مجلة الرسالة/العدد 755/تعقيبات
مجلة الرسالة/العدد 755/تعقيبات
الروح العربية:
لقد نديت عيني بالدمع، وأحسست بقلبي كأنه يريد أن يثب من بين
جوانبي وثبا وأنا استمع لزعماء العرب وقادتهم وهم يتحدثون في
اجتماعهم الأول بوزارة الخارجية المصرية عن العمل لإنقاذ فلسطين
وصيانة ذلك الوطن المقدس من طغيان الصهيونيين والاستعماريين. ..
قال لي سماحة الحاج أمين الحسيني: لقد حان وقت العمل، ولابد أن يلعب السيف دوره، وإذا تكلم السيف فاسكت أيها القلم. . . وسننتصر. . . ولابد أن ننتصر. . . وان ينصركم الله فلا غالب لكم. . .
وقال لي سعادة الأستاذ عبد الرحمن عزام باشا: حتى أنت تريد مني أن أتكلم! إننا في ميدان العمل، وإنها لكرامة العرب قاطبة، وانه لكيان العروبة في سائر أقطارها وانصارها، وانه لتراث الأباء والأجداد نحمله أمانة بين أيدينا، وان دماءنا لأقل ما يبذل في سبيل هذا كله. . .
لم اكن اسمع كلاما، ولكني كنت أرى نفوسا تتوثب بالإباء في قوة وعزيمة، وقلوبا تتدفق بالحياة في إصرار وحزم، وعواطف ثائرة متأججة كأنها زفير الجحيم على الظلم والطغيان، فأيقنت أن الروح العربية لا تزال بخير والحمد لله، وان العرب لن يضاموا ما دامت فيهم هذه الروح التي ورثوها عن آبائهم الصيد، وأجدادهم الصناديد، وان فلسطين لت تذل مادامت تحميها هذا الروح وتصونها من تناوش الذئاب.
لن يسرق العرب تحت عين الشمس مرة أخرى، ولن تذهب فلسطين فريسة في سوق السماسرة والتجار، ولن تنحني هاماتنا بعد اليوم أمام التهديد الغاشم والوعيد الظالم، فقد تيقظ العرب، وإذا تيقظ العرب، فالويل للاستعمار وصنائع الاستعمار! أنني وحدي انفرد من بين أبناء العربية فاحمد لهيئة الأمم قرارها، وأزجى الشكر أضعافا إلى الأمم التي أيدت قرار التقسيم، لأنها بهذا نادت على العرب أن يتيقظوا، وأثارت فيهم روحا كان يهدي من ثائرتها ما طبعوا عليه من كروم وإنسانية، وجعلتهم يواجهون الحقيقة حتى لا تعصف بهم الخديعة على غرة، والأمر كما قال شوقي شاعر العرب:
وكم في طريق الشر خير ونعمة ... وكم في طريق الطيبات شرور
النصر الأول:
إني أرى التاريخ يعيد نفسه اليوم!
فقد حدث من قبل أن طغى كسرى وبغي، صر النعمان ابن المنذر شر مصرع، ثم أرسل إلى هانئ بن قبيصة يطلب منه ما استودعه النعمان من الدروع والرماح، حتى ابنته أيضاً، فابى هانئ عليه ذلك وفاء بحق العرب، فآسرها كسرى في نفسه، وحشد على العرب زحفا من جيوشه يسد عين الشمس، وحسب انه ساحقهم لا محالة، وعلم بذلك الشاعر الأيادي لقيط بن معمر الذي كان يتولى الكتابة في ديوان كسرى، ففزع لقومه، وأرسل إليهم بهذه الصحيحة التاريخية يقول:
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... إلى الجزيرة مرتادة ومنتجعا
ابلغ أبادا وخلل من سراتهم ... إني أرى الرأي - إن لم اعص - قد نصعا
أني أراكم وأرضاً تعجبون بها ... مثل السفينة تغشي الوعث والطبعا
ألا تخافون قوما لا أبا لكم ... أمسوا إليكم كأمثال الدبا سرعا
يا قوم أن لكم من ارث أولكم ... مجدا قد شفقت أن يفنى وينقطعا
يا قوم لا تأمنوا أن كنتم غيرا ... على نسائكم كسرى وما جمعا
هو الجلاء الذي يجتث أصلكم ... فمن رأى مثل ذا رأيا ومن سمعا
قوما قياما على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا قد ينال الأمر من فزعا
وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
ولقد استجاب العرب لهذه الصحيحة، واندفعوا على مضطلعا ولقد استجاب العرب لهذه الصحيحة، واندفعوا على صداها يدودون عن شرفهم وحرماتهم، ووقف هانئ بن مسعود على جموع العرب يخطب خطبته المأثورة: يا معشر بكرا! هالك معذور، خير من ناج فرور، أن الجازع لا يرد القدر، وان الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، واستقبال الموت خير من أستدباره، فالجد لجد، فما من الموت بد! وهب العرب أنفسهم للموت في سبيل الشرف والكرامة، فكتب الله لهم النصر والحياة، ومكن لهم من الفرس وقهر الطغيان، وبلغ الأمر إلى النبي صلوات الله وسلامة عليه، وكان قد بعث، فقال: (اليوم أول يوم انتصف فيه العرب لأنفسهم من العجم، وبي نصروا)!
وابتدأ التاريخ من يومذاك يكتب للعرب صفحات مشرقة حافلة بالنصر بعد النصر على العجم، وما زالوا أورثهم الله لأرضهم وديارهم!
ذلك ما كان من تاريخ النصر الأول للعرب، حفز إليه طغيان كسرى، وان العرب اليوم ليمشون إلى النصر الخالد يحفزهم إليه قرار تلك الهيئة في جانب الظلم والبهتان، ويعلم الله أننا ما كنا نبغي العدوان، ولكن الأمر كمال قال أبو الطيب شاعر العربية:
غير أن الفتى يلاقي المنايا ... كالحات ولا يلاقي الهوانا
وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تكون جبانا
نشيد العروبة:
والآن، وأبناء العروبة يمشون إلى ميدان الجهاد، ويتحفزون لتضحية والفداء، والشباب الفتى في القاهرة ودمشق وبيروت وبغداد وعمان وفلسطين وسائر الأقطار العربية يستفزهم الغضب لكرامتهم والذود عن كيانهم، إلا يجدر أن يكون لهم نشيد واحد يهتفون به لفلسطين، ويكون حداؤهم المؤتلف في مواكب الجهاد ضد الغاضبين!؟
اجل، انه لواجب أن تنحى أناشيدنا المحلية اليوم جانبا، وان يكون لنا اليوم (نشيد العروبة) يهتف به كل لسان، ويفيض به كل وجدان. . . فلعل شعراءنا ينسون أحاديث الغزل والهيام، وينحدرون من أبراجهم العاجية إلى مواكب المجاهدين بأشعارهم وأناشيدهم!
إن الشاعر الذي سيكتب (نشيد العروبة) في هذه الآونة الحاسمة، سيكتب لاشك لنفسه الخلود. . . فيما ترى من هو الشاعر الذي سيكون لذلك الموقف، ولذلك اليوم؟!
الدكتور. . . احمد أمين:
حدثني الثقة أن الأساتذة الذين يقومون بالتدريس في كلية الآداب قد اجتمعوا فيما بينهم وقر رأيهم على أن يتقدموا إلى مجلس الجامعة بمنح الأستاذ احمد أمين بك درجة الدكتوراه الفخرية تقديرا لعلمه ولجهوده في خدمة الحياة الثقافية والعلمية.
والأستاذ احمد أمين بك رجل اخذ حظه ومكانته، فلن ترفع من قيمته دكتوراه فخرية، ولا يغض من مكانته عدم حمله لهذا اللقب الذي يحسبه بعض الناس كل شيء في العلم والمكانة، وكم بيننا من (دكاترة) ليس لهم من اثر ومن صلة بالعلم الأجمل هذا اللقب الضخم، ولكني اكبر هذا الوفاء من رجال كلية الآداب واحمد لهم هذا تقدير للعلم في ذاته، وإكبار له في شخص رجل بذل في سبيل العلم نور البصر، وضحى بحياة الرفاهية والتقلب في أعطاف الراحة.
اجل، لقد وقف الأستاذ احمد أمين حياته على خدمة العلم، وقدم للمكتبة العربية تراثا ضخما من البحث والدرس يستحق به كل تقدير، وسيمتد هذا التقدير في نفوس الأجيال المتعاقبة، ما دامت الثقافة العربية زاهرة مشوقة. أقول هذا ولعل القراء يذكرون أني هجمت على هذا الأستاذ الفاضل منذ قريب في الرسالة لرأي أبداه ولمست فيه شيئا من الإسراف، وحسب أستاذنا صاحب (الرسالة) أني اجحد فضل هذا الرجل. . . كلا! ولكني افضل دائما بين الرأي وصاحبه، وان خطا من الأخطاء لا يحملني على أن اجحد ما هناك من حسنات، خاصة وليس في نفسي شيء من أحد والحمد لله. وقد كنت في دروسي اخذ بتلايب أساتذتي ولكني كنت أجلهم واحبهم حبي لوالدي، وما زالت هذه صلتي بهم. فلا عجب أن اغتبطت بهذا الخبر، وأكبرت هذه التقدير لذلك الأستاذ الجليل. . .
(الجاحظ)