مجلة الرسالة/العدد 752/حول نقد الناصر:

مجلة الرسالة/العدد 752/حول نقد الناصر:

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 12 - 1947



في فن الإخراج المسرحي

للأستاذ زكي طليمات

في العدد 750 من هذه المجلة الغراء تفضل الأستاذ (ط) بكلمة طيبة عن تمثيل الفرقة المصرية رواية (الناصر) للشاعر الكبير عزيز أباظة باشا، وخصني فيها بالتفاته رعاية، ثم تكرم مخلصاً بألفات نظري إلى ناحية من نواحي الإخراج الذي أجريته في المسرحية، وهي ناحية جديرة بالكشف وفي التعقيب عليها تبيان لمنحي من مناحي الإخراج المسرحي في مرحلته الحديثة.

يعجب الأستاذ كيف يحدث جرح، فوق المسرح طبعاً، من غير إراقة دماء، فقد طعنت إحدى شخصيات الرواية أخرى بخنجر، ومع هذا فانه لم ير أثر للدماء ولا تمزق في الثياب.

وهذا عجب مشروع له ركائز من الحق إذا اعتبرنا فن التمثيل من حيث الأداء ومن حيث الإخراج، نسخاً للحياة ونقلاً عن الواقع في أدق تفاصيله، أو بالأحرى إذا اعتبرنا المسرح لوحة فوتوغرافية من الواقع.

هذا الاعتبار الذي يأخذ به نقاد المسرح المصري له أصل في تأريخ تطور الفكرة عن فنون المسرح، وأقصد بالفكرة وجهة النظر التي يأخذ بها الجمهور أدباؤنا وفنانوه، تبعاً للمزاج العام الذي تعمل على تكوينه الاتجاهات الصريحة في الأدب والفنون، وقد برزت في أتم طابع وجهة النظر في أن يكون فن التمثيل مماثلاً كل المماثلة للحياة الواقعية، في أواسط القرن الماضي، وانتشرت في أواخره وغيرت كل وجهات النظر الأخرى، على يد المخرج الكبير (أندرية أنطوان) في فرنسا (استانسلفسكي) في روسيا، وكانت هذه الحركة بمثابة رد فعل لما كانت عليه فنون المسرح إذ ذاك من ابتعاد عن الواقع وإغراق في الأخذ بالتزاويق.

ولم يك هذا أمراً مستغرباً لأن (المذهب الواقعي) كان سائداً في أوروبا، وشمل الأدب في جميع ألوانه، والفن في مختلف أنواعه.

ولم يك هذا المذهب الواقعي إلا صدى من إسداء المزاج العام والحركة الفكرية الواعية وغير الواعية. بفعل التقدم الآلي في الصناعات والمخترعات وبتأثير الحركة العلمية التي انتهت إلى اكتشاف جراثيم الجدري والدفتريا والسل وغيرها من الأدواء، وهي حركة قوامها (المجهر) و (معمل الأبحاث والتحليل) فكان أن خلد في أذهان الناس بتأثير هذا، أن الإنسان يستطيع أن يصل إلى جوهر الأشياء إذا أخضعها للتحليل والتجزئة، وأن آلة (الفوتوغرافيا) في إمكانها أن تنقل الحياة الواقعية نقلاً دقيقاً يطابق الأصل فالفن والحالة هذه، لا يكون في أوج كماله إلا إذا نسخ الواقع وماثله.

ويروي تأريخ الإخراج المسرحي، في صدد هذه النزعة الواقعية أعجب الحوادث، فقد أخرج (أنطوان) زعيم هذه الحركة في المسرح منظراً في إحدى الروايات، يمثل مجزراً للماشية، فكان أن شاهد الجمهور عدداً من الماشية المذبوحة وقد سلخت جلودها، وشدت إلى المشاجب الحديدية، والدم يقطر منها فوق أرض المسرح، فصفق الجمهور إعجاباً.

وأخرج زميله الروسي منظراً يمثل مقدم باخرة تشق عباب البحر في يوم عاصف، فإذا برشاش الماء يتناثر على الصفوف المتقدمة من أمكنة النظارة. وهكذا أصبحت قدرة المخرجين على محاكاة الواقع مقياساً للتفوق والشهرة.

ولم يكن المخرجون في هذا منحرفين عن الجادة، لأنهم كانوا يصدرون عما يتفق ونظرتهم ونظرة الجمهور إلى الفن المسرحي من حيث أنه صورة شمسية من الواقع الملموس. وقد تناسوا أن المناظر التي يطالعونها فوق المسرح لا تأخذ من حقائق الأشياء غير مظاهرها، بدليل أن ما يرونه ممثلاً للجدران الصلبة، والأعمدة، وحوائط الباخرة ليس إلا أستار ملونة مشدودة إلى إطارات من الخشب، ويكفي للدلالة على زيف معدنها أن تقع يد أحد الممثلين عليها فإذ هي تهتز وترتعش.

هذه النظرة إلى فنون المسرح أو بالأحرى هذه (النزعة الواقعية)، ما برحت تسود الأكثرية الغالبة من الجمهور. وقد جاءت إلينا مع مجيء فن التمثيل باللسان العربي، وفي طيات الموجه الثقافية الغربية التي تكسرت على شواطئ وادي النيل فيما بعد أواسط القرن الماضي. وقد تأصلت لهذه النزعة في مجتمعنا جذور امتدت على مر الزمن، فإذا الفن بين أيدينا لا يتعدى أن يكون صوراً شمسية من الواقع في أدق تفاصيله.

ولكن الزمن قد تطور في أوروبا التي أخذنا فنون المسرح عنها، فتغيرت قيم وأوضاع في الأدب والفن، فبليت (واقعية) الفن بعد أن اتضح قصورها عن إشباع الواعية الأوروبية التي ازدادت نضجاً على وقع التقدم العلمي في نواحي الفلسفة وعلم النفس، الذي أثبت أن المرئيات إنما هي مظاهر ودلائل تشير إلى جوهر الأشياء ولا تفصل، وتوحي ولا تفصح، وتجمل ولا تحلل وأن الأخذ بالتركيب أصوب من الأخذ بالتحليل العاجز المتطاول. وقامت نزعة جديدة في الأدب والفنون تأخذ بالإيحاء الشامل بدلاً من نسخ الواقع وتفاصيله، وبالتركيز بدلاً من التحليل المفصح الذي يعنى بالتفاصيل ولا ينتهي إلى الجوهر. وقامت في المسرح، وذلك في أوائل القرن الحاضر، حركة تناهض (الواقعية) في فنون التمثيل وترتكز على ما تقدمت الإشارة إليه، سرعان ما قضت عليها إذ تركتها بين أيدي المتأخرين من متابعة قافلة التطور في الأدب والفن. فإذا المناظر المسرحية للأجمال والإشارة في التصوير، وإذا الإضاءة للتركيز على المواطن المهمة في الحركة المسرحية وليس لمجرد الإنارة، وإذا كل ما يبدو فوق المسرح للإيحاء، وإذا بالمسرح يصبح (تمويهاً للواقع) وليس (نقلاً واقعياً) عنه، وامتد تأثير الاتجاهات الفنية الحديثة إلى المرئي فوق المسرح فإذا بنا نطالع فوقه مذاهب (الإيحائية) و (التأثرية) و (التعبيرية) في التصوير والرسم.

وقد زاد في الأخذ بهذا ما فرضته السرعة في الانتقال من تأثير على النظرة إلى المرئيات، هذا التأثير الذي نسخ بدوره فعله على العقل الواعي وغير الواعي، فغداً مقياس العمل في كل نواحي الحياة، (أتيان أكبر الأثر بأبسط الوسائل وفي أسرع وقت). وكان من اكبر الأسباب التي دفعت بالمسرح إلى أن يأخذ اتجاهاً يجافي الواقعية، في تسجيل المرئيات، وهي قصوره عن مجاراة (السينما) في وسائل أحياء الواقع على الوجه الذي تراه العين المجردة.

من أجل هذا وعلى هدى ما تقدم ذكره فإننا نأخذ بهذا الاتجاه الجديد في إخراج مسرحياتنا، حتى نماشي روح العصر الذي نعيش فيه. الإيماءة تأخذ مكان الحركة الكاملة، وجذع الشجرة ينبئ عن فروعها ويشير إلى أغصانها، والعامود ذو الطراز المحدود، أو الحنية أو العقد في البناء، يغنى عن أيراد بهو كامل الجدران قد دقت اليد في إيراد تفاصيله وكذلك الحال فيما هو دون هذا فإن طعنة الخنجر أو ضربة السيف، توحي بما يصاحبها.

وقد يصح أن في اتباعي هذا المذهب أقدم غير ما يألقه السواد الأكبر من الجمهور، ولكن من واجبي أن أبشر بالجديد الذي يقبله الجمهور الأوروبي، وهو جمهور سبقنا في مضمار فنون المسرح، وعنه نأخذ في فنية المسرح وحرفيته، وهذا الجديد غير عسير استساغته، لأنه يرتكز على الطبيعة بقدر ولا يجافيها كل المجافاة.

وأؤكد للأستاذ (ط) أن مداركة ما أخذه علينا من أن الدم لم يتفجر على أثر طعنة الخنجر، من أيسر الأمور، ويكفي أن نضع في عب ممثلة دور الفتاة التي تطعن بالخنجر، (تفاحة) مملوءة بسائل أحمر، لا بالدم، فسرعان ما تتفجر تحت ضغط اليد التي تهوى عليها، فيغشى السائل الأحمر ثيابها ويسيل إلى الأرض، بل وينطلق رشاشة إلى الجمهور الذي يأخذ مكانه في الصفوف الأمامية.

ثم ماذا يكون قول الأستاذ (ط) إذا شاهد مرة في إحدى المسرحيات منظراً يمثل معركة حربية بين صليل السيوف التي من الخشب، وانفجار القنابل المزيفة التي تفرقع ولا تحدث أثراً، بماذا يحاسب المخرج إذا لم ير الدماء تسيل أنهاراً فوق المسرح، والأشلاء تتطاير هناك وهناك، ويضرب بعضها وجوه النظارة كما كان يجب أن يجري في الواقع، وهل يصح أن يقول أن المخرج أهدر جانب الواقع، وتورط في الخطأ الفاضح.

أقول أن الخدع المسرحية التافهة التي تدخل في نطاق ما ذكره الأستاذ الناقد أصبحت اليوم لا تؤثر في الجمهور المثقف، كما كانت تؤثر في نفوس أجدادنا مخدوعين أو متناسين الحقيقة، لأن النضج الذي نزل بالذهنية الحديثة من جراء التطور العلمي العام صار يميل إلى الأخذ بالإيحاء حتى ينسرح خيال المشاهد فيكمل التفاصيل، على وجه قد يكون أروع من تفاصيل مفروضة عليه من سواه.

أقول أن فن لمسرح في مظاهره العادية الخاصة بالإخراج ليس الحياة بواقعيتها وفي دقائقها وتفاصيلها، وإنما هو تمويه بهذا في حدود المعقول، الذي يبعث الإيحاء ويساعد على الرمز وينشط مخيلة النظارة على الإنسراح لاستخراج التفصيل من المجمل، والكل من الجزء.

زكي طليمات