مجلة الرسالة/العدد 750/حول جدل في الجامعة.

مجلة الرسالة/العدد 750/حول جدل في الجامعة.

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 11 - 1947



للأستاذ محمد أحمد خلف الله

تحت هذا العنوان كتب حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الفتاح بدوي المدرس بكلية اللغة العربية بالأزهر يقول (ولكن الذي لنا وللعلماء خاصة هو القيامة على الحقائق العلمية وعلى الحقائق الدينية ننفي عنهما الخبث وندافع عنهما كل من يحاول عليهما العدوان.) وأنه ما دام يملك المقال الذي كتبته في الرسالة. عدد 743 فإنه يملك باباً وسيعاً من المناقشة والحساب في مسائل علمية ودينية لها أكبر الخطر ويترتب عليها أعظم النتائج العلمية والأدبية والأجتماعية والقانونية إلى أن يحصل على أشياء أخرى غير المقال.

ومناقشة الاستاذ لهذا المقال قسمان مسائل وشتائم فلنبدأ الحديث عن المسائل:

1 - قلت من المعروف دينيا ألا نستنتج من نص قرآني أمراً لم يقصد اليه القرآن. فقال الشيخ هذه الدعوى تهجم عارم على العلم وعلى القرآن جميعاً وبين ذلك بقوله أليس القرآن الكريم كلاماً له الدلالات المنطقية الثلاث المطابقية والتضمينية والالتزامية التي لكل كلام سواء في ذلك كل أنواع الكلام.

ولا نفهم كيف يكون لكل كلام دلالات ثلاث تقصد منه مع أن عياره المتن - الذي يعرف بعلم البيان - (والإيراد المذكور لا يتأنى بالوضعية أي بالدلالة المطابقية ويتأتى بالعقلية أي التضمنية والألتزامية.)

ومعنى ذلك كما يلحظ القارئ أن الإيراد البياني بالتجويز والاستعارة والكناية. . . . الخ لا يكون إلا ببعض هذه الدلالات. ولذا لا ندري كيف حكم الشيخ بالدلالات الثلاث لكل كلام. ثم أين ما يقوله البيانيون ورجال البلاغة من حال المتكلم وحال المخاطب والقرائن العقلية وأين السياق والمقام حيث يقولون لكل مقام مقال أين كل هذا يا صاحب الفضيلة أليس كل هذا يدل على أنه لا يصح أن نستنتج من أي نص أمرا لم يقصد اليه القائل.

ثم هذه الآية نفسها التي أوردها الشيخ وهي أن أول بيت وضع للناس للذي ببكة تدل الدلالة القوية على تأصيل القاعدة التي تقول بها إن لم تكن مؤصلة وإلا فليدلني الشيخ وقد ماذا يكون موقفه من العلم حين يثبت بقرائن مادية يقول بها علماء الجيولوجيا من أن هذا البيت ليس أول بيت وضع للناس من الناحية الزمنية أيصر على موقفه أم يرجع إلى قص القرآن ويفهم ما فهمه بعض المفسرين من أن الأولية هنا ليست أولية الزمان.

ولو قرأ الشيخ المقال الافتتاحي في عدد الرسالة الذي نشر فيه مقالة وعنوانه (القرآن والنظريات العلمية) لوجد الضرورة القصوى الداعية إلى تأصيل هذا الأصل في فهم نصوص القرآن لو كان غير مؤصل في فهم عبارة كل متكلم. لكنه أصل لا نعرف أحداً يستطيع المشاحة فيه؟ ولكن؟.

2 - وقلت إن القصص القرآني من المتشابه فقال الشيخ فلسنا نعرف أحداً من الأصوليين ولا أحداً من المسلمين يعتبر القصص القرآني متشابهاً. . كما يقول في موطن آخر فالأستاذ الأمام لم يقل إن القصص من المتشابه ولم يقل بذلك مسلم قبله أو بعده. .

ونبدأ مع الشيخ بالعموم الجريء في قوله إنه لا يعرف أحداً من المسلمين يعتبر القصص القرآني متشابهاً ونضع بين يديه ما في التفسير الكبير المسمى بالبحر المحيط لأبي حيان ج 2ص 381 طبعة السعادة سنة 1328 هـ ونصه [وقال مقاتل المحكمات خمسمائة آية. . . الخ والمتشابه القصص والأمثال. وقال يحيى بن يعمر المحكم الفرائض والوعد والوعيد والمتشابه القصص والأمثال.]

ثم نضع قول الطبري في جامع البيان في تفسير القرآن ج3 ص107 المطبعة اليمنية ونصه [والمتشابه هو ما اشتبهت الألفاظ واختلاف المعاني وقصة باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني.]

ثم نضع قول الطبري في كتابه مجمع البيان في تفسير القرآن ج1 طبع صيداً ص 409 ونصه [

والمتشابه ما تكرر ألفاظه كقصة موسى وغير ذلك عن أبن زيد]. وهذا الرأي هو الذي نقله الأستاذ الإمام في تفسير المنار حيث لم يكتف بما نقله الرازي من أقواله في المتشابه (أنظر المنار ج3 ص165) ولا نطيل بنقله ولعل في هؤلاء واحداً يكون من المسلمين عند الشيخ؟

فإذا انتقلنا إلى الخاص وهو الأصوليين أحلنا الشيخ على إيراد الآمدي لهذا الرأي في كتابه الأحكام ج1 ص238 طبعة المعارف ومناقشته له.

كما نضع بين يديه عبارة الشوكاني في كتابه إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ص28 ونصها (ومثل المحكم الفرائض والوعد والوعيد والمتشابه القصص والأمثال).

فهل لم يعرف الشيخ واحداً من هؤلاء جميعاً؟.

3 - وقلت إن من المفسرين من لا يلتزم أن كل ما ورد في القصص القرآني من أحداث قد وقع بل بعضه أحداث غير واقعة فقال الشيخ:

ولا نعرف أحداً من الأصوليين ولا من المسلمين لا يقول بأن ما ورد في القرآن من القصص إنما هو أحداث وقعت وحوادث هي خلاصة الحقيقة التي وقعت في سوالف الأزمان.

وإقحام الشيخ الأصوليين هناك لا معنى له فليسمع كلام المفسرين الذين تحدثت عنهم إذ يقررون أن من القصص القرآني أحداث لم تقع.

جاء في أبن كثير ج1 ص590 بعد تفسيره لقوله تعالى ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. . . الخ ما نصه (عن أبن جريح عن عطاء أن هذا مثل) وقد وضع على لفظة مثل رقم 1وكتب على الهامش بآلة الطباعة هذه العبارة (يعني أنها ضرب مثل لا قصة واقعة).

وجاء في الرازي ج2 ص333 نسخة الصالة بدار الكتب وذلك بصدد الحديث عن قصة إبراهيم والطير ما نصه [المسألة الثانية. أجمع أهل التفسير على أن المراد بالآية قطعهن وأن إبراهيم قطع أعضاءها ولحومها وريشها ودماءها وخلط بعضها على بعض غير أني مسلم فأنه أنكر ذلك وقال: إن إبراهيم عليه السلام لما طلب إحياء الميت من الله تعالى مثالا قرب به الأمر عليه والمراد بصرهن إليك الإمالة والتمرين على الإجابة أي فعود الطير الأربعة أن تصير بحيث إذا دعوتها أجابتك وأتتك فأذا صارت كذلك فأجعل على كل جبل واحداً حال حياته ثم أدعهن يأتينك سعياً والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة].

وجاء في المنار ج3 ص52 بعد تفسيره لقصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ما نصه [ويحتمل أن تكون القصة من قبيل التمثيل والله أعلم].

وقد كرر الأستاذ الأمام تفسير بعض القصص القرآني على هذا الاساس ويكفي أن نحيل الشيخ إلى الصفحات من 280 - 282 من الجزء الأول ليعرف أن الأستاذ الأمام قد فسر قصة آدم من سورة البقرة على أنها قصة تمثيلية.

على أنا نستطيع أن نضع بين يدي الشيخ هذا النص القاطع الذي لا يحتمل شكا في أن مذهب الأستاذ الأمام هو هذا.

جاء في المنار ج2ص399 الطبعة الأولى ما نصه [ومن البديهي أن ذكر القصة في القرآن لا يقتضي أن يكون كل ما يحكى فيها عن الناس منه كما أن نسبة الكفر إلى سليمان في القرآن ولو لم يكن ذكرها في سياق النفي.

قال الأستاذ الأمام ما مثله. بينا غير مرة أن القصص جاءت في القرآن لأجل الموعظة والاعتبار لا لبيان التاريخ ولا للحمل على الاعتقاد بجزئيات الأخبار عند الغابرين وإنه ليحكي من عقائدهم الحق والباطل ومن تقاليدهم الصادق والكاذب ومن عاداتهم النافع والضار لأجل الموعظة والاعتبار فحكاية القرآن لا تعدو موضع العبرة ولا تتجاوز مواطن الهداية ولا بد أن يأتي في العبارة أو السياق وأسلوب النظم ما يدل على استحسان الحسن واستهجان القبيح.

وقد يأتي في الحكاية بالتعبيرات المستعملة عند المخاطبين أو المحكى عنهم وأن لم تكن صحيحة في نفسها كقوله (كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) وكقوله (بلغ مطلع الشمس) وهذا الأسلوب مألوف فأننا نرى كثيراً من كتاب العربية وكتاب الإفرنج يذكرون آلهة الخير والشر في خطبهم ومقالاتهم لا سيما في سياق كلامهم عم اليونان والمصريين القدماء ولا يعتقد أحد منهم شيئاً من تلك الخرافات الوثنية.

ويقول أهل السواحل غربت الشمس أو سقط قرص الشمس في البحر أو في الماء ولا يعتقدون ذلك وإنما يعبرون به عن المرئى]. أنتهى بنصه من حديثه عن قصة هاروت وماروت وبعد أفلا يرى الشيخ أن الأستاذ الأمام وأن الشيخ رشيد رضا يذهبان إلى أن كل ما ذكر في القصص القرآني لا يلزم أن يكون صحيحاً لأنه ذكر في القرآن بل يكون غير صحيح وانما ذكره القرآن وهو يعتقد بعدم صحته لأن ذلك هو الاسلوب العادي في التخاطب وهو الذي يجري عليه الأدباء.

على أني أستطيع أن أذهب مع الشيخ إلى أبعد من هذا فأقول له إن الأستاذ الإمام يفضل هذه الطريقة في التفسير وهي طريقة التأويل على غيرها.

قال رحمه الله ج1 ص273 ما نصه (أفلا تزعم أن لله ملائكة في الأرض وملائكة في السماء؟ هل عرفت أين تسكن ملائكة الأرض؟ وهل حددت أمكنتها؟ ورسمت مساكنها؟ وهل عرفت أين يجلس من يكون منهم عن يمينك؟ ومن يكون عن يسارك؟ هل ترى أجسامهم النورانية تضئ لك في الظلام أو تؤنسك إذا هجمت عليك الأوهام؟ فلو ركنت إلى أنها قوى أو أرواح منبثة فيما حولك وما بين يديك وما خلفك وأن الله ذكرها لك بما كان يعرفها سلفك وبالعبارة التي تطمئن اليه نفسك من وجوه تعرفها أفلا يكون ذلك أروح لنفسك وأدعى إلى طمأنينة عقلك؟ أفلا يكون قد أبصرت شيئاً من وراء حجاب؟ ووقفت على سر من أسرار الكتاب؟ فإن لم تجد في نفسك استعداد القبول أشعة هذه الحقائق وكنت ممن يؤمن بالغيب ويفوض في أدراك الحقيقة ويقول (آمنا به كل من عند ربنا) فلا ترم طلاب العرفان بالريب ما داموا يصدقون بالكتاب الذي آمنت به ويؤمنون بالرسول الذي صدقت برسالته وهم في إيمانهم أعلى منك كعباً وأرضى بربهم نفساً.

ألا إن مؤمناً لو مالت نفسه إلى فهم ما أنزل إليه من ربه على النحو الذي يطمئن إليه قلبه كما قلنا كان من دينه في ثقة ومن فضل ربه في سعة) انتهى بنصه.

والآن ماذا يرى الشيخ؟ وماذا يرى غيره من الثائرين؟ إنا لنمتثل معهم بقول القرآن الكريم (وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين).

ومن هنا سنعرض عن القسم الثاني من مقال الشيخ وهو قسم الشتائم لعله يفقه الحق ويصل إلى الرشد ويقف على أسرار قرآننا الكريم.

محمد أحمد خلف الله

كلية الآداب - جامعة بغداد.