مجلة الرسالة/العدد 758/لا تملوا

مجلة الرسالة/العدد 758/لا َتَملُّوا

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 01 - 1948


للأستاذ محمود محمد شاكر

شد ما فزعت حين قرأت في صدر الأهرام (الاثنين 5 يناير 1948) نبا تلك المحاولة الجديدة للتوفيق بين فرنسا والمغرب (أي مراكش). وقد أثر الموحي بهذا المقال أن يسمى هذا الأمر (محاولة جديدة) ولكني أعلم أنها ليست سوى (حيلة) أخشى أن تغرر بكثير من قراء العربية، لقلة إطلاعهم على أنباء هذا الشعب الأبي السجين الذي ضربت عليه فرنسا نطاقا من الكتمان والصمت، لم يضرب على شعب قط في هذه الدنيا، ولا في بلاد السوفيت. وأنا أحب أن أكشف الغطاء عن هذه (الحيلة) التي يراد بها تضليل الناس عن حقائق كالشمس ظاهرة لكل من متعه الله بنعمة البصر. واحب أن أصفي هذا الكلام لقراء (الرسالة) لأنهم هم الفئة الحية التي لتعلم وتعمل بما تعلم.

فهذا الشيء الذي سماه بعضهم (محاولة جديدة للتوفيق بين فرنسا والمغرب) ليس شيئا سوى محاولة من فرد واحد يعاونه قليل من الناس على أحداث خرق إجماع أمة كاملة، وصدع بنيان مرصوص لم أعلم فيه إلا خيرا وتماسكا وبقاء على كلمة الحق التي لا تزول، وهي (مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال) أن كان ثمة حاجة إلى مفاوضة أو معاهدة.

وبلاد المغرب ثلاثة: يونس، والجزائر، ومراكش، وفي كل قطر من هذه الأقطار الثلاثة حزب له الكثرة الساحقة، بل لا يكاد يوجد فيه أقلية حتى نقول أن لهذا الحزب كثرة ساحقة بل الحزب هو الأمة وهو التعبير الصادق عنها. وهذه الأحزاب لا يمكن أن تسمى أحزابا بالمعنى المعروف في مصر والذي كان وليد الاحتلال البريطاني الذي فرق الكلمة وباعد بين القلوب.

ففي تونس الحزب الدستوري، ورئيسه الحبيب بور قيبة، وفي الجزار حزب الشعب، ورئيسه أحمد مصالي الحاج، ومندوبه في مصر والسودان هو الشاذلي المكي، وفي مراكش حزب الاستقلال ورئيسه محمد علال الفاسي. وفي المنطقة الخلفية عن مراكش حزب الإصلاح ورئيسة عبد الخالق الطريس. وهذه الأحزاب هي المعبرة عن بلاد المغرب كلها، ورؤساؤها جميعا مقيمون ألان في مصر، وجميعهم على رأي واحد قد أذاعوه في كل وقت وفي كل بلد وهو (لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال). وهم جميعا لا يزالون إلى هذه الساعة على هذا الرأي لم يتحول عنه أحد منهم، ولن يتحول بأذن الله. وإجماع هؤلاء الرجال هو إجماع أمم المغرب كلها، شعوبا وأفراداً وهؤلاء الرجال هم الذين شردتهم فرنسا أو أسبانيا وسجنتهم ونفتهم واضطهدتهم وباعدت بينهم وبين أهليهم وحلائلهم وأبنائهم وأرادت أن تعصم أعوادهم فلم تجد باساً ومضاءً ومصابرة وجهاد في سبيل الحق الأول لكل شعب وهو الحرية والاستقلال. وهؤلاء الرجال هم الذين بقوا إلى اليوم لا ينخدعون بما انخدعت به أمم من قبلهم من مفاوضات ومعاهدات ومحادثات، وسياسات خربة خراب ذمم اليهود. ومن هؤلاء الرجال وحدهم يؤخذ حديث ما بين فرنسا والمغرب، وعلى هؤلاء الرجال وحدهم يعتمد، والى هؤلاء الرجال وحدهم تلقى شعوب تونس والجزائر ومراكش بالمقادة، بعد أن جربتم وعرفتهم واطمأن قلبها إليهم والى ما يأتون وما يذرون. وهم رجال يعملون ولا يدعون ولا يتظاهرون ولا يخادعون الناس بشيء لم يكن، أو بسلطان لهم لم ترضه بلادهم وشعوبهم وهم قائمون على الدعوة إلى تحرير بلادهم ولهم مكاتب في مصر والشام وفي فرنسا وإنجلترا وأمريكا، لم تزل تتكلم بالكلمة الواحدة التي لا حول عنا وهي: (لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال). فما هو أذن (حزب الشورى والاستقلال) الذي أتخذ لنفسه رئاسته محمد بن الحسن الوزاني هداه الله، خطاه أنه حزب كما تسمى الأحزاب، ولكني أعلم ويعلم كل من وقف على حقيقة النبأ في بلاد المغرب، أنه حزب لا يتبعه من شعب مراكش أحد إلا من شذ عن إجماع أمة قد جاهدت منذ سنة 1912. وظلت تقاتل فرنسا وإسبانيا إلى سنة 1933 لم تضع السلاح إلا بعد أن فنيت صفوة المجاهدين وقل الزاد وعز السلاح وحوصروا حصارا شديدا أكثر من إحدى وعشرين سنة كاملة.

وما أظن أحدا نسى جهاد البطل الذي أذل هامات الأسبان والفرنسيس حتى خدعوه وأمنوه ثم غدروا به وهو الأمير محمد أبن عبد الكريم الخطابي.

أن هذا الحزب الذي قدم إلى المقيم الفرنسي الباغي الجنرال جوان (مذكرة إضافية لتعمل حكومة باريس على تحقيق ما ورد فيها بما يحفظ حسن العلاقات مع فرنسا) لا يعبر البتة عن عزيمة شعب مراكش، بل يعبر عن رأي رئيس الحزب ونائبه وحدهما؛ فنحن نعلم علم اليقين أن حزب الاستقلال، وحزب الإصلاح في مراكش، هما صاحبا الرأي الأول والأخير في هذا الأمر الذي يتعلق بإجماع الشعب المراكشي، وأن الأمة المراكشية كلها من وراء كلمتها: (لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال) ونحن نعلم أن جلالة محمد الخامس ملك مراكش يعلم أن الشعب مجمع على أن لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال، وانه هو نفسه الذي يتولى قيادة الدعوة إلى أن لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال.

وقد استطاع نائب حزب الشورى هذا، أعني الأستاذ العلمي، أن يوجه نظر الصحافة المصرية إلى هذه البدعة التي مضت عليها شهور منذ قام محمد بن الحسن الزواني داعيا إلى الاتفاق مع فرنسا، أو على الأصح مظهرا رغبته في الاتفاق مع فرنسا بعد ابتعاده عن حزبه الذي نشا فيه، وهو حزب الاستقلال الذي يرأسه محمد علال الفاسي. وقد نجح الأستاذ العلمي مرتين، ولكن هذه الأخيرة هي أشدهما خطرا ولو علمت الصحافة المصرية أن شان حزب الشورى الذي ذكرناه، لا يكاد يكون شيئا في بلاد مراكش لطوت هذه الصحيفة مرة واحدة، ولرجعت في حديثها عن شان مراكش إلى رؤساء حزب الاستقلال وحزب الإصلاح وسائر الأحزاب المغربية في تونس والجزائر، ولو فعلت لعلمت أن هذه (المحاولة الجديدة) ليست سوى محاولة رجل فرد زعيم حزب، نعم، ولكن يغير شعب.

وكان حقا على هذه الصحف المصرية أن ترجع إلى كتب المغرب العربي لتقف منه على حقيقة ما تقول. وكان حقا عليها أن تعتبر هذا الحزب بأشباهه عندنا من الأحزاب التي لا شعب لها إلا رئيسها، وكان حقا على هذه الصحف أن تعرف أن سائر رؤساء أحزاب المغرب مقيمون في مصر منفيون عن بلادهم فكان لزاما أن ترجع إليهم قبل أن تنشر أشياء رئيس حزب الشورى المفاوض الجديد، فهو مقيم تحت ظل السلطان الفرنسي هناك في مراكش وهؤلاء سائر رؤساء الأحزاب المغربية مشردون منفيون مهاجرون إلى مصر، لكي يخدموا بلادهم هذين أولى بأن يكون هو المطالب بحق بلاده؟ وأيهما أولى بان يؤذن له ويستمع؟ وأيهما أصدق تعبيرا عن رغبة الشعب الذي ظل إحدى وعشرين سنة يقاتل في كل بقعة من بقاع المغرب وحيدا مجهولا حتى تفانى شيوخه وهلك كهوله وذبح فتيانه، وورثوا أبناءهم أحقاداً لا تموت على فرنسا وعلى الطغاة من أشباهها.

وهؤلاء الزعماء الذين ذكرناهم أنفاً هم بقية السيف، وهم المشردون المعذبون وهم العاملون الصادقون الذين أثروا الجهاد على أموالهم وأنفسهم وأهليهم وذراريهم، وخرجوا يطوفون في الدنيا ليؤلبوا العالم كله على بغي فرنسا وطغيانها وعدوانها وظلمها، وقد تركوا وراءهم شعوبا تدين لهم بالطاعة، ولا ترضى أن تدين لأحد سواهم، لأنهم أنما يعبرون عن سر عزائمها ونياتها، أي عن الجهاد في سبيل بلادهم بلا هوادة، وإلى أن ينالوا حقهم كاملا ثم تخونه مكايد الاستعمار وخدعه، وقد أتعظ هؤلاء الأبطال الصناديد بما لقي بعض أخوانهم من أمم الشرق حين زلقت أقدامهم فزلوا في المهاوي المظلمة المتشعبة التي تسل القوى من نفس سالكها، إلا وهي هوة المفاوضات والمعاهدات والمحادثات، التي ابتدعتها شياطين الاستعمار الذين يعرفون باسم ساسة بريطانيا، ففرقوا بين الأخوين وباعدوا بين العشيرتين ومدوا المطامع الخائنة الأعين، فهب فريق من هنا يقاتل من أهله هناك ووقف بريطانيا بينهما تنظر وتضحك وتسخر، وتحرك هذه الدمى إلى أن تنقطع الحبال فتهوى في الهوة السحيقة الملعونة هوة المفاوضات والمعاهدات والمحادثات. لقد عرفوا ذلك فأبوا أن يكونوا طعاما لمستعمر جبار يريد أن يتلعب بهم، فاختاروا ما هو أهدى لأممهم وأبقى على وحدتها، واشد لقوتها وأنأى بها عن العداوات بين بعض الشعب وبعض لقد عرفوا أن قيادة الثوار، تفضي عليهم أن ينظروا إلى خير هؤلاء الثوار قبل أن ينظروا إلى خير أنفسهم وعرفوا أن الذي هم مقدمون عليه هو الجهاد الذي لا ينتهي حتى ينتهي هذا الاستعمار البغيض، وأن الأمم المجاهدة في سبيل حقها ينبغي أن تظل مجاهدة حتى تنال حقها وانه ينبغي أن ينشا الجيل من شباب الأمة بعد الجيل، وهو يرى أمامه مجاهدين لا يفترون ولا يضعون السلاح، فذلك أحرى أن يملأ قلب الجيل حمية وأنفة ورغبة في بلوغ الكمال في العلم والمال والسلاح، حتى يجاهدوا كما جاهد آباؤهم وإخوانهم من قبل. وعرفوا أن المهادنة في مثل هذا أنما هي مهادنة تورث الشعب ضعفا، وتمكن للدساسين الخبثاء أن يتخافتوا بينهم في الدعوة إلى ما يفت القوى ويضعضع العزائم، فلا يلبث أن ينفض عن المجاهدين من تخاذل واثر الراحة على لأواء الجهاد. وعرفوا أيضاً أن الشعب الثائر غير الشعب الذي يتبحبح في مسارح السلم، فأولهما ينبغي أن يظل ثائرا لا يعرف اللين أو التسليم أو الأخذ بيد والإعطاء بالأخرى. وفيم يلين أو يسلم أو يأخذ بيد ويعطي بأخرى؟ أفي الحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية؟ أنبئوني أي شئ من هذه الثلاثة يتجزأ حتى يقبل اللين أو التسليم أو الأخذ بيد والإعطاء بأخرى، وهو جوهر المفاوضات والمعاهدات والمحادثات.

لقد عرف هؤلاء النفر الذين رضى الله عنهم ورضيت عنهم أممهم، أن الذي بينهم وبين فرنسا هو الحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية، فعلى فرنسا أن تسلم وأن تلين وأن تعطى بيد ولا تأخذ شيئا، لأنها لن تأخذ إذا أخذت إلا ذلك الذي أعطت. وهذا بداهة العقل وبداهة النفس الطبية، وبداهة الفطرة والاستقلال، وأما الصراع في سبيل الحرية والاستقلال، ولا مفاوضة على شئ ينبغي أن يتم جميعا أو لا يتم البتة على نقصان وتخون وتمزيق، ولا معاهدة لحر على ترك شئ من حريته لغاصبه وسالبه والمهيمن عليه بالطغيان والجبروت، فهو أن شاء منع وان شاء أعطى.

كلا، أنه الحق فلا معاهدة ولا مفاوضة ولا محادثة إلا بعد الاستقلال وجلاء أخر جندي فرنسي وإسباني عن أرض المغرب كله: تونس والجزائر ومراكش. وإن في البلاء الذي ابتليت به مصر والسودان والعراق وشرق الأردن وسواها من البلاد. لعظة لكل امرئ أضاء في قلبه الإيمان بالحرية والكرامة الإنسانية.

وما الذي يريده حزب الشورى الجديد في مراكش؟ أيريد أن تلقى بلاد المغرب على يده ما لقينا من بلبلة وضياع وهلاك وضعف؟ أيريد أن يرى الشعب المراكشي أحزاباً يأكل بعضها بعضا، ويتشاحن ضعيفها وقويها على مناصب الحكم؟ أيريد أن يرى كل أسرة في بلاد المغرب قد مزقتها الأهواء وعصفت بها عواصف الشهوات الخفية إلى متاع قليل من متاع هذه الدنيا من مال أو سلطان؟ أيريد أن يرى الشعب يتلهف البائس المسكين على فتات ما تجود به عليه فرنسا في معاهدة يقال له اليوم أنها (معاهدة الشرف والاستقلال) ثم يقال له بعد غد أن هذه المعاهدة نفسها (حماية بالثلث)؟ أيريد أن يرى بعد قليل شباب بلاده وهم يتطاحنون على أسماء رجال لو أنكشف الغطاء عنهم لكانوا سوءة في كيان الشعب لو عقل لسترها كما يئد أهل الجاهلية بناتهم خشية الخزي والعار؟ أم يريد أن يرى هؤلاء الشباب وهم لا يثقون بأحد من رجالهم بعد كشف الغطاء عن فصائحهم، فيكونون حربا على بلادهم يطعنون أنفسهم كل طعنة نجلاء بقولهم: (إننا شعب لا يصلح للاستقلال)؟ أيريد هذا الذي لقيته أمم من قبلهم فاوضت وحادثت وعاهدت، فخرجت من ذلك كله منهوكة مجرحة معذبة تمتهن أشرف شرفها باخس قول وأرذله؟.

حاشا لله أن يريد حزب الشورى لبلاده مثل هذا. وأنا أعرف الوزاني منذ أكثر من عشرين سنة، فأنا أسأله بالعهد الوثيق أن يفئ إلى ما فيه مرضاة الله، وما فيه خير بلاده وخير أمته، وأن يدع فرنسا بشر النظرين، لا يقربها إلا مقاتلا مجاهدا رافعا باسم بلاده وحريتهم واستقلالها وكرامتها، وما خلق الإنسان إلا للجهاد في هذه الحياة حرا كريما، فإذا سلب الحرية وذيد الكرامة، فعليه أن يجاهد في سبيلهما جهادا متطاولا هو وأبناءه وذراريه لا تداخلهم سامة ولا ضجر ولا ملل مستعينا بالله الذي ينصر المستضعفين في الأرض وينصر الذين لم يملوا الجهاد فيلجئوا إلى المهادنة أو المفاوضة.

أيها الإخوان الصناديد جاهدوا وصابروا ورابطوا ولا تملوا حتى يأتيكم نصر الله، ولا تعجلوا على ربكم فان الله لا يمل حتى تملوا فإذا مللتم يحيق بكم ما حاق بكل من هادن في حقوق بلاده.

محمود محمد شاكر

ذكريات وخواطر