مجلة الرسالة/العدد 755/الذكرى الأولى:
مجلة الرسالة/العدد 755/الذكرى الأولى:
شكيب الشاعر
للشيخ محمد رجب البيومي
- 2 -
(لو لم يكن شكيب كاتباً فريدا لكان شاعراً مجيداً؛ فهما كفتان
كلما رجحت الواحدة أشالت الأخرى)
المنفلوطي
كان الجو الأدبي في مبدأ هذا القرن بمصر يبشر بمستقبل بسام تزدهر فيه فنون الأدب، فهناك مدرستان قويتان للنثر والمنظم يتزعم الأولى محمد عبده ويقود الثانية سامي البارودي، وفي تلامذة المدرستين أشبال فتية تقوى وتشتد بمرور الزمن، وقد اتخذت من الصحافة ميدانا فسيحا تتراكض في جهاته، فتركت وراءها دويا رنانا جعل الأنظار تتطلع إلى سماء الصحافة المصرية معجبة بأهلها الجديدة، تلك التي أخذت تتكامل وتزايد حتى أمست بدورها ساطعة تبعث في العقول ضوءها اللماح، وتنشر في النفوس إشراقها اللامع، وانظر إلى آثار شوقي المنلفوطي وحافظ والمويلحي وسائر من تخرج في المدرستين السالفتين، فانك واحد ما حدثتك عنه من تألق وسطوع.
ونحن لا نعجب - والحالة كما وصفنا - إذ رأينا الأمير رحمة الله يؤثر الصحافة المصرية بنثره ونظمه، ويزور وادي النيل بين الفينة والأخرى، متصلا بأدبائه الذين يغردون معه على دوحة واحدة، ومن هنا كان أمير البيان ذا صلة قوية بحملة الأقلام في مصر، يؤثرهم على نفسه، ويؤثرونه على أنفسهم، وطالما اشتبك في حوار أدبي عفيف مع عشاق الأدب والمعرفة، فكان ذا الحجة الدامغة، والرأي الفاصل.
ونبادر فنعلن أن شكيبا كان يهتم بالنثر اكثر من اهتمامه بالشعر، لأنه فوق مكانته الأدبية سياسي مجاهد، له رأي ينفتح عنه، وعقيدة يبثها في أمته، والسياسيون في حاجة إلى امتشاق القلم كل يوم، ليعلم الرأي العام ما يدعون إليه، فلوا انه اتكل على الشعر وحده، لاستعصى عليه في بعض الأحابين أن يبرز رأيه في وضوح، فكان لابد من الاعتصام بالنثر، حتى يفهم عنه الجمهور ما يريد.
وأنت حين تطالع أشعاره عامة ترى عليها مسحة التسرع والعجلة، لأنه يترجم عن عواطفه بدون تكلف، وله من جهاده ما يشغله عن التفكير في معنى غريب أو تشبيه نادر، كما يصنع عبيد الشعر في كل زمان ومكان، على انه مع ذلك مطبوع على التصوير الفني، والديباجة المشرقة، واللفظ الموسيقي.
وإذا أردت أن تنظر لشكيب كشاعر متأنق، فأقرا مساجلاته مع الشعراء ومعارضته لأقرانه الأفذاذ، فهو حينئذ يحرص على أن يكون معهم في درجة واحدة - على رغم فراغهم واشتغاله - فتراه يغوص على المعاني الفائقة، ويتفنن في التراكيب الممتازة، ويطير مع الخيال في آفاقه الشاسعة، واليك قصيدته:
هل لسان أقواله الإلهام ... وبيان آياته الأحكام؟
فانه عارض بها قصيدة شوقي:
رضى المسلمون والسلام ... فرع عثمان دم فذامك الدوام
فكان شكيب رائعا مبدعا، يسوق في تسلسل وانسجام، حتى استطاع أن يوازي أمير الشعراء في دقته وبراعته، ومن العجيب انه يتواضع اكثر من اللائق فيقول في قصيدته:
أو أُعارض فتى القريض فما عا ... رضَ ورد الحدائق القُلام
واحب أن الفت القراء إلى قصيدة أخرى من هذا النوع، انشدها الأمير في حفلة خيرية أقيمت لمعاونة مجاهدي طرابلس الغرب، وكان من شعرائها شوقي ومطران وشكيب، وقد قرأت قصيدة الأمير فوجدته اكثر إبداعا من غيره، فقد كان نسجه عباسيا، وخيالة عربيا يحلق بك في أجواء حوم فيها أبو تمام والمتنبي، ويريك كيف تكون براعة المطلع وقوة الأداء فهو يقول:
سلا هل لديهم من حديث لقادم ... من الغرب يروي فيه غلة هائم
وهل نظروا من نحو (برقة) موهنا ... فلاح لهم منها بريق الصّوارم
تالق في ليلىْ ظلام وقسطل ... فتنشئ سحب الدمع من طرف شائم
مواطن اخوان تملوا من الردى ... كؤوسا تساقوها بمل الحلاقم تهيهم فيها العدو مهاجاً ... فجاء دبيب اللص في ليل قاتم
ولّين في إقدامه من إهابه ... وهل يخدع الإنسان لين الأرقام
ثم يمضي بعد ذلك فيصف أرنب (رومة) مهكما، ويمدح ضراغم هاشم معجبا وهو نظمه يجلجل غريبة، وياتي بالحكمة فذة رائعة كان يقول:
وما طال نوم السيف إلا تنبهت ... عيون الدواهي منه عن جفن نائم
وللقارئ أن يحكم بهذه القصيدة على شاعرية الأمير الناضجة وقريحته المتوقدة، ولعله يتساءل معي أي مستقبل كان ينتظر الأمير في عالم الشعر لو صرف كل همه إليه كما فعل شوقي وحافظ وأي منزلة يحتلها بين الشعراء العربية الخالدين.
وتعجبني علاقة شكيب بزملائه الشعراء فقد كانت ترضى أصحاب المثل العليا في الأخلاق، فهو لا يعجب بقصيدة يطالعها في الصحف إلا ويسارع إلى تقريظها من ثناء، ونحن نتلمس الآن هذه الروح الطيبة، فلا نجدها في معشر من الناس بل نجد ما يناقضها من الغل والحسد، ولكن شكيباً أفلاطوني يقود الناس إلى مدينته الفاضلة فليهم اتبعوه!
ولقد كان يتحمل كثيراً من المصاعب في نصرة زملائه الأدباء من كتاب وشعراء فقد وقف أمام اليازجي وهو من هو في ومنه سعة شهوة، وصلابة راي، ليذب عن شوقي، ويدفع الحملة التي شنها صاحب الضياء عليه، وكلها هنات لغوية، ومآخذ صرفية سطعت عليها شمس شكيب فبددت ضبابها الكثيف وكان هذا الدفاع المجيد وشيجة قوية ربطت أمير الشعراء بأمير البيان فاصبح صفيه الأول، وخدينة المختار، وماذا تقول في مودة عريقة مكثت أربعين سنة وهي في كل يوم تنمو وتترعرع حتى خطف الموت شوقياً، فكتب عنه شكيب سفراُ قيما ورثاه بقصيدة جمعت إلى صدق اللوعة وحرارة العاطفة براعة الوصف ودقة التعبير، فهو يبرز تلك شعر شوقي في صورة لا تنطبق على غيره، ويرسمه أمامك رسما تتجلى فيه ملامحه وخصائصه فهو يقول:
رقت لنغمته القلوب فكيفما ... غنى بها رقصت على نبراته
فترى الطبيعة قبل نظرته لها ... غير الطبيعة وهي في أمرأته
والحسن يشرق في العيون بذاته ... وهنا يضئ بذاته وصفاته
لو بات يعبث بالشراب أضاف من ... كأساته حببا إلى كاساته أو خاض في ذكر العذيب تشابهت ... أعطاف مستمعيه مع بأناته
يلقي على غمرات كل ملمة ... قولا يزيل أجاجها بفراته
فإذا تحدث بالربيع ووشيه ... أنساك بالتحبير وشى نباته
فأي وصف هنا لا ينطبق على شعر شوقي، وأي تصور لا يوقفك على خصائص أبياته؟ الحق أن هذا الكلام ينبئ عن مكانه قائلة الممتازة في عالم الفن، ويدل على الحد الذي وصل إليه رحمة الله في الجودة والبراعة، مما يجعلك تصدق قول شاعر القطرين في رثائه
ولي أخو ألا فذاد من شعرائها ... في جاهليتها، وفي الإسلام
جاري الفحول فلم يقصر عنهمو ... في حلبة الإفصاح والإفهام
شتان بين الشاعر المطبوع في ... إحكامه واللاقط النظَّام
ولقد نظم الأمير في اكثر فنون الشعر من غزل ومديح وسياسة واجتماعيات، بيد انه كان سباقا في الرثاء والوصف، وإبداعه في الرثاء ليس بمستغرب منه فقد كان ذا وفاء نادر لأصحابه وإخوانه فإذا فجعه الدهر في واحد منهم لجا إلى القريض يبثه عاطفته، ويشكوا إليه تباريحه. والواقع أن دموعه الشعرية قد بينت لنا كيف يحافظ الصديق المثالي على مودة صديقه، إذ بقي له اصدق وفاء في القرب والنزوح ورثاء الأمير لصديقه أمين فكري يؤكد ما نقوله فهو يقول:
حملت له بين الضلوع أمانة ... لو احتملتها الشم ذابت تصدعا
وأصفيته منى إخاء لو انه ... أعار الليالي صفوها رقن مشرعا
ومازالت أرعاه على البعد صاحباً ... وقبلي لنجم الأفق من قد تطلعا
فان يك هذا الأفق غرب بدره ... فلا زهرت فيه الكواكب مطلعاً
فكم من يد أضحت تدق بأختها ... وكم شفة باتت تجاور إصبعاً
أخلقت ثغراً عد ثغرك باسماً ... وطرفا تمنى أن ينام فيجعها
أنا ديك لا ارجي الجواب فقد مضى ... ويا لهف نفسي أن أقول فتسمعا
فلو صادحات الأيك يدرين من ثوى ... لما بتن إلا في رثائك سجعا
وهو في مراثيه لا كتفي بسرد عواطفه بل يتعرض إلى مناقب الفقيد فيجلوها جذابة من مرآة شعره، لا كمن يحشد في مراثيه ما شاء من الأخيلة والتصاوير دون أن تتصل اتصالا وثيقاً بسمات الفقيد. واقرأ معي رثاءه في عبد العزيز شاويش فستجد المعنى المطابق والوصف الموافق إذ تراه يقول:
وإذا جرت على الطروس يراعة ... بات الصرير باحتيك صليلا
تلك اليراعة ود أكبر قائد ... أو أنها في كفه ليصولا
تتجاوب الآفاق عن أصدائها ... ويرتلون فصولها ترتيلا
لافرق بين السامعين وقد وعوا ... ما قلته والشاربين شمولا
تغدو أرق من النسيم فان عدا ... خطب غدوت الصارم المصقولا
ليث متى بزأر لامة أحمد ... (ورد الفرات زئير والنيلا)
أما شعره الوصفي فقد بلغ فيه ذروة الإبداع ولا سيما حين يتحدث عن المعارك الدامية بين المسلمين والغاصبين، وقد يكون من المناسب اليوم أن ينظر القارئ إلى قصيدة الأمير في آثار (حطين) فلن يجد فيها بيتا عاديا مع أنها قد تجاوزت المائة والخمسين، وقد استهلها الشاعر يوصف نهر الأردن، مصورا تعاريجه وتدفقه متفنناً فيما يسميه البديعيون بحسن التعليل، ثم خلص إلى بحيرة طبرية فقال فيها ما لم يخطر للمتبني - وقد وصفها قبل ذلك - على بالي.
وانتقل إلى المعركة الحامية في حطين بين المسلمين والصليبين، فتدفق حماسة وخاض حيوية، وقال في حرارة واندفاع:
كأنما قومنا وقد وثبوا ... شم حصون لها القنا جدر
كأنما قومنا وقد وثبوا ... زعازع للحصون تهتصر
ذاق العدا من سلاف طغهمو ... كأسا بغير العنقود تختمر
ضراغم أجفلوا وقد نظروا ... وإنما الليث دون النمر
لم يجبنوا ساعة وإن خذلوا ... وإنما الليث دونه النمر
يوم تلاقي الجمعان وانتصف الميزان ... رهن انحرافه الظفر
عوقب بالآسر موقن بردى ... وجل ملكا مع العمى العور
وفي هذه الطويلة وصف رائع لبطولة صلاح الدين، ولا عجب فقد كان الأمير كلفا بشجاعته ومروءته، وله فيه قصيدة أخرى لا يقولها غير متيم بما ثره، معجب ببطولته، ومن في الدنيا لا يخفض رأسه إجلالا لصلاح الدين!
هذا ويجدر بنا أن نشير إلى قصيدته في آثار الأندلس فقد كانت دمعة حارة سكبها شكيب على الفردوس المفقود، وليت شعري ما يقول العربي الأبي في ارثه الضائع؟ ومجده السليب! وهل تكون قوافيه غير جمرات مشتعلة تتقد في النفوس، وزفرت ملهبة تتصاعد في الصدور؟ على أن أمير البيان قد ملك زمام شاعريته فجاء بالمعنى الرائع والوصف المحكم حين قال في وصف جامع قرطبة وأعمدته القائمة.
تراها صفوفاً قائمات كأنها ... حدائق نصت من جماد مشجرة
من العمد الأسنى فكل يتيمه ... لها نسب من مقطع متخير
نبت دونها زرق الفؤوس وأصبحت ... لدى الفرى تهزا بالحديد المعصفر
ولكن لفضل الفن ألقت قيادها ... فصال بها الصناع صولة عنتر
فبينا هي الصم الصلاد إذا انثنت ... مقاطع جبن أو قوالب سكر
عرائس للتحريم فوق رؤوسها ... أكاليل در في قلائد جوهر
ثم يمضي الشاعر إلى نهاية قصيدته لا أفلاً في هذا الوشي البديع ولست محتاجاً - بعد ما قدمته من النماذج المختارة من شعر الأمير - إلى أن أنص على انه حريصا على مقاومة التيار الجديد الذي يبيح للشاعر ما يند عنه الذوق العربي من تهرب من الوزن، وتنصل من القافية، بل انه ظل طيلة حياته يذب عن القديم بما يملك من بيان، وله في ذلك أبحاث عديدة يمكنك أن تفهم خلاصتها من قوله التهكمي (ونحن نقول للذين يتكلمون في القديم والجديد، ويزعمون أن لكل عصر مدرسة على قولهم في الشعر، أن هذه المدرسة تكون في العلم وتكون في الصناعة وتكون في الزراعة، وتكون في كل شئ إلا في الشعر؛ فان مدرسته هي القلب وطريقته هي النفس، والنفس البشرية لن تتغير ولن تتغير، فهي هي أزواقها ومشاربهاً، وما سمعنا أن الإنجليز زهدوا في شكسبير لكونه عاش قبل هذه الأيام بثلاثمائة سنة، ولا أن الألمان عابوا جوته لمجيئه قبل اليوم بمائة وخمسين سنة، فكيف نعيب المتقدمين!؟) وفي اعتقادي أن كلام الأمير جدير بالتأمل والانتباه، حتى يظهر الصبح لذي عينين.
أي نجم هوى يفقدك يا أمير البيان! وأي أمل تحطم حين ودعتك العروبة باكية إلى مقرك الأخير! وأي ارج عاطر يفوح من ضريحك الحبيب.؟!
سلام على القبر الذي ضم أعظما ... تطوف المعالي حولهم فتسلم
محمد رجب البيومي
كلية اللغة العربية