مجلة الرسالة/العدد 758/على عتبة الأربعين

مجلة الرسالة/العدد 758/على عتبة الأربعين

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 01 - 1948



للأستاذ علي الطنطاوي

نزعت رجلي من الركاب، وطردت من ذهني هم السفر، ونفضت ما علق بذاكرتي من غبار الحاضر، ثم نفذت إلى ما احتوت من كنوز الماضي، من معجزات البطولة والنبل، من تاريخنا الواقع، الذي لا يصل إليه خيال غيرنا، ولا يتعلق به وهمهم وحاولت أن أكتب للعدد الممتاز من الرسالة فما سرت في الفصل غير بعيد، حتى تباطأ قلمي ثم تعثر، ثم وقف. . . وأحسست في نفسي بهذا الضيق الذي ما أنفك يلازمني منذ أكثر من عشر سنين فيطفئ وقد حماستي، ويعقل نشاطي ويغلق أبواب الإلهام دوني، فلا أكتب ما أكتب إلا لملء الفراغ، وتزجيه الوقت كالذي يمشي العشية يجر نفسه جرا لا يسوقه مقصد، ولا تجذبه غاية. . .

ونظرات فإذا أنا بعد شهرين، أتم الأربعين أربعين سنة قمرية درت فيها مع الفلك، وسايرت الشمس واستقبلت السنين ثم ودعنها كما استقبلتها وأستولدت الآمال، ثم دفنتها كما أستولدتها ورأيت أفراحاً ورأيت أتراحاً، وصادقت وعاديت، وأحسنت وأسأت، فما الذي خرجت به من ذلك كله؟

لقد قطعت في هذه السنين الأربعين أكثر الطريق ولكن لم أعرف بعد إلى أين المسير! ومشيت أكثر من أربعة عشر آلف يوم تباعا ولكن لم أدر إلى أين أمشي!

أنني أصحو كل يوم فاكلم أهلي، واكل طعامي واذهب إلى عملي، ثم أعود إلى داري فاكتب مقالتي أو أنظر في كتابي، أو أوزر أصحابي، أو ألهو بما يلهو به مثلي، ثم أنام لا صحو من الغد، فأعيد الفصل ذاته. . . ولأيام تكر، والسنون تطوى، والعمر ينصرم، وأنا (امثل الرواية) الأبدية صحو ومنام وشراب وطعام، وصمت وكلام، ووداد وخصام. أما أن أعرف نفسي وأخلوا بها ساعة كل يوم، واسأل من هي، ومن أين جاءت وفيم وجدت وإلى أين تمضي، فهذا ما لم أفعله إلى اليوم. بل أني لأفر منها فرارا وأخاف أن أخلو بها، فأتشاغل عنا بحديث تافه، أو كتاب سخيف أو لهو باطل وإذا أنا ألزمت صحبتها وعدمت الشواغل عنها، ضقت بنفسي وضجرت وأحسست كأني سأجن!

وأنا أصرف العمر في قطع العمر، واجعلي أكبر همي أضاعه يومي، كأني أعطيت الح لأعمل على تبديدها فإذا لم أجد ما أمزق به الوقت، واضطررت إلى مواجهة الزمان، في ساعة كساعات الانتظار، ضقت بعمري، وضجرت، وأحسست كأني سأجن! أني أركض أبداً وراء المستقبل ففي المستقبل أبلغ آمالي وفيه أصلح نفسي، وفيه أنيب إلى ربي، وفي أكتب تلك المعاني التي طالما جاشت بها نفسي، ولم يجربها قلمي، وفيه أؤلف الكتب الكبار التي طالما أزمة تأليفها وفيه أصنع كل شئ. ولكن المستقبل لن يأتي أبدا، وحين يأتي يصير (حاضرا) واذهب أفتش عن (مستقبل) أخر، فأنا كالفرس الذي يعدو ويشتد ويكد نفسه ليدرك حرمة الحشيش، والحزمة معلقة في عنقه يبصرها أبداً أمامه، ولا يصل إليها فلا يزال يسعى حتى يدركه الكلال، فيقع أو تعترضه حفرة فيسقط فيها. . ولكن الحفرة التي أسقط فيها أنا لا قيام منها، ولا مناص من ورودها ولا يستطيع أن يجتنبها كبير ولا صغير ولا غني ولا فقير ولا أمير ولا أجير. . .

وإذا أنا وصلت إلى الأمل الضخم، هان علي، وذهب بهاءه، وامحت روعته، كأن الآمال سراب لا يلمع إلا من بعيد.

لقد كان أكبر أملي يوم كنت في الابتدائية أن أكون معلما، وكنت أتوهم حياة المعلم فأوجدها جنة أنزلت الارض، فيها ما تشتهي الأنفس. . . أليس المعلم يأمر فيطاع أمره وينهي فيجتنب نهيه، ويوفى التبجيل وينال، الإكبار؟ فلما صرت معلما لم أجد من تلك الجنة إلا الذي تجده من الفوطة في الشتاء، أرضاً موحلة ما فيها إلا الشوك وأشجاراً يابسة ما فيها إلا الحطب، ورأيت مدرس الثانوية أعلى قدرا، واقل عملا واكبر مرتبا وأوسع جاها، فأملت أن أكون خطيبا، وأن أكون كاتبا وأن أكون قاضيا وأن أكون خطيبا وان أسيح في البلاد. . فلم أجد في الأمل إلا الألم لانتظاره ثم الملل من بقائه فتيقنت الآن أني لو صرت رئيس الجمهورية أو صاحب (الأهرام) أو كان لي مال (عبود)، لذهبت الأيام بلذة ذلك كله، وهونه الاعتياد، فلم أستفد منه، إلا حسد الحساد عليه، والحسرة، أن فقد، لفقده. . . وأن متع الدنيا أوهام، من لم ينلها تشوق إليها وحسد عليه، ومن نالها ملها وتمنى غيرها: المتزوج يتمنى العزوبة، والعزب يشتهي الزواج، والمقيم يرجو السفر والمسافر يطلب المعاد، والريفي يحن إلى المدينة والمدني يتشهى الريف، ونحن كلنا أطفال. . . تشتري للطفل اللعبة النفيسة فيفرح بها، ويهش لها، ثم يلقيها ويطلب غيرها، ولو كان دونها ثم أن الآمال لا تنتهي. . . فمن أعطى المليون أبتغي المليونين، ومن رفع في الوظيفة درجة طلب درجتين فلا يزال في سقاءين شقاء بالحاضر الذي لا يقنع به وبالآتي الذي لا يصل أليه. . .

أفلهذا وجدت وسعيت أربعين سنة؟ أسعيت لأدرك السراب؟

وتتالت على الفكر، وعاودني الضيق الذي طالما كاد يدفعني (لولا خوف الله) إلى طلب الموت من سنين، وما أشكو المرض فصحتي جيدة ولا أشكو الفقر فأجد من المال يكفيني، وإنما أشكو فراغا في النفس لا أعرف مأتاه وقوى في لا أجد لها مصرفا وحنينا إلى شئ غامض لا أدري ما هو على التحقيق. . .

وتركت القلم والورق وقمت أدور في الغرفة فوجدت على نضد إبريقا من البلور الصافي، طويل العنق واسع البطن فيه نحلة قد دخلت ولم تستطع الخروج، فهي تتحفز وتتجمع وتثب مقدمة بقوة وباس، فيضرب الزجاج رأسها ويردها فتعاود الكرة، وهي لا تبصر الجدار، وإنما تبصر ما وراءه فحسب أنه ليس بينها وبين الفضاء حجاب فجعلت أنظر إليها وهي تعمل دائبة كلما ضربت مرة عادت تحاول أخرى، لا تقف ولا تستريح، حتى عددت عليها أكثر من أربعين مرة، تجد الصدمة كل مرة فلا تعتبر ولا تدرك الحقيقة، ولا ترفع رأسها لتبصر الطريق وتعلم أن سبيل الفضاء، وباب الحرية هو من (فوق) لا عن يمين ولا عن شمال. . .

فتعلمت من هذه النحلة ما كان خافيا عني: تعلمت أننا مثل هذه النحلة نحسب أن الانطلاق أنما يكون على الأرض فنقدم، فتضرب العوائق وجوهنا وتردنا، فنقعد يائسين، أو تعاود الكرة مستميتين، نحسب الانطلاق في الشهرة أو في المال، أو في متع الجمال، وهيهات. . وهاهم أولاء السياسيون والممثلون والمغنون، تطبق الأرض باحثيهم، ويشتغل الناس بأخبارهم، ويرون صورهم ويسمعون أصواتهم فما الذي يحصل من ذلك في أيديهم، وماذا ينفعك أن يكون الناس كلهم يمدحونك إذا كنت منفردا في غرفتك مبتئسا، تعس النفس محزون القلب؟ وها هم أولاء الشباب الأغنياء يؤمون كل ملهى ويستمتعون كل يوم بجمال جديد، فهل ذهب ظمأ قلوبهم إلى ارتياد منابع جدد لك ظمأ؟

وها هم أولاء المحبون المدفون، يعانقون من يحبون والنفس لا تزال بعد مشوقة ليس يرويها عناق ولا أقترب، ولا يشبعها شئ من متع الجسد.

وها هم أولاء (الملايرة) المؤلفون، هل أشبعت ملايينهم نفوسهم ورزقتهم القناعة والاطمئنان؟

فما هذا طريق السعادة، أن الطريق على الأرض مسدود، والفضاء من حولك له حدود وما طريق الفضاء وسبيل الانطلاق إلا من (فوق)، هناك عالم النفس تنشط النفس كما برقت لها منه بارقة، أو لاح علم: كلما سمعت نغمة سحرية فيها رنة من ذلك العالم، أو قرأت قصة عبقرية فيها إشارة إلى ذلك المجهول، أو وعت موعظة علوية فيها قطرة من ذلك الينبوع.

الآن عرفت فيا ضيقة هذه السنين الأربعين!

لا تقولوا، أنك تكتب في الدين وفي الفضيلة، وإنك تدعو إلى الخير لأني عزمت على أن أقول الليلة الحق، ولو كان على نفسي. الحق يا سيادة، أن الدعاة اليوم إلى الله، لا أستثني واحدا ممن أعرف منهم، كلهم ممثلون، يلبسون في المجلة أو على المنبر ثياب المسرح، فيبدون بالجبة والعمامة فإذا انقضي (الفصل) خلعوها وعادوا إلى بيوتهم، فعكف عابد الدينار منهم على معبودة، ماله إلا جمع المال هم وعابد الشهوة عليها، وعابد الجاه، وعابد المنصب تعددت الأصنام والشرك واحد! أنهم ممثلون وأنا أول الممثلين.

ولو كنت صادقا لما الفت في سيرة أبي بكر وعمر، ثم عدلت عن سنتهما، وسرت غير سيرتهما، ولو كنت صادقا إذ أدعو إلى الإسلام، ونهيه، ولو كنت صادقا لما انغمست في حماة هذه الحياة التي سال علينا سيلها من الغرب، ولو كنت، كان عشرة مثلي صادقين، لما بقى في الأرض فساد. ولقد طهر الأرض من أوضارها منبر واحد من الخشب، ثلاث درجات ليس لها وازين، ولا عليها قبة، ولا لها باب، فلم تظهر الأرض مائة ألف منبر مزخرفة منقوشة محلاة لها أبواب جميلة وقباب؟

ألان الناس فسدت طبائعها؟ لأن الزمان قد دنا أخره؟ لا. بل لان القائمين عليها وعاظ من خشب يحملون سيوفا من خشب!

أما أن الحق، الذي لا بد الليلة من الصدع به. . . أنه. . . لا هذه المواعظ، ولا هذه المقالات، هي التي توصل إلى الله، ولكن يوصل أليه، أن يعود كل إلى نفسه، فيسأل من أين جاءت، وفيم خلقت، وإلى أين المصير؟ وأن يعلم كل أن الطريق من (فوق)، فيرفع رأسه ليرى الطريق. ومن منا يرفع اليوم رأسه، ونحن كالنحلة لا تمشي إلا على الأرض؟ بل أن منا م هو كالفراشة، تسمى إلى النار، يحسبها هي باب الانطلاق!

أن المسيحيين يصلون لربهم قبل الطعام على المائدة، وقبل الدرس في المدرسة، ويوم الأحد في الكنيسة، فتعلم أنهم مسيحيون، فما يصنع كثير من المسلمين، وأي علامة تدل على أنهم مسلمون، من ساعة يصبحون إلى ساعة يمسون! لا صلاة، ولا ذكر، ولا تميز الحلال من حرام، أن عملوا فضيلة فباسم الأخلاق والفضيلة ولاصحة، لا باسم الإسلام. فما الفرق بينهم وبين غيرهم؟

يقولون أن الدين المعاملة والصدق والقصد والاعتدال، وأن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك.

صحيح، ولكن هذا من الدين، وليس هو الدين!

وهذا شان كل شريف، يستوي فيه الشرفاء جميعا، فما معنى تفريقهم إلى مؤمنين وملحدين وعباد وثن؟

وهذا كله للحياة الدنيا، فما الذين نعمله للحياة الأخرى؟ لا، بل الذين، أن تتصل بالعالم العلوي، وأن تراقب الله، وان تعلم أنه مطلع عليك أبدا، وانه يرعاك بعينه فترعاه بقلبك وتطيعه بجوارحك.

هذه غاية الخلق، وهذا سر الوجود، ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، لا عبادة عادة، وصلاة رياضة، وصوم استشفاء، وحج سياحة؛ بل العبادة التي يحس بها القلب حلاوة الأيمان، ويذوق فيها لذة العبودية، ويستشعر فيها القيام بين يدي الله. ولتغامر مع ذلك في ميدان الحياة، ولتقحم لجها، ولتأخذ أوفر قسط من طيباتها، ومن علومها ومن فنونها، ولتكن قويا ولتكن غنياً.

هذي حقيقة الدين، وهذي غاية الحياة، فهل يصل إلى الغاية من مشى أربعين سنة مائلا عنها، ضالا طريقها؟

إلا يا ضيعة هذه السنين الأربعين!

(دمشق ص. ب 19) علي الطنطاوي