مجلة الرسالة/العدد 758/إلى أبناء الجنوب. . .

مجلة الرسالة/العدد 758/إلى أبناء الجنوب. . .

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 01 - 1948



للأستاذ محي الدين صابر

مشى على القيد أباء وأبناء ... في السجن ينفضهم برد وظلماء

والجوع يأكلهم والعرى يلبسهم ... يضج في روحهم جهد وإعياء

والذل يدفن في جبهاتهم أمماً ... راحوا إلى المجد غلابين أو جاءوا

ترتد أنفاسهم في القيد ضارعة ... تكاد تنكر أن القوم أحياء

مهدَّمون مساكين الخطى مِزَق ... كأنهم في يد الجلاد أشلاء!

خمسون عاماً مشت فينا دقائقها ... كالجيل فيه مصيبات وأرزاء!

تغلي الدماء على أحقادهن بها ... وتستجيش من الثارات أحشاء

فاليوم حين يهد السجن مقتتل ... ويحطم القيد ثوار. . . أشداء

واليوم حين يفيض الفجر من دمنا ... وحين تمتد أفاق وأجواء

وحين نحشد في التاريخ مقدرة ... لها إلى الخلد إسراء وإفضاء

وحين ينتقم الوادي لوحدته ... وحين يثأر في الساحات فداء

من يخطب المجد لا يبخل بتضحية ... وإن تكن دمه فالمجد حسناء!

يا نيل شعبك، أبطال وآلهة ... لهم على الدهر شارات وسيماء

كم راية لك مثل الشمس ظافرة ... سعى بها ظافر، للنار مشاء.!

وكم هياكل مثل الليل خاشعة ... أطال فيهن سجَّاد ودعَّاء!

حبا عليك الزمان الطفل تنشئة ... حتى نمت منه أحيان وإناء!

أما الحياة فكانت فكرة ومنىَّ ... وأنت سجد وأحداث وأنباء!

أسميتها! فجرت الشوق في دمها ... وقمت تحنو عليها وهي عذراء

يا نيل! يا ساحر الوادي وسامره ... كأنما أنت في الشطآن صهباء

على النخيل ابتهالات وأخيلة ... وفي الخمائل أنغام وأصداء!

وأنت حلم على الضفات مبتهج ... وخاطر ملهم الإبداع. . . . وشاء

وشيتهن: فحقل مترف خضل ... وجنة طلة الأفناء. . . لقاء

استبق ماءك تهتز الظلال به ... فاليوم ساعة لا ظل ولا ماء! فأنت تنبت للراضين ما بذروا ... يغله لهم خصب. . . وإنماء

والدم ينبت للفادين معجزة ... خير ما أستنبتوا، مجد وعلياء

ونحن نوشك أن نجني فقد رويت ... حرية ضخمة الأعلام حمراء

تسع وعشرون مليونا لو احتشدوا ... لأعجزوا الموت والأقدار لو شاءوا

لنا إلى مهبط الوادي ومطلعه ... من صحوة الشوق حنات وإصغاء

وللكفاح وراء البحر منسرب ... تهزنا منه اقباس. . . . وأضواء

وإن تغرب منافي الدماء دم ... فللقلوب مع الفادين. . . إسراء

بنى الجنوب! وللأيمان غضبته ... ولطواغيت. . . إزباد. وإرغاء

وللحوادث شدات ومعسرة ... فينا. . . وللظلم تنكيل وإلواء

ماذا فعلتم وقد ألقى القناع لكم ... وقد بدت منه أشياء وأشياء؟

خمسون عاما وفي السودان صفحته ... دم ودمع وأحزان وبأساء

ففي الجنوب عراة في كيانهم ... ذل وجوع وآفات وأدواء

لا أظلم القوم قد أهدوا لهم صُلبا ... يمشي بهن على الأهوال أنضاء

وفي الشمال. . . جنايات تنظمها ... يد تنكل بالأحرار، نكراء

فقيد الفكر: لا صوت ولا قلم ... حتى الصحافة فهي اليوم شلاء

ومد للدرس والإرهاب ظلهما ... كأنما عهده: ليل. . . وصحراء

فالسيف منصات والسوط منجرد ... والسجن متسع والحكام أهواء

أين الضرائب يجبيها مضاعفة ... ولا رقيب له عد وإحصاء!

ما فاته في القرى نبت ولا شجر ... وفي البداوة لا أبل ولا شاء

والشعب يصرخ يا جهدي ويا عرقي ... وأذنه عن صراخ الشعب صماء

يا شعب ما لك أجر الذل يأخذه ... والذل، يا شعب، تسليم وإعطاء

ففي المصارف أوراق وأرصدة ... وفي القصور. . لذاذات ونعماء

ولست تملك إلا أن تقول له ... (صدقت) أن قال تعمير وإنشاء

سيقرأ الدهر للأجيال قصته ... وأنها قصة سوداء. . شنعاء.

بني الجنوب فهذا حين محنتكم ... وليس تغفر بعد اليوم أخطاء يلوى بحقكم السجان معتديا ... كأنه منح منه. . وآلاء

يقلب القيد، كالحاوي على يده ... قالوا له: لعبة شمطاء خرقاء!

في كل يوم يسميه ويصقله ... وليس للقيد ألوان وأسماء

فهو (الرفاهة) أحيانا ... وآونة هو (المصير) وإن ينصف (فإفتاء)!

وبين ذلك (مشروع) (وسوْدنة) ... و (مجلسان) وتلميح وإغراء!

فتلك رقصة مذبوح يحاولها ... دعوه يسكن له حسن وأعضاء

وليبين ما شاء من أوهام باطلة ... فلم يعد للنوايا السود إخفاء

سيهدم الشعب أعلاه وأسفله ... والشعب والشعب هدام وبناء

بنى الجنوب؛ وقد أبلت طلائعنا ... ولم ترعنا. . أعاصير. . وأنواء

ما حاكم جاءنا والسيف في يده ... وفي جوانحه حقد وبغضاء

بأي منطق جبار يهددنا ... كأننا (لمعاليه). . أرقاء؟!

قولوا له: لن ترى ما بيننا رجلا ... له على صفعه الجلاد إغضاء

فليس يجمل في التاريخ منزلة ... إن قال: لي فيكم صحب وأعداء!

قولوا له: قال هذا الشعب قولته ... وأنها قولة كالفجر. . بلقاء

هي الجلاء عن الوادي بلا أجل ... ووحدة في ظلال التاج شماء

بنى الجنوب لقد أزرى العدو بنا ... وما تزال له في الظلم. . غلواء

انحن في كل حرب مرة شند ... للعاجزين بدا والحرب هوجاء!

في (طبرق) دمنا يشكو وفي (كرن) ... وفي الصحارى حشاشات وأحناء!

حتى إذا النصر واتى قام يجحدنا ... فيه حليف لنا بالأمس بكاء!

هل كان غاية هذا الجهد ما صنعوا ... من مجلس هو ثارت وشحناء!

للناب خلف القناع الزيف ... صرصرة وللمخالب. توجيه وإيحاء!

هي المطامع أن جاروا وإن عدلوا ... وليس من آفة الأطماع أبراء

وليس في شرعهم للعدل ناحية ... وللظلامة. والتطفيف إيخاء

كبيرهم فيه حناث ومغتصب ... أما الصغير فمعصوب ووفاء!

قد ثار بينهم (محمود) في يده ... وثيقة من كفاح الشعب غراء كأنما كل لفظ قام. . . يرسله ... كبيبة حرة الأبطال شهباء!

نادى بحرية الوادي فانصفها ... منه جرئ على العادين، أباء

ينازل الخصم أيمانا ومقدرة ... والخصم داهية في الأرض دهياء

وراح بزار (إسماعيل) مقتتلا ... كأنه طعنة في الظلم نجلاء

وحوله من صميم الشعب كوكبة ... حمس، على نوب الأيام أكفاء

إن مال بالرأي ذو ضلع ومختلق ... فما استلان لهم عزم وإمضاء

والشعب في شرف الأحرار يذكرهم ... إن عد من حسنوا فيه، ومن ساءوا!

بنى الجنوب، إذا الحرية اختلفت ... شاراتها فهي تضليل إغواء؟

عدوكم واحد، والقيد مشترك ... اذن، ففيم اتجاهات وأراء؟

هو الدخيل، فإن تحطم سلاسله ... فقد تناصر في الوادي الأشقاء

الأمر، ما بينهم شورى ومرحمة ... كما يشاءون، تخيير وإرضاء

حرية الشعب أيمانا وتضحية ... وقدرة والتزامات. . . وأعباء

بنى الجنوب، وفي الفاروق معتصم - كأنه قدر. . . بالخير مضاء

نذود عن عرش وادي النيل في شرف ... فعرشه قمة في شعب عصماء

فاروق كرمة بالعدل فأنفسحت ... منه ظلال رحيمات وأنداء

في عدوتيْ ملكه شعب يقدسه ... حباً ويهديه رأى منه وضاء

(باريس)

محي الدين صابر

عضو بعثة فاروق الأول للسودانيين بفرنسا