مجلة الرسالة/العدد 752/من وحي الآثار:

مجلة الرسالة/العدد 752/من وحي الآثار:

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 12 - 1947


1 - من وحي الآثار:

مع ملاحي الشلال الأول

للأستاذ مصطفى كامل إبراهيم

(أولئك جزاؤهم من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار

خالدين فيها ونعم أجر العاملين).

(قرآن كريم)

حدثنا الأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود في العدد 746 من الرسالة عن ذكرياته الشائقة في بلاد النوبة فقال: (وللشلال شهرة بالملاحة، فأكثر الملاحين الذين يشتغلون في البواخر النيلية بوجه عام، تجارية وحكومية، وشراعية، من هذه البلاد الصغيرة المسماة بالشلال!!).

وتروي لنا مخلفات القدماء هاهنا، أن رجالات الشلال قد أدوا لوادي النيل من الخدمات في غابر الأيام ما يتوج المصريين بتاج الفخار وهي باقية ما بقي العلم وما بقي الاعتراف بالصنيع، وأن لهؤلاء الرجال في أعناقنا جميلاً فلنؤده إحياء لذكراهم وإن قل هذا الأداء.

ولقد لعب النيل دوراً هائلاً في حياة المصريين منذ نشأة الحياة الأولى على ضفافه ومنذ بدأ القوم يتعلمون الزرع والضرع على يد (أوزيريس) الطيب القلب، الكريم المحتد، فلا عجب إذاً أن ملاحي الشلال الأول الذين وقفوا حياتهم على خدمة النهر والعناية بأمره وحماية منابعه، أن يكتبوا بأحرف من نور، سجلاً تاريخياً حافلاً بجلائل الأعمال.

وقصة (أوزوريس وست)، هي القصة التي ملأت وجدان المصريين القدماء طوال أيام تاريخهم القديم، واحتلت مكان الصدارة من حياتهم الدنيوية، وأثرت في نفوسهم بالخير والبركة، ولعلها السبب الثاني بعد الطبيعة السهلة التي خلقت في المصريين النفس السمحة ولين العريكة وطيب القلب، مما أوحى إلى (هيرودوت) أن يصدر حكمه المشهور (المصريون قوم يخشون الله).

وطال ترديد القصة بين أفواه الناس وأسماع الزمن، حتى تجاوبت أصداؤها فيما وراء البحر وجاء بلوتارخ سنة 120 من ميلاد المسيح، يستنبئ الناس الخبر، ويستقرئ الآثار، فسمعها من الكهنة ثم كتبها للناس. ودلت الآثار على أن الرجل لم يكن متجنياً كغيره المؤرخين.

وقد مست القصة مواطن العبقرية من الأدباء والشعراء المحدثين فقضوا الليالي الطوال ينعمون معها بفيض من الاطمئنان الروحي ثم انطلقت قرائحهم بالنثر والشعر الرصين ذلك لأنها من أجود القصص بل لعلها أجودها جميعاً، والذي يقرؤها من قلم (شيلير يشعر بأن الرجل كان هائماً بها هيامه بما يكتب فأخرجها آيات مبدعات من روائع الفن.

وأنا لا أستطيع أن أتهم المصريين القدماء بأنهم عبدوا الإنسان والحيوان والجماد لذاته، فأن ما خلفوه من مجد أثيل وثقافة عالية لا تسمح لهم أن ينزلوا هذه المنازل السحيقة من الجهل، بل الرأي عندي أنهم أدركوا صفات الله تعالى وبحثوا عنه في ملكوته، فلم يروه. . . ورؤا شيئاً من صفات الخالق فيما خلق، فقد سوها على أن بها سراً من أسرار الله. . . قدسوا (أوزوريس) لكرمه ورحمته بالعباد، والنيل لمثل ذلك (وخنوم) رب الشلال الأول لأنه يحمي منابع النيل ويصنع الخلق من طينته.

وبالرغم من أن مصر لم تكن مهبط الأنبياء، إلا أن المصريين القدماء قد أظهروا استعداداً طيباً لتقبل الأديان السماوية قد ينفردون به دون أمم الأرض، ففي أيام موسى عليه السلام، آمنت له امرأة فرعون وكل من شاهد برهان الله على يد رسوله، ولما جاءت المسيحية اعتنقوها حتى لم يبقى في الديار كافر بها، ثم لما أشرق نور الإسلام في شمال الوادي، سطع ضياؤه بين جنباته وتغلغل في نفوس أبنائه المؤمنين (الذين قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)، وامتد هديه حتى عم كل بقعة وطئتها أقدام الداعين للإسلام، أولئك الذين شد الله في أزرهم وقوى نفوسهم فلم تصدهم عن رسالتهم أفاعيل السياسة ولم يقعدهم مال.

ومثل المصريين كمثل إبراهيم عليه السلام لما قلب وجهه في الكوكب والقمر والشمس باحثاً عن الله، فلما أعياه البحث تداركه الله برحمته، فهداه سواء السبيل.

وأنا ممن يعتقدون أن القصص الديني لم يكن كله حديث خرافة، فمهما خصبت عقول البشر ومهما حاول المرتزقة من كهنة المصريين القدماء أن يقدموا للناس غذاء روحياً دسماً من الأساطير يعيشون على حسابه، فلم يكن في طوقهم، ولا في طوق غيرهم، أن يخترعوا شيئاً من لا شيء، فقصة (أوزيريس وست) إذاً من قصة الأحياء من بني الإنسان، مثلتها الأيام وكان مسرحها جنبات الوادي الأخضر، وليس للكهنة عليها من فضل، اللهم إلا تأليه أشخاصها، وجلوها، وتجهيزها، ثم زفها للناس.

وتتلخص القصة من أن (ست) حاكم الصعيد الغشوم قد حقد على أخيه (أوزيريس) حاكم الدلتا لعدله وحب الناس له، فصنع له تابوتاً على قده واحتال عليه حتى أرقده فيه، وأحكم عليه الغطاء ثم ألقاه في النيل، وقذفته أمواج البحر إلى ببلوس (جبيل) من أعمال فينيقية (لبنان)، وهناك أنبت الله عليه شجرة أرز وارفه أعجب بها حاكم البلاد فقطعها، وجعل منها عموداً يحمل سقف قصره، وسعت (أيزيس) الزوجة المخلصة حتى عادت بتابوت الشهيد إلى الدلتا، ثم كشفت الغطاء وذرفت دمعة ساخنة سقطت على وجهه، فأعادت إليه حياته بأذن الله، إلا أن (ست) وافاه والمنية تسعى في ركابه، فمزق الشهيد قطعاً وبعثر أشلاءه في أقاليم الوادي. . . ثم عمد منه إلى عضو التذكير فيبتره وألقى به إلى سمكة في النيل، حتى لا ينجب ذرية قوية تنازعه الغلبة والسلطان.

إلا أن (إيزيس) التي حملت من روح زوجها أنجبت له (حوريس) فيعمل هذا على الانتقام لأبيه، ويطلب الاحتكام في أمره وتبدأ أولى جلسات المحكمة في (أون) عين شمس، ويخاف (ست) على هيئة المحكمة أن تعصف بها فتنة (إيزيس) الجميلة الساحرة، وتنتقل المحكمة إلى قاعة العدل العليا في جزيرة فيلة عند الشلال الأول، غير أن (إيزيس) تسافر إلى الشلال الأول وتطلب من أحد الملاحين أن ينقلها على سفينة إلى الجزيرة ويجيبها السفان أنه لن يستطيع هذا بأذن منها، وتتمكن أخيراً من إغرائه بالذهب فيحملها إلى الجزيرة.

. . . وتتم كلمة الله ويجيء الحق ويزهق الباطل يزهق معه روح (ست).

ومنذ ذلك اليوم من فجر التاريخ إلى آخر أيام الفرعنة، والملوك - إلا في فترات قصيرة - يعتبرون أنفسهم أحفاداً (لحوريس) وذلك لإقرار شرعية حكمهم، ومن أجل هذا كتبوا أسماءهم داخل إطار فيما يحاكى رسم القصر الملكي، وقد حط عليه الصقر رمز (حوريس) مشرعاً هامته إلى السماء.

وتروي لنا القصة فيما تروي من أنباء الماضي أن مصر قد تذوقت لوناً من ألوان الوحدة تحت حكم ملك واحد فيما قبل أيام (مينا) مؤسس (الأسرة الأولى). وتروي لنا أيضاً أن لمصر علاقة بلبنان قديمة قدم القصة، وتطالعنا الآثار بأن مصر أفادت من خشب الأرز اللبناني في بناء السفن والتوابيت، وأغلب الظن أن علاقتهما كانت علاقة الأخ الكريم بالأخ الكريم، ولم تكن غير ذلك طوال أيام تاريخهما، إلا في فترات التدخل الأجنبي وتسلطه البغيض.

ونحن لا ننظر إلى القصة من زاوية الخير والشر كما يفعل الوعاظ، ولكن نراها من ناحية علاقتها التاريخية بالشلال الأول فالنيل شخصية واضحة تلازم البطل (أوزوريس) في جميع مناظر القصة، إلا ما كان منها خارج واديه، بل لعل البطل يندمج مع النيل في بعض فصول القصة. وشخصية (أوزوريس) فيما يظهر، هي الصورة المجسمة العاملة المدبرة للنهر الميمون، بل أن اختيار قاعتي العدل المزدوجة ف يعين شمس أولاً، ثم في الشلال الأول أخيراً على وجه التحديد، كان سبب وجود مقياسين للنيل عند منبعه وبدء تفرعه إلى أفرع كثيرة ليست من صلب النيل، بل أن بعضها لا يمتلئ إلا في فترة الفيضان - وقد كان للمقياسين أخصائيون يقيسون زيادته ونقصانه ويزنون مياهه، ويرصدون عليه حركاته، ثم يقدرون من وراء هذا كله دخل الحكومة وأرزاق الناس.

وعندي أن اهتمام المصريين بمنابع النيل عند الشلال الأول لم يكن عبثاً بل كان لا بد لمنابع النيل من إدارة عليا تهيمن عليه، لا تدانيها في عظمتها إدارة الشمال، كما هو الحال في يومنا هذا، فأن مصلحة الري المصري بالسودان توافي البلاد بأخبار النيل على الدوام.

ويعزز رأينا هذا ما قاله الملاح (لإيزيس) من أنه لا يستطيع أن ينقلها بإذن منها - يعني بذلك أنه موظف مسئول وأنه لا يتلقى الأمر إلا من صاحب الأمر، وتطالعنا الآثار بأن حاكم الجنوب اتخذ كرسيه في جزيرة فيلة عند الشلال الأول متمتعاً بأقصى ما يتمتع به عامل من ثقة مليكه.

ونحن إذ نؤمن بوجود إدارة عليا للنيل عند منابعه مع وجود السفان وسفينته في هذا المكان والاهتمام (بفينيقيا) موطن أخشاب الأرز، كل أولئك يحملنا على الترجيح بأن ملاحي الشلال الأول هم أول من أنشئوا السفن تجري على صفحة النيل السعيد بسم الله مجريها ومرساها.

ولعل بين إسناد التاريخ الأثرية ما تكشفه لنا الأيام فيؤيد هذا بصورة قاطعة.

ولقد ظل ملاحو الشلال الأول محافظين على عهدهم مع النيل فصادقوه وحالفوه، وعاشوا بين كنفه فأطلعهم على مكنون سره ودخائل نفسه، فعرفوا كل صخرة من صخوره، وخبروا كل شعبه من شعابه، وتروي لنا مخلفات القدماء هنا بأن (أوني) أحد عمال (مون رع) في جزيرة فيلة في أيام الأسرة السادسة سنة 2328 قبل ميلاد المسيح تمكن من أن يقتطع طريقاً بين صخور الشلال ليفتح سبيلاً لسفن صاحب الجلالة إلى الجنوب، وبعد ذلك بستمائة سنة تمكن عمال الشلال الأول أن يعيدوا لسنوسرت الثالث فتح هذا الطريق ثم لما كانت أيام تحتمس الثالث الذي مد الله في سلطانه، فأمست له إمبراطورية عريضة تمتد من (قرن الأرض إلى أطراف المياه المعكوسة)، أراد قمع الثائرين في الجنوب، فوجد لقناة قد طمسها تيار النيل، فأمر ملاحي الشلال الأول أن يعبدوا حفرها وهكذا مكنوه من العودة إلى طيبة بطريقها. ومن ثم وضع في أيديهم أمر العناية بها لتبقى مفتوحة وتجري التجارة بين الشمال والجنوب ولإيصال ثقافات الشمال إلى أبناء الجنوب فيؤلف الله بين قلوبهم ويصبحوا بنعمته إخواناً. أو للضرب على أيدي الخونة المارقين من أشياع إبليس، الذين تتحرك فيهم الغرائز الدنيا، ويدفعهم الأثرة وحب النفس وشهوة المادة إلى تدمير وحدة الوادي السعيد وتقطيع أوصاله، لمغنم زائل، أو لجاه زائف، لا يلبث هذا أن يجرهم مقرنين بأصفاد الذلة، ويطوح بهم إلى الحضيض من وادي العدم.

فعليكم سلام الله، أيها الأمجاد من أبناء (ناستي) وإلى اللقاء مرة أخرى فنحيى ساعة نستمرئ لذيذ ذكراكم العبقة بعطر الخلود.

(أسوان)

مصطفى كامل إبراهيم

وكيل اتحاد الثقافة الأثرية