مجلة الرسالة/العدد 75/عقوبة الإعدام

مجلة الرسالة/العدد 75/عقوبة الإعدام

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 12 - 1934



رأي الفريد روكو وزير حقانية إيطاليا

للأستاذ محمود خيرت

في سنة 1851 ساق بعض الحراس الفرنسيين شاباً في العقد الثالث من عمره إلى المقصلة تنفيذاً للحكم الصادر عليه. وما كاد يقترب منها وتقع عليها عيناه حتى اضطرب وجن، فوقف وكأنه تسمر في الأرض، وأخذ الحراس يدفعونه إليها دفعاً، وهو يقاومهم مقاومة الجبار اليائس، وكان وافر الجسم مفتول الساعدين قوي العضلات.

وكان الناس من حولهم ينظرون إلى هذا الصراع بين قوتين غير متعادلتين تريد إحداهما للأخرى الموت، وتريد هذه لنفسها الحياة. حتى إذا مضت على ذلك نحو ساعة والحراس كلما تقدموا به نحو المقصلة خطوة رجع هو بهم إلى الوراء خطوتين، خارت قواهم ولم يجدوا خيراً من أن يعودوا أدراجهم به، والناس يظنون أن الأمر وقف عند هذا الحد، وكأن كابوساً أرتفع عن صدورهم بعد ما رأوه من هول الموقف، وما كان إلا صراعاً عنيفاً بين حياة وموت. ولكن الجنود عادوا به في المساء بعد أن ضاعفوا عددهم، وبعد أن أحكموا وثاقه حيث نفذوا الحكم فيه. وكان من بين من حضروا هذا المشهد المثير شارل هوجو، وكان من أنصار إلغاء عقوبة الإعدام، فوصف ما رآه وأفاض في شناعته في جريدة الحادث ولكن النائب العام وجه إليه هو ومدير الجريدة تهمة تعمد احتقار القانون.

أما شارل فقد كان الذي تولى الدفاع عنه أبوه فكتور هوجو الكاتب الكبير، وإذا ذكرنا فكتور هوجو فقد ذكرنا قوة الجنان، وسحر البيان، وذلاقة اللسان، ولا سيما أنه إنما كان يدافع عن ولده وفلذة كبده، حتى أنه قال في بعض ما تناول دفاعه: (أنا المجرم دون ولدي، لأني أنا الذي وقفته هذا الموقف، وكنت من خمس وعشرين سنة لا آلو جهداً في محاربة عقوبة الإعدام. وقد عز علي أن لا أكون نصيراً للحياة البشرية أطلب احترامها والإبقاء عليها، منادياً ذلك في كل وقت وعند كل مقام بأعلى صوتي وبملء فمي، لأن عقوبة الإعدام بقية من بقايا الدم بالدم شريعة الوحشية الأولى).

وقد كان هناك غير فكتور هوجو كثيرون من أنصار هذه العقيدة، وأكبر حججهم في شناعة هذه العقوبة إن إعدام المجرمين فوق أنه مناف لقواعد الرحمة، وأن العقوبة يجب أن يراعي فيها الإصلاح لا الانتقام، فان منظره يقسي قلوب الناس، ويبذر فيها بذور الغلظة والتوحش. ولكن كيف نسى هؤلاء المفكرون أن الثورة الفرنسية نفسها التي قررت حقوق الإنسان، والتي يشيد بذكرها فكتور هوجو وغيره لم تقم إلا على الدم، وكيف يريدون أن تشمل السفاكين رحمة القانون وقد وطئوا بأقدامهم هذه الرحمة وهم يقتلون. ألا أن شريعة الدم بالدم، لم تكن أثراً من آثار الوحشية الأولى، وإنما كانت سبباً شريفاً من أسباب العدل، وأثراً محموداً من آثار الرحمة لا بالمجرمين ولكن بالناس أجمعين. إن طبيعة الحياة نفسها تقضي ببتر العضو الفاسد من الجسد حتى لا يتعدى فساده إليه، فكيف نقبل هذا في الجسم الواحد ولا نقبله في جسم المجتمع كله، بل أن قواعد الفهم تربأ بنا أن نسلم إفلات المجرم من حكم القانون لا يشجعه على السير في شروره وقد استمر أطعم العدوان وأمن غوائل العقوبة.

وعلى كل حال فأن عقوبة الإعدام برغم محاولة هؤلاء الأنصار لا تزال قائمة، مع أنها أبطلت في فرنسا مرة، وفي إيطاليا بعدها مرة أخرى. (ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم. . . ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب). ومع ذلك فهذا رأي المسيو الأفريد روكو بصدد هذا البحث، وحسبنا أنه من أئمة التشريع في إيطاليا، وهو وزير حقانيتها قال: (لما أن كانت إيطاليا من أندر الدول التي ألغيت عقوبة الإعدام سألني كثيرون عما إذا كان إلغاؤها عاد بالفائدة على مجتمعنا؟ وقبل أن أخوض في الرد على السائلين أسجل هذا الحادث الغريب، وهو أننا أخذنا هذا التشريع عن الفرنسيين برغم أنهم بعد أن جربوه عدلوا عنه للنتائج الخطيرة التي ترتبت عليه. أخذناه عنهم على سبيل التجربة نحن أيضاً، وكان ذلك في عهد لم يكن يخطر ببالنا قيام نظام الفاشستية فيما بعد، وعلى كل حال فأن هذا الإصلاح الذي فكر الشارع الإيطالي في إدخاله على قوانيننا الجنائية لم يجرنا إلى الفشل الذي أصاب جيراننا من إدخاله على قوانينهم.

ولكن يلاحظ أن هبوط نسبة الجرائم بعد هذا التعديل لا يمكن في الواقع إرجاعه إلى مجرد إلغاء هذه العقوبة ونحن نرى انخفاضها في كثير من البلدان التي جرت قوانينها على إعدام القتلة. على أننا مع ذلك غير آسفين لسن تشريع كهذا هو مما لا شك فيه اتجاه محمود نحو الرفق بالإنسانية. بل أن أنصاره عندنا لم يحذوا حذو روبسبيير الذي أرسل كما نعلم آلاف الأبرياء إلى المقصلة، وهو الذي كان يشيد بذكره ويعتبر بقاء عقوبة الإعدام ضرباً من ضروب الوحشية.

وقد دل إحصاء عدد الجرائم التي كانت تستوجب هذه العقوبة بعد الحرب الكبرى على اطراد في هبوط النسبة التي أشرنا إليها، فأن عدد حوادث القتل من سنة 1919 إلى 1920 ينيف إلى ستة آلاف حادثة، ولكن هذا العدد هبط في السنة الأخيرة إلى أكثر بقليل من ألفين، إلا أن جزءاً كبيراً من هذا العدد الأخير يتعلق بالجرائم التي لا يمكن لأية عقوبة مهما كانت من الشدة أن تحول دون وقوعها كالجرائم التي أساسها الشهوات الثائرة وما يترتب عليها كما يسميها الفرنسيون، لأنها بطبيعتها لا مناص من وقوعها؛ فالرجال والنساء إذا لدغتهم الغيرة أو خدعوا في حب وجدوا كل شيء تقع عيونهم عليه مصبوغاً بالدم، فلا يلبثون أن يندفعوا إلى الأثم مهما وقفت بينه وبينهم كل عقوبات الدنيا، حتى أن محلّفي محاكم البلدان اللاتينية أصبحوا على اعتقاد ثابت بأن هذه الجرائم لا يمكن تجنبها؛ ولذلك فهم يقضون في الغالب لبراءة من يساقون إلى ارتكابها. على أنني كنت أميل إلى هذا الاتجاه - لأن هذه الجرائم لا تخلو دائماً من ظروف مخففة تحيط بها - إلا أنني أرى أن تعليل هذه الأحكام دائماً باضطراب الحواس عند ارتكابها فيه كثير من التطرف. ذلك لأن لكل عقوبة بشرية دائماً وجهين يجب ملاحظتها فإذا ما نظرنا إلى الجريمة من حيث الفرد الذي أقدم عليها في ذاته كان ما ذهب إليه لمبروزو من عدم قيام المسؤولية الجنائية بسبب ما يحيط به مقبولاً، لأنه وإن كان حراً فيما فعل إلا أنه ما كان في مقدوره أن يفلت من تأثير الأسباب الباطنة الراسخة فيه. وفي هذا الموقف يجب اعتبار العقوبة كوسيلة من وسائل إصلاحه لا كعقوبة يراعى أن يتساوى أثرها مع أثر الجرم الذي أقدم عليه. وفي الواقع كيف يسوغ لك أن تعدم شخصاً كان في جرم تحت سلطان قانون الوراثة، أو تأثير البيئة، أو كانت نفسه فقيرة من أسباب التهذيب والتربية، بغير أن تكون قاسياً عليه بعيداً عن إنصافه؟

أما إذا اعتبرناه عضواً في جسم المجتمع الذي يعيش فيه، فمؤاخذته على هذا الاعتبار يجب أن يكون لها صفة العقوبة التي يستحقها وأن كانت صارمة.

وإذا سألتني الآن رأيي في ضرورة عقوبة الإعدام، أجبتك بأنها يمكن أن تكون كذلك في أغلب الأحوال. بل إنني لأعلم أن كثيراً من الجرائم الوحشية التي تستحق الإعدام كان يمكن ألا تقع لو أن هذه العقوبة الشديدة قائمة كالجرائم التي تقع من الفوضويين.

وقد ذكرني هذا البحث بحادثة ضمنها القصصي الفرنسي جول فيرن في أحد كتبه تتلخص في أن بعض المهاجرين كادوا يغرقون على مقربة من إحدى جزر المحيط الهادي، ولم يكن على ظهرها غير فيلسوف فوضوي نفر من العالم وفر منه إليها. فلما أقبلوا عليه أكرمهم ودعاهم إلى اعتناق مذهبه. ولكن أسباب الحياة تغيرت بعد قليل ودب الخلاف فيما بينهم، فلم ير لنشر السلام بينهم إلا أن يفرض عليهم إرادته فرضاً فكان مثله فيهم كمثل الحاكم المستبد (ديكتاتور). وهذه الغاية لا تبعد عن نظريتي في العقوبة كثيراً، فالأحكام التي يقررها قانوننا الجنائي أشبه بهذا الحاكم، بغيرها لا يكون هناك أمن على الحياة، وإنما تكون الفوضى. .)

محمود خيرت

بقلم قضايا المالية