تناولنا مثلاً هيكل سليمان نجد أن فيه كانت تقرب الذبائح ويوقد البخور لتستعطف (يهوه) رب الجنود، ومثل ذلك كان يجري في ألوف من الهياكل والمعابد المنبثة في أطراف آسيا، وكان يجلب معظم اللبان والأطياب المستهلكة في الأماكن المقدسة من بلاد العرب.

وقد ذهب الكاتب المحقق صموئيل لينغ أن سبب رواج تجارة اللبان والأطياب في الشرق كان لتعطير هواء الهياكل والمذابح والمعابد حيث يكثر فيها ذبح الذبائح وإهراق دماء الكبوش والعجول وتنتشر في أطرافها غازات فينتن المكان ويفسد الهواء؛ ومما لا ريب فيه أن أحسن اللبان وأنفسه كان يجلب من بلاد العرب. وقد عثر أحد المنقبين على صفيحة جاء فيها (إن الروائح العطرية والأطياب السبئية يفوح شذا عبيرها في السواحل العربية الميمونة).

أن للمكتشفات الأثرية في بلاد العرب فوائد جمة لأنها وقفت طائفة من العلماء البارزين على كثير من أنباء هذه الأمصار وعادات أهلها وأسباب اتساع التجارة التي كانوا يتعاطونها مع الديار الدانية والقاصية. وقد أرشدتنا كتابات العاديات إلى أن بلاد العرب عريقة في القدم، ومن ربوعها نزح طوائف من الناس ومصروا دياراً أخر. وكان للبلاد العربية حضارة وعلم وأدب، ولكتابها حروف هجاء خاصة بهم، وأسلوب كتاباتهم يرتقي إلى عهد الكتابة المصرية القديمة وإلى الخط المسماري؛ وقد سبقت بأزمنة طويلة أقدم صور الكتابات بالحروف الفينيقية. وفي عام 1810 اكتشف سيتزن أول كتابة عربية فنسخها ونظمها وصفها حسب الحروف الحميرية المنسوبة إلى حمير. وقد قال العلماء إن لغة تلك الكتابة كانت سامية، وحروف هجائها تماثل الحروف الحبشية، ويظهر أنها معدلة على الحروف الفينيقية وهي مكتوبة بصورة عمودية بدلاً من الأفقية.

وقد أدت مكتشفات وأبحاث الدكتور غلازر إلى أن الكتابة الحميرية قائمة على نوعين أو مجموعتين من الكتابة: فالأولى كانت أقدم من الثانية، وتتضمن حركات أصلية وصور وأشكالاً نحوية وقد عهدها المستشرقون كتابة معينية، بينما قالوا عن الكتابة الثانية إنها سبئية، لأن لهجتها وصورة كتابتها تدل على أنها أحدث عهداً من شقيقتها. وظهر ظهوراً بيناً أن قواعد الصرف والنحو وأنواع العلوم والآداب العلمية المعينية سبقت آداب وعلوم السبئيين بزمن وافٍ بحيث أصبحت الأخيرة قابلة لتغيرات عديدة طرأت على مفردات لهجتها ومحصت صرفها ونحوها من الشوائب والزوائد، وليس في هذا التبدل العجيب يد أجنبية فعلت فعلها الأدبي في فتوحها هذه البلاد، بل يرى جمهور المحققين أن القبائل العربية تطورت أحوالها بجهودها وانتقلت من منزلة إلى أخرى بفعل تدرج عناصرها في سلم النشوء والارتقاء حسب سنة الطبيعة.

أن مملكة السبئيين يرجع عهد تاريخ حضارتها إلى عصر سليمان ملك إسرائيل، أي قبل الميلاد بألف سنة؛ وقد كانت موجودة قبل هذا الزمن بقرون عديدة، لأن جدول أسماء أثنين وثلاثين ملكاً من المعينيين والسبئيين يدل دلالة واضحة على رسوخ قدم هذه الديار في الحضارة والعمران. ومن المرجح أن المكتشفات المقبلة ستقف أبناء هذا العصر على كثير من الأمور التي كان يجهلها أسلافهم. نعم أن أقدم الكتابات المكتشفة تشير إلى حضارة وتجارة وعلم وأدب بزغت أنوارها في ديار قيدار وسالع قبل عهد التاريخ، وعليه قال أحد الأثريين: يجب أن تصف بلاد العرب في مصاف ديار مصر والكلدان لأنها إحدى الممالك القديمة التي ظهر فيها جماعات من القبائل أبلغوها إلى ذروة الحضارة والسؤدد منذ العصور المتوغلة في القدم، وقد نطقت بعض العاديات شهادة صادقة، وهي أن جنوب بلاد العرب يرتقي عهد مدنيته إلى عصر سرجون وإلى منيس.

تشير روايات قديمة وتنبئ أسانيد أثرية عند بلاد العرب الجنوبية أو عن البلاد المتصلة بساحل أفريقية من جهة الشمال الشرقي بأنها كانت مصدر الحضارات الأخرى، فقد جاء في أساطير البابليين أن الآله (أونيس) وهو إله الثقافة عندهم كان يخرج من الخليج الأرثري أي خليج فارس ويهذب الكلدان القدماء، وهو أول من علمهم العلوم ولقنهم الفنون وشهد قدماء الفينيقيين، وقالوا أن منشأهم كان من جزر البحرين الواقعة في الخليج المشار إليه. هذا والمصريون كانوا ينظرون إلى البنط بكل احترام، ويجلون قدرهم ويرفعون منزلتهم فوق الأمم الأخرى. ومن المؤكد الثابت أن موقع هذه الديار كان يمثل بلاد العرب السعيدة وأرض السومال. وقد ذهب أهل مصر في ذلك العهد إلى أن مصدر ثقافتهم وينبوع آدابهم ومعارفهم ومدنيتهم لم يكن في مصر العليا والسفلى بل في مصر الوسطى في أبيدوس حيث حكم توت وأوزيريس، وهناك مضيق يفصل النيل عن البحر الأحمر، وهذه الشقة الضيقة من الأرض كانت من أهم وأعظم طرق المواصلات التجارية بين البلاد العربية ومصر.

كانت أواصر الألفة والاتحاد متينة بين المصريين والبنطيين منذ الأزمنة القديمة، وهذه قضية تؤيدها الكتابات المصرية القديمة العهد، فان ما دون في بطون الأسفار عن حسن الجوار بين هاتين المملكتين يخالف ما جاء مسطوراً على الحجر من عبارات النفور والكراهية الموجهة إلى سائر الأمم المجاورة لمصر كالحيثيين والليبيين والزنوج وغيرهم؛ فأن المصريين كانوا يلقبونهم بالبرابرة، والوحوش الضارية، والأوغاد والأنذال، وهذه شهادة ناطقة ثبت ما كان للعرب القدماء من الشهامة وعزت النفس وإغاثة الملهوفين.

وقد جاء منقوراً في بعض الآثار أن طائفة من السفن التجارية أبحرت إلى ديار البنط في عصر الملكة العظيمة (هتسو) وهي إحدى ملكات الدولة التاسعة عشرة، وكانت الغاية من تلك السفرة مبادلة البضائع بين القطرين دلالة على الولاء والصفاء. وعادت تلك السفن إلى مصر مشحونة بالسلع النفيسة، حتى أن ملك تلك الديار وزوجه رافقا ذلك الأسطول التجاري، وحملا معهما هدايا لا نظير لها إلى فرعون مصر. ويظهر أن محالفة تجارية كانت معقودة بين البلادين، وأن سفن هاتين الدولتين تمخر في البحر الأحمر وفي سواحل أفريقية منذ القدم.

أن رسوم رؤساء البنط الطبيعية المنقورة على الأنصاب المصرية تشبه كل الشبه الرسوم الطبقة المالكة في ديار مصر في عصورها الأولى، وجميع الأدلة تحملنا على الاعتقاد أن وطن الساميين الأول كان في الجنوب الغربي من آسيا. وقد ذهب جماعة من المؤرخين إلى أن جزيرة العرب كانت مهد الأقوام السامية قبل عصر التاريخ، فأن الباحث يرى أثارهم ظاهرة في كل صقع كشعب مهاجر أو فاتح أو غاز سكان بلاد أخرى أقدم منهم عهداً ويختلفون عنهم في اللسان والعادات والعنصر؛ غير أن الأمر لم يكن كذلك في بلاد العرب، فأن أهاليها كانوا أصليين فيها. فإذا أخذنا مثلاً ديار الكلدان والآشوريين نراها تمثل أقواماً وشعوباً وأمماً جاء عنهم في الأسانيد القديمة وفي الروايات المأثورة أنهم كانوا قد وفدوا على بين النهرين من الجنوب عن طريق خليج فارس، وعلى طريق بادية الشام من بلاد العرب، فأخذ هؤلاء النازحون شيئاً فشيئاً يتحدون بالشعب الشمري والأكدي بالمصاهرة؛ وبعد مرور أجيال عديدة تغلب العنصر السامي العربي على سائر العناصر، وأصبح سيد هذه الديار، وأسس حضارة جديدة في عصر

حمورابي ملك بابل العظيم الممدود أول من جمع وسن الشرائع في العالم القديم. بيد أن العنصر السامي لم يؤثر في حضارة المصريين القدماء، لأن الساميين لم يحتلوا بلادهم احتلالاً طويلاً، بل كانوا يحملون عليهم حملات متواصلة؛ وقبل أن ترسخ أقدامهم في تلك الربوع كانوا يردون على أعقابهم مدحورين. أما في سورية وفلسطين فكان الفينيقيون والكنعانيون والعبريون، وهؤلاء الأقوام لم يكونوا بالسكان الأولين، لأنهم حينما احتلوا هذه البقاع وجدوا فيها عناصر أخرى كل كالأموريين والحيثيين واليبوسيين، وأصل هذه الشعوب يرجع إلى السكان الأصليين المنتمين إلى طائفة من القبائل المنقرضة المعروفة في التاريخ القديم باسم زاموميم، ومن هؤلاء من وفد إلى هذه الديار من خليج فارس ومنهم من تخوم بلاد العرب. يجد المنقب في بلاد العرب العنصر السامي سائداً منذ الأزمنة القديمة، ولا يجد له أثراً في صقع آخر في ذلك العهد العهيد، فقد انتشرت لغته وسارت عاداته وعمت الديار المجاورة لبلاده، ثم تدرجت حضارته السابقة لمملكة المعينيين العريقة في القدم وذلك في أواخر العصر الحجري وأوائل عصر النحاس. وهنا يشاهد الباحث العصريين مشتبكين متلازمين؛ فقد أنتقل القناصون والسماكون من عصر الانحطاط إلى عصر التجدد، فبلغوا مستوى ثقافة حديثة وحياة اجتماعية عالية، إذ أصبحوا فلاحين وزارعين ورعاة غنم وتجاراً وصناعاً.

لنرجع من تلك الحضارة القديمة ولنعد النظر في اكتشاف الكتابة المعينية التي تدلنا على وجود حروف هجائية أقدم عهداً من الحروف الفينيقية التي اشتهرت في العالم القيم بأنها الحروف الأولى التي استنبطت لغاية تدوين الأفكار وصيانتها من الاندثار والطموس. وقد أجمع أهل التحقيق والتدقيق على أن حروف الهجاء اليونانية والرومانية وسائر حروف هجاء الأمم الحديثة مقتبسة كلها أما رأساً أو بوسيلة من الوسائل من مخترعيها الفينيقيين، غير أن كتابة المعينيين كشفت اللثام عن صور كتابة أقدم عهداً من جميع الكتابات التي ظهرت وانتشرت في ذلك الحين، ومن ثم فقد ذهب بعض العلماء الواقفين على أصل اللغة وتركيبها وتاريخها إلى أن الحروف الفينيقية مشتقة من الحروف المعينية.

لا شك في أن اللغة المعينية وحروفها أقدم عهداً بكثير من لغة الساميين وكتاباتهم، ومن المحتمل أن العناصر السامية اختارت تلك الحروف بعد أن عدلتها وهذبتها حسب طبيعتها وميلها. وكان للمقتبسين علاقات تجارية ومواصلات بريدية مستمرة تحمل على ظهور الجمال فتخترق القوافل صحاري بلاد العرب وتعود حاملة لبانها وطيوبها وأفاويهها وآدابها ومعارفها، ولا يعقل أن تلك الأقوام استمرت جاهلة استعمال حروف الهجاء حتى اقتبستها فينيقية من مصر ونشرتها في أطراف المعمور. وقد أيد الأستاذ سايس هذا الرأي بقوله (أنه إذا ذهبنا إلى أن مصدر الحروف ومنشأها كان في بلاد العرب يكون أحسن حل لهذه المعضلة) لأن أسماء صور الحروف الفينيقية ليس فيها أدنى شبه في كثير من الأحوال للرموز والإشارات التي تدل عليها، فأن تناولنا - مثلاً - الحرف الأول وهو ألف (ثور) فأن رسم الألف يشابه كل المشابهة رأس ذلك الحيوان في الكتابة المعينيية، هذا وإن أمعنا النظر في الحروف الهيروغليفية وهي الحروف المصرية القديمة فلا نجد شبهاً لذلك الحرف.

أن المكتشفات واللقي المقبلة في بلاد العرب ستوقفنا على أنباء الشعوب التي سكنت تلك الأصقاع ومصرتها قبل عصر التاريخ، فقد كانت بلاد الكنعانيين متحضرة قبل حملة الإسرائيليين عليها وتدويخها، وكان لهم حروف هجاء وآداب خاصة بهم تعد أقدم عهداً من الكتابة الفينيقية وآدابها. وهذا التنقيب في ديار العرب وفلسطين سيكشف النقاب عن وقائع وأنباء لا تزال مطمورة في أنقاض المدن القديمة التي تضارع بل ربما تفوق في قدمها بلاد مصر والكلدان، وهي تنتظر بفروغ صبر معاول المنقبين لتنبشها من مدافنها وتنشرها في عالم الظهور لكي ترى نور الشمس الساطعة، بعد أن احتجبت عنها قروناً عديدة.

بغداد

رزوق عيسى