مجلة الرسالة/العدد 75/مقتل شاعر

مجلة الرسالة/العدد 75/مقتل شاعر

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 12 - 1934



للأستاذ علي الطنطاوي

أفاق (هُدْبَة بن خَشْرَمَ) وما يدري أصبح أم مساء، وما يعلم من أمر الحياة شيئاً. . ولقد غبر عليه سبعة أعوام ما رأى فيها وضح النهار، ولا اجتلى صفحة السماء. كأنما هو نصف حي، وكأن حياته (مختصر حياة). . فالسنوات السبع بنعيمها وبؤسها، وليلها ونهارها، ليلة واحدة، طالت وامتدت، ثم لا يكون صبحها إلا الموت. . والدنيا على ربحها وسعتها، وجمالها وجلالها، غرفة ضيقة فيها أكثر معاني القبر. . . وما بعدها إلا القبر!

ونظر يميناً، ونظر شمالاً، وجعل ينفض المكان بعينه، فلا يبصر إلا الظلام، وحاول النهوض فجذبته إلى الأرض سلاسل غليظة، شدوه بها إلى حلقةٍ متينة. . .

سمع صَلصَلة الحديد في عنقه ويديه، فعاد إلى نفسه يذكر ما كان من أمره، ويستعيد قصته كلها، ويرى كيف. . . دخلت عليه أخته فاطمة، وبيدها المِجْمَر، فقال لها:

- ويحك ما هذا؟

- هذا لك! قم أستجمر، إنما أنت من النساء

- وما ذاك لا أمّ لك؟

- فقالت: أنت قابع في كسر الخيمة كما تقبع العجوز، وهذا زيادة يتغزل في أختك، ويرسل فيها الشعر يفضحها به في العرب

- ماذا؟ زيادة؟

- زيادة! نعم. زيادة يهتك نسائك، ويفري عرضك. . .

فوثب هُدبة يقول: زيادة يهتك نسائي ويفري عرضي؟. . والله لأجأنَّه بهذا السيف. فقامت إليه تعنفه وتلومه:

- والله ما علمت أنكمجنون إلا الساعة! أتعمد إلى ابن عمك فتقتله، فتحقق ما قاله فيّ، وتنصرف بسبّة الدهر؟ قلْ في أخته (أم قاسم) مثل ما قال الخبيث في أختك، فإذا بدأك بالشر، جزيته به شراً

- إذاً لأجعلنها والله أحدوثة الأبد

- شأنك بها يومئذ. . .

وكان ما ظنت فاطمة قبيّت زيادة هدبه وأهل بيته، وهم عنه غافلون، فضرب هدبه على ساعده، وشج أباه خرشماً. وانصرف يقول:

شججنا خرشماً في الرأس عشراً ... ووقفنا هديبةً إذ أتانا

فثارت ثائرة هدبة، فتقلد سيفه وأنصرف لا يلوى على شيء، حتى وجد زيادة فجلله به فقتله. ولما سكت عنه الغضب، ورأى انه قتل رجلاً مسلماً ندم وجعل يلوم نفسه ويقرعها:

- ويل لي! ماذا صنعت اعتمدت إلى أبن عمي فقتلته، ومن قتل نفساً مؤمنة فكأنما قتل الناس جميعاً. فعلتها من أجل هفوة لا تقدم ولا تؤخر: يا نفسُ ما أضلك وأشقاك! ألم يردعك دين؟ ألم يحجزك إيمان؟ ألم تُنَهْنِه من عزمك جهنم؟ ماذا تقولين لربك غداً؟ وانطلق يقول لها هذا وشبهه حتى طلع الفجر. . .

وكان الغد، فإذا عبد الرحمن (أخو زيادة) عند أمير المدينة سعيد بن العاص يشكو إليه قتل أخيه. وأحضر سعيد هُدبَة، فلم ينكر ولم يكذب. . . وكره سعيد أن يقتل هدبة، وهو الشاعر المتقدم، لسان بادية الحجاز، وهو أخو ثلاثة كلهم شاعر: حوط وسيحان والواسع. . . وهو الفارس الكريم المحبوب. . ولم يكن يستطيع أن يعفو أو يغير حكم الله. فبعث بهما سعيد إلى (معاوية)

وكان معاوية ظنيناً بهذا الشاعر أن يعرضه على القتل، ولكن حكم الله فوق هوى أمير المؤمنين. . . فلما مثلا بين يديه، قال عبد الرحمن:

- أشكو إليك يا أمير المؤمنين مظلمتي، وقتلي أخي، وترويع نسوتي!

فقال معاوية:

- يا هُدبَة! قُلْ

- فقال هدبة (مرتجلاً):

ألا يا لقومي للنوائب والدهر ... وللمرء يردي نفسه وهو لا يدري

وللأرض كم من صالح قد ... تلمأت عليه فوارته بلماعة قفر

فلا تتقي ذا هيبة لجلاله ... ولا ذا ضياع هن يتركن للفقر

حتى قال:

رُمينا فرامينا فصادف رمينا ... منايا رجال في كتاب وفي قدر فلما رأينا إنما هي ضربة من ... السيف أو إغضاء عين على وتر

عمدنا إلى أمر لا يعير والدي ... خزايته ولا يُسب به قبري

وأنت أمير المؤمنين فما لنا ... ورائك من معدى ولا عنك من قصر

فان تك من أموالنا لم نضق ... بها ذراعاً، وإن صبر فنصبر للصبر

فقال معاوية:

- أراك أقررت بقتلك صاحبهم

وكره أن يقتله، وما كان له أن يعفو، ففكر ثم قال لعبد الرحمن:

- هل لزيادة ولد؟

- قال: نعم، المسور، وهو غلام صغير لم يبلغ، وأنا عمه وولي دم أبيه

- قال: أنك لا تؤمَنُ على أخذ الدية أو قتل الرجل بغير حق. والمسوّر أحق بدم أبيه، فليرد هدبة إلى المدينة، فليجلس بها حتى يرشد المسور فيكون له حكمه في القاتل

وتنبه هُدْبة وسمع مرة ثانية صَلصَلة الحديد، وأحس بدنو الساعة التي يقف فيها على شفير الهاوية فأما إلى الموت، وإما إلى حياة. فجزع واضطرب، ثم أدركه من نعمة الإيمان ما يدرك كل مؤمن حاق به الخطر، فسكن وأطمئن، وراح يهدئ نفسه ويسكنها. . . ويقول:

عسى الكرب الذي أمسيت ... فيه يكون وراءه فرج قريب

فيأمن خائف، ويفك عان ... ويأبى أهله النائي الغريب

فلما كان صباح تلك الليلة، لم يسمع في المدينة إلا نبأ واحد، يجري على كل لسان، ويلج كل أذن:

- اليوم يوم هُدبة - اليوم يسلم إلى المسوّر بن زيادة ليحكم فيه - إنه سيقتله - بل سيعفو - لن يعفو عنه - لن يقتله. . . .

وخرج الناس أرسالاً إلى الحرّة، فلم ير مثله من يوم، خلت فيه المدينة إلا من شيخ فانٍ أو امرأة عاجزة، وانتقلت بأهلها إلى الحرّة. . . .

وما هي حتى جيء بالرجل وهو مثقل بالحديد، وقد صدئ عليه وحجزه في جسمه، وبليت من دونه ثيابه. فماج الناس وإزدحموا بالمناكب، واشرأبت الأعناق، وارتاع النساء وأجفلن وعرتهن رعدة. . . ثم قاضت منهم العيون شفقة ورحمة ثم انتهى به إلى الحرة، وقد جلس فيها الأمير سعيد بن العاص ووجهاء المدينة، وأقيم المسوّر ليقول كلمته. وقام إليه رسول معاوية فعرض عليه عشر ديات من خالص مال أمير المؤمنين، فأباها، فعرض عليه سعيد ووجهاء المدينة أضعافها فأبى إلا قتل هُدبة. . .

فاصفرت وجوه الناس، وودوا لو حالوا بالقوة بين هُدبة وبين القتل، ولكن حجزهم احترام الحق، ومنعتهم هيبة الدين فلبثوا صامتين كأن على رؤوسهم الطير، ونظروا إلى هُدبة. فرفع رأسه وأنشد بصوت شجي رائع:

ألا عللاني قبل نوح النوائح ... وقبل ارتقاء النفس فوق الجوانح

وقبل غد يا لهف قلبي من غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح

إذا راح أصحابي تفيض نفسي ... وغودرت في لحدٍ على صفائحي

يقولون هل أصلحتم لأخيكم وما ... القبر في الأرض الفضاء بصالح

فضج النسوة بالبكاء، وماج الناس، فأشار إليهم فأسكتهم، وخاطب امرأته وكانت من أجمل النساء وكان أجدع:

أقلّي على اللوم يا أم بوزعا ... ولا تجزعي مما أصاب فأوجعا

ولا تنكحي أن فرّق الدهر بيننا ... أغمم القفا والوجه ليس بأنزعا

ضروباً بلحييه على عظم زوره ... إذا الناس هشوا للفعال تقنعاً

وحلى بذي أكرومة وحمية ... وصبر إذا ما الدهر عضّ فأسرعا

وعَرَى الناس صمت عميق، وأقبلوا ينظرون بماذا تجيب هذه المرأة: أتفي وهي الشابة الجميلة الفاتنة لرجل أجدع هو الساعة ميت، وتقيم علي عهده، وتحرم على نفسها من أجله الرجال، أم هي تعده وتمنيه، حتى إذا مات انطلقت فتزوجت؟ وجعلوا يتهامسون، ويتقولون. . .

أما هي، فلم يكن منها إلا أن مالت إلى رجل، فسألته شيئاً، ثم أرسلت ملحفتها على وجهها هُنية، ثم عادت فإذا. . . فإذا هي قد جدعت أنفها، وقطعت شفتيها. . .

وقالت: يا هُدبة! أتراني متزوجة بعد ما ترى؟. . فقال: لا، الآن طاب الموت، ثم أستأذن في ركعتين فصلاهما وخفف، ثم التفت إلى من حضر، وقال: والله لولا أن يظن بي الجزع لأطلتها، فقد كنت محتاجاً إلى إطالتهما ثم تقدم من المسوّر وقال: أثبت قدميك، وأجد الضربة، فإني قد أيتمتك صغيراً وأرملت أمك شابة. . .

علي الطنطاوي