مجلة الرسالة/العدد 750/بحث في الكولرا

مجلة الرسالة/العدد 750/بحث في الكولرا

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 11 - 1947



للدكتور فضل أبو بكر

هي داء عضال وشر مستطير، وإحدى ما يسمونه في الزمان الغابر بالأوبئة الثلاثة: الطاعون، والحمى الصفراء، والكولرا، وهي حقاً ثالثة الأثافي لشدة وطأتها ولما تزهقه من أرواح وقد لقبها الغربيون بالوباء الأسيوي نسبة لوجودها في بعض المدن والبلاد الأسيوية كالهند ولا سيما مقاطعة الهندستان والبنغال.

تاريخها:

الهند - كما ذكرنا - وطنها الأول إذ توجد فيها بحالة مستوطنة كامنة وذلك منذ أجيال سحيقة كما جاء ذكرها في المراجع الهندية القديمة المكتوبة باللغة السنسكريتية لغة قدماء الهنود.

هذا ولما كان البرتغاليون من أسبق الأوربيين في فن الملاحة والأسفار كان أطباؤهم ايضاً أول من عني بدراسة الكولرا ووصفها نذكر منهم (جاسبار) و (جوريا) و (جارسيا دي هورتا) سنة 1543.

فتك هذا المرض - في القرن الثامن عشر - فتكاً ذريعاً بالجيوش الفرنسية والإنجليزية. غير أنه لم ينتشر بحالة وبائية إلا في أوائل القرن التاسع عشر. وقسموا هذه الأوبئة - على وجه التقريب - إلى سبعة أقسام بالنسبة إلى تاريخ حدوثها وهي كما يأتي:

الوباء الأول:

من سنة 1817 إلى 1823 بدأ في الزنجبار وجزيرة موريس والهند الصينية الفرنسية والصين واليابان وبلاد الفرس وبغداد.

الوباء الثاني:

من سنة 1826 إلى سنة 1837 أنتقل من الهند إلى الأفغانستان وتركستان وبلاد العجم كما وصل إلى روسيا وبلغاريا ومن ثم إلى بولندا وبروسيا الشرقية، وأمتد لهبة إلى أوربا الوسطى ولم تنج منه أمريكا الشمالية والمكسيك.

الوباء الثالث:

من سنة 1846 إلى سنة 1851 وقد ظل محصوراً في البلاد الأسيوية وشمال أفريقيا ومنه إلى البلجيك وهولندا والسويد والنرويج ثم عرج على اليونان وشمل على وجه الأجمال كل أوربا ووصل إلى شمال أمريكا.

الوباء الرابع:

من سنة 1863 إلى سنة 1876 منيت به أسيا الصغرى وبعض مدن أوربا كما أعلن ظهوره في الأرجنتين وفي عام 1866 كان بالسنغال وأواسط أفريقيا والحبشة.

الوباء الخامس:

سنة 1883 اصيبت به مصر، وفي أثناء هذا الوباء أحرز العلم نصراً كبيراً على يد خدن من أخدانه وأكبر ركن من أركانه هو العالم الألماني الكبير (روبرت كوخ) مكتشف مكروب السل المعروف باسمه. أكتشف كوخ مكروب الكولرا لأول مرة في مصر، وذهب إلى الهند بعد عام واحد، وقصد مدينة كلكتا وأثبت للمرة الثانية حقيقة المكروب إثباتاُ قاطعاُ.

وصل الوباء بعد ذلك إلى جنوب أفريقيا وتمادى إلى أسبانيا وإيطاليا وسواحل البحر الأدرياتيكي.

الوباء السادس:

من سنة 1892 إلى سنة 1896 نشب في الهند وأمتد لظاه إلى روسيا وألمانيا وإنجلترا وفرنسا وهولندا وبلجيكا.

الوباء السابع:

بدأ سنة 1900، وبعد عام من نشوبه عم جميع بلاد الشرق الأقصى وأمتد إلى أسيا الصغرى كما منيت به مصر وروسيا وتركيا وإيطاليا وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى ظهر من جديد في روسيا ودام بها بضع سنوات ومات بسببه نحو 207389 من السكان.

أثر المواصلات في انتشار الوباء:

إن المواصلات على أختلاف أنواعها من برية وبحرية وجوية كانت وما زالت ضمن العوامل المساعدة على انتشار الوباء. لهذا كانت الرقابة الصحية على اشدها على الحدود والمرافئ والمطارات حيث المحاجر الصحية، وتكون الرقابة عليها صارمة عنيفة وقت نشوب الأوبئة في بقعة من السكرة الأرضية. فقد ارتبطت أجزاء العالم المترامية وقربت المسافات بفضل هذه المواصلات.

فالطريق البري مثلا ينقسم إلى قسمين: احدهما شمالي ينتقل بواسطته المرض من جهات الهند والصين إلى روسيا بواسطة بحر قزوين ونهر الفلجا ومن روسيا إلى بلاد البلقان وربما كل أوربا.

والطريق الآخر جنوبي بواسطة السهل الواقع بين صحراء سوريا وإيران والذي يرويه نهر دجلة والفرات، ومن هذا السهل تنتقل العدوى إلى مكة وربما يأتي بها الحجاج إلى مصر وشمال أفريقيا.

والطريق البحري يساعد على نشر الداء من كلكتا إلى الهند الصينية الفرنسية والصين وميناء سنجابور، والطريق الآخر من بومباي إلى الخليج الفارسي واسيا الصغرى وسوريا وتركيا.

طرق الإصابة وانتشار العدوى:

أهم ناشر للعدوى هو الإنسان نفسه؛ ونقصد به المريض في طور الإصابة بل والناقة من المرض كذلك ما يسمونه: (بحامل المكروب) وهذا الأخير ليس بمريض في حد نفسه إذ لا يتأثر بالمرض ولا تظهر عليه عوارضه ولكنه جسمه يأوى جرثومة المرض ويضيفها تشهد عليه بذلك إفرازاته من برازية وبولية وأحياناً العصارة الصفراوية كل هذه المواد والسوائل تحوي بعض المكروبات ومن هنا كان خطر هؤلاء الحملة كبيراً على السكان.

المياه ونقل العدوى:

تلعب المياه دوراً خطيراً في هذا الصدد ونقصد بها الموارد العذبة من أنهار وآبار وينابيع المستعملة في الشرب والغسل والطبخ وغير ذلك من الحوائج المنزلية سيما إذا استعملت بحالتها الطبيعية من غير تعقيم ولا تطهير.

تلوث تلك المياه بما يصل اليها من إفرازات المريض أو غسل ملابسه أو ما يستعمل له من أوان أو غيرها وكذلك الأمطار وقت هطولها قد تجرف بعض المكروبات وتفضي بها إلى الموارد المذكورة.

الحيوانات ونقل العدوى:

أهم هذه الحيوانات الحشرات , اهمها الذباب الذي يهبط ويحط رحاله على إفرازات المريض يتغذى منها ثم ينقلها إلى الأطعمة والمواد الغذائية كذلك نوع خاص من النحل كما أدينت بعض الاسماك والقواقع المائية.

بواسطة المواد الغذائية:

إن المواد الغذائية على أختلاف أنواعها قابلة للتلوث بمكروب الكولرا وذلك بسهولة وبشتى الطرق عن طريق الذباب مثلا أو غسلها وتحضيرها بماء ملوث أو التي يقوم بطبخها بعض المصابين أو الناقهين أو (حاملي المكروب)، وقد شوهد أن المكروب يمكنه أن يعيش على اللحوم مدة ثمانية أيام وعلى الخبز سبعة أيام وعلى الكسر والملح نحو ثلاثين ساعة وعلى الخيار والطماطم نحو ثلاثة أيام وعلى البطيخ نحو ثمانية أيام. أما اللبن فقد يكون أقل تعرضاً للإصابة من غيره وذلك لأنه قابل للحموضة والتخمير ومكروب الكولرا تؤذيه البيئة الحمضية وتؤدي به إذ أرتفع منسوبها.

الانتشار بواسطة الأشياء:

أي جميع الأشياء التي تلامس المريض عن طريق مباشر أو غير مباشر وأهم هذه الأشياء الملابس، وقد وجد الطبيب (سمطن) سنة 1821 أن مريضة ماتت من مرض الكولرا وكانت ترتدي قناعاً وقت مرضها وقد أحتفظت أبنتها بذلك القناع كتذكار وحفظته في مكان وبعض مصي عشرة أشهر على ذلك ظنت الأبنة أنه ليس هناك خطر أو بأس من أرتداء القناع وقد أصيبت بالمرض على أثر الارتداء من هنا نعلم خطر الملابس الشديد.

الأعمار وأثرها في الإصابة:

دلت التجارب على إن السن لها دخل في الإصابة فالطفل الصغير في طور الرضاعة لا يصاب بالمرض ولا تظهر عليه عوارضه حتى ولو كانت أمه أو مرضعته مصابة بالداء ولكنه قد يصير من جراء تعرضه من (حملة الميكروب).

كما أن الأطفال أقل قابلية من البالغين والكهول والشيوخ أقل من الكهول ولكن أصابتهم تكون في الغالب أخطر على حياتهم من غيرهم وذلك لضعف أجسامهم وعجزها عن المقاومة.

عوارض المرض:

هناك فترة قصيرة بين إصابة الجسم بالمكروب وظهور أول العوارض وهي ما تسمى بال تتراوح بين ثلاث ساعات إلى خمس وقد تمتد إلى خمسة أيام، وإن كان متوسطها لا يعدو يومين، وقد وضع القانون الدولي للمحاجر الصحية حداً لتلك المدة وقدرها بخمسة أيام تتخذ في أثنائها جميع الاحتياطات اللازمة.

الطور الأول:

يبدأ المرض باسهال شديد مسبوق بأوجاع مؤلمة على طول أمعاء القولون نتيجة لالتهابه ويشعر المريض بتعب وفتور عام ويكون لون المواد البرازية مخضراً أو رمادياً.

الطور الثاني:

يبدأ غالباً في الهزيع الثاني من الليل معلناً ظهوره بألم شديد في أعلى البطن وأسفل الصدر مع شعور المريض بالبرد الشديد ولا سيما في الأطراف التي تهبط حرارتها ويشعر المريض بضيق في التنفس وبشي من الاختناق لذلك يلهث ويكثر تنفسه ويسرع نبضه ودقات قلبه التي تضعف ضرباتها في نفس الوقت. أما الإسهال فتشتد وطأته وقد تبلغ كمية المواد نحو ست لترات وهي عبارة عن سائل مبيض أشبه بشربة الأرز من حيث اللون والشكل ويفقد رائحته المألوفة كذلك يتقايأ المريض وقد يبلغ كمية القيء مبلغ البراز. أما البول فيندر وتقل كميته ويصبح التبول عسيراً ومصحوباً بالأم شديدة.

الطور الثالث:

تشتد فيه العوارض المذكورة ويزداد حرج المريض وكربه ويقل البول بل ينعدم إفرازه ويشعر المريض بالاختناق وبالبرد الشديد كما يهبط ضغط الدم ويهزل الجسم وتغور العينان ويصبح الجسم كالعود اليابس الذي جف ماؤه وزالت نضرته. وقد يلاقي المريض حتفه في هذا الطور.

أنواع المرض بالنسبة لحدته وشدة وطأته:

هنالك نوع أخف وطأة مما ذكرنا وهو أقل خطراً بالطبع كما أن هنالك أنواعاً حادة أشد بأساً مما سلف ذكره وقد تؤدي بالمريض في مدى يومين، وصنف أخر أكثر حدة وأشد خطراً من كل ما ذكر وهو أشبه بالذبحة الصدرية ويسمونه (بالكولرا الجافة) لأنه لا يكون فيه إسهال ولا قيء وهو يصيب غالباً الشيوخ وضعاف الجسم وقد يموت من جرائه المريض بعد يوم واحد أو بعد بضع ساعات.

(البقية في العدد القادم) فضل أبو بكر