مجلة الرسالة/العدد 755/طرائق من العصر المملوكي:

مجلة الرسالة/العدد 755/طرائق من العصر المملوكي:

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 12 - 1947


3 - طرائق من العصر المملوكي:

ابن الوردي والخمول

الأستاذ محمود رزق سليم

ما هي العوامل التي دفعت ابن الوردي دفعاً إلى أحضان الخمول فارتضاه لنفسه مذهبا ومعتنقا يجد فيه لذاذة وسعادة؟. . أن من كان في مثل فضله وعلمه، من حقه على الدنيا أن تنبيه شانه، وتسعى إليه، وترفه عنه، وتنوه به، وتيسر له. فهل أبلغت الدنيا ابن الوردي آماله، وأفسحت له سبيل المال والجاه؟ كلا. . لقد روى انه دخل الشام مرة، فقرة باد في رثائه هيئته ورداءة نظره، فحضر مجلسي القاضي نجم الدين بن صصري من جملة مشهودة. فاستخفوا به وأجلسوه منهم مجلسا بعيداً؛ ثم أرادوا كتابة مبايعة ملك. فقال بعض الحاضرين مشيراً إلى ابن الوردي (أعطوا المعري بكتب المبايعة)، على سبيل الاستهزاء به. فقال ابن الوردي: (اكتبه لكم نظاماً أم نثراً) فزاد استهزائهم وقالوا (بل نظاما) فأملي لساعته نظاما لطيفا ذكر فيه اسم البائع والمشتري وحدود المبيع والشهود والتاريخ وما إلى ذلك. فاقبل القوم عليه معتذرين؛ وقد عرفوا مكانه.

فنكران المنزلة وضيق الرزق وقلة الجاه في مقدمة أسباب خموله.

وقد كان ابن الوردي - فضلا عن علمه وأدبه - ذا نفس أبية تربا به مواطن الذل، وتنأى به عن مهاوي الخضوع ولو حرم في سبيل ذلك ما يشتاق إليه من المجد: يقول:

وما جهلت نفسي المعالي وطيها ... ولكن رأت أن السلامة أطيب

أصون الذي علمته عن مذلة ... فللعز في الدارين قد كنت أتعب

ورحت خفيف الظل عن حمل منة ... لمفتضح بالمكر وهو محجب

ويقول:

ولو شئت فقت الكل حرصاً وجرأة ... وأرضى بجمعي وارثي وأعصب

أأكثر أموالاً وأحمل ثقلها ... وأتركها للوارثين وأذهب

على الله رزق الوارثين وغيرهم ... فبعدا لشخص من سوى الله يطلب

وقد كان ابن الوردي - إلى جانب ذلك كله - ذا أسرة ضخمة، فقد ترك له أبوه جملة من الأشقاء، ورزقه الله عدة من البنات. وهذه حالة تتطلب السعي الدائم، والكد والمجادلة، وبذ الحيلة. ولكن إباء نفسه لم يدع له وسيلة إلى الخضوع في سبيل الحصول على الرزق. فهو لا يحني رأسا لرئيس، ولا يقارف عملا يتنافى مع كرامته، ولا يبذل ماء وجهه لقاء عرض الدنيا. يقول:

واكتساب الغنى ينظم ونثر ... فيه نقص للفاضل المشهور

أنا لفظي در النحور ومثلى ... لم يبع بالحطام در النحور

إن فقر النفوس ذل وشين ... وغنى النفس عز كل فقير

ولا يسعى إلى منصب القضاء برشوة - وقد كانت ذائعة في عصره - بل عف عن المناصب جملة لما رأى فيه رقا لنفس الحر. فيقول بعد أن طلق القضاء:

أأرجع بعد العتق في الرق ثانياً ... فلا أم لي أن كان ذاك ولا أب

ولقد كان ابن الوردي - كما ذكرنا - قاضيا على حلب نائبا في قضائها عن قاضي القضاة الكمال بن الزملكاني وكان ابن الوردي قد مدحه بقصيدة طلليه لأنه استنقذ كنيسة من اليهود بحلب وجعلها مدرسة للحديث. فقال له:

علا لك ذكر ليس يشبه ذكر ... وأحرزت فخراً ليس يدركه فخر

ثم أرسل إليه ابن الزملكاني رسولا يطالعه بنقله إلى منج. فلم يسترح إلى النقل، وألح في العودة إلى حلب، فلم يستمع له ابن الزملكاني. فانقلب ابن الوردي هاجياً شاكياً، وكانت هذه الحادثة السبب المباشر في انه كره المناصب وحياة الوظيفية، ولجأ إلى الخمول يستعيض بالاطمئنان إليه ما فقده من جاه ورزق. قال مخاطباً ابن الزملكاني:

فعندما قال الذي قاله ... رسولكم أوضح ما أعضلا

وبان لي ما يقصد الدهر لي ... لكن رأيت الصبر في أجملا

وانقطع البحث وزال المرا ... فقدموا الناقص والاجهلا

تالله لا باشرت من بعدها ... حكما ومن يرضي بهذا البلا

فضل ابن الوردي من ذلك الحين حياة الخمول على حياة الكفاح. وارتضى عيش العزلة على المخالطة. ونشد السلو بين كتبه ودفاتره، والعزاء بين أقلامه ومحابره، وراح يرفل في ثوب من الخمول، كأنه يرفل في ثوب من النسيم. وأمعن في خموله واستمرأه حتى اصبح حبيباً إليه أثيراً عنده. راضياً بيأسه. قال: قالوا تركت الحكم قلت تركته ... وأعتضت عن خضر القضاب اليأس

قتل الأنام على الحطام نفوسهم ... فصفعت دنياهم بألف مداس

وقد استقر في نفسه أن الخمول هو نصيبه الحق من الحياة. لأنه قل أن يجتمع الحظ الحسن مع الذكاء. ويندر أن ياتمُ الجاه الواسع مع البروز في العلم والآداب. فذكاء المرء محسوب عليه. وخير لطالب الجاه أن يدع سبيل العلم والأدب ويخليها لغيره. قال:

لا تحرصن على فضل ولا أدب ... فقد يضر الفتى علم وتحقيق

ولا تعد من العقال بينهم ... فإن كل قليل العقل مرزوق

والحظ أنفع من خط تزوقه ... فما يفيد قليل الحظ تزويق

والعلم يحسب من رزق الفتى وله ... بكل متسع في الفضل تضييق

أهل الفضائل والآداب قد كسدوا ... والجاهلون فقد قامت لهم سوق

والناس أعداء من سارت فضائله ... وإن تعمق قالوا عنه زنديق

وقد بدا لنا من هذه الأبيات عقيدته في الحظ، وقد رددها في أبيات متعددة فقال منها:

لي نفس تقية لم يعيها ... غير حظي وذا نهر اختياري

جامع الحظ والذكاء قليل ... يصعب الجمع بين ماء ونار

غير أن هذه العقيدة لا يصاحبها الرضا بل السخط، ولا يخالطها الاطمئنان بل المرارة والحسرة. إلا تراه يقول؛

إن لمت حظي فلا تلمني ... فإن لومي له بحق

للضد رزق بلا حساب ... ولي حساب بغير رزق

ويقول:

شتان يا ابن فلان ... تعاستي وسعودك

أنا يدوّد قزي ... وأنت قزز دودك

وما دام أمر الحظ كذلك فلا داعي للسعي وليس المرء ناعما في خموله، لا عمل ولا نصب، ولا كد ولا أدب. ولاسيما بعد أن كافح ونافح، ودرب وجرب، فلم يظفر من وراء ذلك بشيء: قال:

ما طلبنا الخمول جهلا ولكن ... ذاك عن خبرة وعن تجريب لو منا الزحام فيه لكنا ... نشتهيه لصاحب وحبيب. . .

ويبالغ ابن الوردي فيأسف على ما فات من الزمان في غير الخمول، كأنما فاته شيء من العز والمجادة فيقول:

أسفي! كيف كنت أطلب عزاً ... بالولايات وهي عبن الهوان

كنت لا أعرف الخمول لجهلي ... ليتني كنت خاملا من الزمان

وقد أطلق له الخمول حرية القول وفتح أمامه فجاج الحديث. ففخر بنفسه ليدل الناس على مفاخره، ونقد مجتمعه ليبين لأفراده ضروب الفساد فيهم، وجأر بالشكوى مما أصابه لعله يجد فيهم سميعاً. وما كان خموله إلا شكوى صامتة واحتجاجاً سلبياً على حرمانه. فقنع ولكنها القناعة المرة. وقال:

أهملني قوم وكم فاضل ... يود أن ينظرني في المنام

ثم يقول:

قنعت والقنع يعز الفتى ... لما رأيت الحرص ذل الكرام

على أننا نعود إلى تسائلنا ونقول: هل كان ابن الوردي خاملا؟ وهل نال من وراء خموله ما يشتهي من الخمول الحق؟ كلا. . . فإن بعد عن الناس ببدنه فقد قرب إليهم بفكره، وان اعتزلهم بجسده فقد عاشرهم بشعره. ونال من وراء الجماعة عنهم ما يكون كامناً في نفسه من أمل الشهرة والذيوع. وان حرم الرزق والجاه. وقد مات ابن الوردي ولا يزال شعره يردد، وذكره يجدد، وعاش ومات في النابهين الخالدين. وكان من الشعراء القلائل الذين تركوا للناس مبادئ ومذاهب عاشوا بها ودعوا إليها.

محمود رزق سليم

مدرس بكلية اللغة العربية