مجلة الرسالة/العدد 76/فضول ملخصة في الفلسفة الألمانية

مجلة الرسالة/العدد 76/فضول ملخصة في الفلسفة الألمانية

مجلة الرسالة - العدد 76
فضول ملخصة في الفلسفة الألمانية
ملاحظات: بتاريخ: 17 - 12 - 1934


2 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا

للأستاذ خليل هنداوي

نقد العقل

ليست غاية هذا النقد إحباط نتائج العلم النظري، ولكن غايته أن يسيره في مناهجه الواضحة، فالعلم النظري الذي كان في عهد ما ملك العلوم قد فقد تأثيره، لأنه قد آلى على نفسه أن يتوجه لمباحث تكاد لا تغنى شيئاً، يريد من ورائها التحقيق، وهي - كل يوم - ينقضها من عالم الواقع ألف برهان وبرهان، ثم انتهى (كانت) إلى الشكوكية، ثم الحيادية التي يقول عنها: (هذه التي تظهر عند تفتح العلوم، وتعمل على إظهار العلم الذي حانت ولادته؛ أليست هذه الحيادية من الأشياء التي تسترعي انتباهنا؟ أنها والحق ليست بوليدة الخلفة، ولكنها وليدة محاكمة عصر طويل، شاء ألا ينخدع بظواهر المعرفة كثيراً، أنها دعوة عنيفة تدعو عقلنا إلى عمل عنيف، إلى معرفة نفسه،، وإنما هي تهذب مجلس يذود عنها ويصون تعاليمها الصحيحة، ويحكم عليها إذا ظلمت حسب شرائعها ونظمها الثابتة، وما هذا المجلس إلا مجلس العقل الخالص

والعقل الخالص عند (كانت) هو العقل نفسه، قبل أن يدخل الامتحان في تلافيفه شيئاً، هو العقل المجرد قبل أن ينطبع فيه شيء، وفيه ثلاث قوى نفسانية: الأولى قوة المعرفة التي تنطوي على الإدراك والحكم العقلي، وترتيب الأحكام، وهي تبحث عن أكناه الأشياء وحقائقها، والبحث فيها يتعلق بنقد العقل الخالص. والثانية خاصة الإرادة، وهي تبحث عن الخير، ومرجعها إلى نقد العقل العملي. والثالثة هي الشعور بالسرور والشقاء، وموضوعها الجميل، ومرجعها إلى نقد الحكم

وماذا أستطيع أن أعرف؟ هذا هو السؤال الذي يضعه الفيلسوف أمام نفسه، وهو ينبغي حله. أن كل معرفة تبدأ عن طريق الاحساس؛ ففي كل إحساس يجب أن نفرق بين مادتين: بين المادة التي تهدينا إليها حواسنا، وبين الهيئة التي لا يختلقها العقل من الخارج، ولكنه يجدها في نفسها متعلقة بهذه المادة؛ إن في عقلنا إدراكات خالصة ملهمة، كالصور المنطبعة في اذهاننا، ومن بين هذه الصور الداخلة في كل امتحان دخولاً اضطرارياً صورتان، وصفهما (كانت) بدقة ومهارة وحكمة. وهما: (معرفة المكان والزمن) فان هذا المقياس ليس له قياس، أو كما يقول هو عنه ليس له حقيقة مدركة، وعلمنا المبني على مثله لن يكون نصيبه من الحقيقة اكبر منها، إذ ليس للزمن والمكان حقيقة ذاتية ممكن إدراكها، وما الزمن والمكان إلا مقاييس نسبية ابتدعناها تساعدنا على إدراك الاشياء، فهي كالمرآة التي تعكس لنا صورة العالم كما نراه نحن محدوداً بمقاييس الزمان والمكان لا كما بني على حقيقته.

وفي جهة أخرى نرى علمنا كله ليس إلا مظاهر، يضعف ويقوى بحسب الملاحظة، ولا يكون قوياً إلا بنا، لأنه لا يملك شيئاً من الجزم والقوة بنفسه، وليس ببعيد أن يكون وراء عالمنا هذا عوالم يدرك أصحابها معنى هذا الوجود، بخلاف ما أدركته عقولنا، ويحدونه بمقاييس تتباين عن مقاييسنا، والحقيقة إننا فهمنا العالم كما نود أن نفهمه، وأدركناه كما تستطيع مداركنا إن تدركه، وهذه الحقيقة التي نسجنا نحن خيوطها ستظل محاطة بالروعة والجلال، ولن تغبر الطبيعة نظرتنا إليها حتى تغير أوضاع تفكيرنا وتبدلنا بها أوضاعا أخرى

وهذه النظرة العميقة هي النقطة التي ترتكز عليها فلسفة كانت، ومثله الأعلى الذي يفترضه مثلاً أسمى من المثل الشائعة، فهو يجحد حقيقة العالم الخارجي، ويرتفع بذاته عن المادية، ويعتقد أن أدوات معرفتنا أداة للإدراك، لا تقع تحت سلطان الحواس، لأنها منعزلة عنها وأسمى منها. وبهذه الأداة نراه ينتقل إلى عالم الله والروح والوجود، ويؤسس على كل عالم منها فكرة، ولكن حقيقة هذه العوالم برغم إنها شغلت العقل وتشغله وسوف تشغله لا تزال محجوبة عنا، بل يجد كانت أن تشبثنا بإدراكها عن طريق التجربة لا يغنينا نفعاً، بل يتركنا فريسة الخيالات والاعتراضات المتتالية

الله، والروح، والوجود: ثلاثة أكون متعاقبة لا تبدو للعين حقيقتها

نقد العقل العملي

للشاعر هنري هاين دعابة لطيفة ذكرها في كتابة (ألمانيا) قال في جملة بحثه عن كانت: (ولما وصل - أي. كانت - إلى هذه النقطة التفت وراءه فوجد خادمه الكهل (لامب) يبكي، فقال كانت: إن لامب ليس له إله. . . ولكن لابد له من إله يضمن سعادته في العالم) فكتب كانت إذ ذاك نقد العقل العملي، وما العقل العملي إلا نفس العقل النظري منتحياً للعمل، وهو يستمد أصوله من نفسه كالعقل النظري مجرداً من كل تجربة؛ ترى الشريعة التي يرتبها على نفسه تصير شريعة عامة، وليست هذه الشريعة محدودة بفكرة الخير والشر، وإنما هي فكرة محدودة بنفسها، تنبثق من ذاتها وتعود إلى ذاتها، فما تراه الأخلاق خيراً يكون خيراً وما تراه شراً يكون شراً، وهذه الشريعة تولد رأساً من الشعور لا تفتقر إلى شيء من المنطق، ولا تحتاج إلى نظرة من نظرات العقل، وإنما هي تفرض نفسها بنفسها إذا فرضت، كأنها صيغة أمر شامل مطلق، والشريعة الأخلاقية هي لغة الطبيعة السامية في الإنسان، وقد يسمو الإنسان بقدر ما تتجلى فيه هذه الشريعة على قدر ما توائم أعماله قواعدها

وهكذا جرب كانت أن يجمع كل ما تحتوي عليه الشريعة الأخلاقية في دستور واحد يضم إليه جميع ما يركب الإنسان من واجبات في المجتمع، وهذا هو الدستور أو الكلمة الجامعة التي يريدها الفيلسوف (أعمل دائماً عملك وأنت تتمنى أن الطريق الذي سلكته يصبح شريعة عامة) أليست هذه الكلمة هي صدى الكلمة القديمة القائلة (عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به) إن هذه الكلمة لا تحدد إلا علاقة الفرد مع الفرد، وكلمة (كانت) تضع الإنسان الفرد إزاء المجتمع كله، فإذا قدر للخير أن يمتد سلطانه ويظهر أمره في الأرض فإنما تظهره جهود الناس المتضافرة وسمو طبيعتهم العالية، وهكذا بني (كانت) على هذه القواعد نظرية جديدة في عالم ما وراء الطبيعة ووجد مجالاً جديداً ليبحث عن الحرية والخلود ووجود الله بعد ما ترك العلم النظري هذه العوالم كلها فراغاً يباباً. فإذا كانت الشريعة الأخلاقية فرضاً على الإنسان وديناً لا مفر منه، وإذا كانت هذه الشريعة واجباً مطلقاً عنده، فهي ذلك لأنه قادر على إتمامها، إذا فالإنسان حر، والحرية هي ابنة الشعور الطبيعي، والحرية هي ضالة العقل العملي. وقد لا نستطيع أن نثبت وجود الحرية نظرياً، ولكنها تستمد وجودها من وجود الشريعة الأخلاقية التي يتوقف فهمها على وجودها. وكذلك الأمر في بقاء الروح ووجود الله

العقل العملي يبعث فينا نشاطاً غريباً يدفعنا إلى مثل الكمال. هذا المثل الذي يملك علينا سلطانه كل شيء هو سلطان الخير المطلق. وإذا كان الخير المطلق شرطه الأول هو الفضيلة فهو إذا داع من دواعي السعادة، بل يوجب العقل أن تكون الفضيلة والسعادة من عنصر واحد

لنترك الخير المطلق، ولنعتبر الشريعة الأخلاقية وهماً أو خرافة، أفلا نؤمن بأن هنالك نظاما شاملا للأشياء مؤسسا على معنى السعادة والفضيلة، وأن هنالك في قلب الكون علة عاقلة تحكم وتسيطر وتربط بين الأجزاء وتؤلف وتفكك، وهذه العلة تحتم وجود الله؟

وهكذا نرى العقل العملي يقدر له الإثبات بغير برهان، والعقل النظري يعجزه أن يبرهن، ويتساءل (كانت) عن سر التنازع بين العقلين:

ولكن أليست الطبيعة التي ابتلت أحدهما بالعجز والوهن هي القاسية؟ ولكن لنفرض أن الطبيعة قد وافقتنا على أمانينا، ومنحتنا ما تمنيناه منها، ووهبتنا أنوار الهداية التي نهيم فيها، ولنفرض أن البعض مناقد ملك عليها، فماذا تكون النتيجة؟ أتدرونها؟ سيكون الإله بعظمته وروعته متمثلاً في أعيننا وفي أنفسنا، نطيع شريعته المرسومة طاعة عمياء لا نحيد عنها ولا نعتسف طريقها، ولكن أعمالنا هذه لا يقودنا إليها إلا عصا الرهبة تأتيها خالية من الفضيلة المبتغاة لذاتها، وهل يكون كل إنسان في كل ما يأتيه إلا كالآلة الميكانيكية تأتي ما يطلب منها وتؤمر به غير واعية ولا شاعرة؟ إن كل شيء يمشي في السبيل القويم؛ ولكنك تتلمس باطلاً نسمة الحياة تلفح هذه الوجوه الشاحبة التي أكلها السأم. . .

والآن، ونحن على هذه الحالة قد دلتنا الكائنات على عظمة المبدع ونزل فينا شرائعه الأخلاقية من غير أن تمنينا بالوعود أو تروعنا بالوعيد، وانفسح لكل واحد منا سبيله يبلغ به المثل الأعلى في الوجود

وفي النهاية يقول كانت إن النظام الإلهي مؤسس على شريعة الأخلاق، فإذا وجد الله، وإذا خلدت الروح فذلك لأنني أشعر بأني أحيا حراً، وأن حريتي بدون وجود الله وخلود الروح تغدو وهماً باطلاً. الإله الحقيقي - عند كانت - هو الحرية، ومما إله الديانة إلا وزيره الأول، وهو يحترم الدين بقدر ما يرعى للأخلاق والفضيلة عهودهما وذممهما، ويرى أن ممارسة الخير هي أسمى عمل يحبه الله يتبع

خليل هنداوي