مجلة الرسالة/العدد 76/تاريخ الأدب الألماني

مجلة الرسالة/العدد 76/تاريخ الأدب الألماني

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 12 - 1934



بقلم إبراهيم إبراهيم يوسف

تمهيد:

عنى أبناء العروبة في عشرات السنين الأخيرة بدراسة الآداب الغربية دراسة توحي الاطمئنان نوعا إلى ما سوف يكون عليه الجيل المقبل من تنوع الثقافة. وكانت آداب لغرب في نظر المتأدبين منا في بادئ الأمر هي الآداب الفرنسية وحدها، ثم انتهى بهم الأمر، وذلك منذ ربع قرن أو نحوه، إلى الأخذ بدراسة الآداب الإنكليزية أيضاً، وبذلك اتسع نطاق معرفة الآداب الغربية بعض الشيء. ولكن برغم هذا فإننا ما زلنا في مستهل الطريق. ولعل الخطوة الطبيعية التي تتلو ذلك ويتبعها المتأدبون في الشرق الأدنى والأوسط، ولا تكون إلا دراسة الآداب الألمانية دراسة جامعة، بعد أن أخذوا بقسط غير قليل من الآداب الفرنسية والإنكليزية. . . نعم لقد ظهرت بوادر هذه الدراسة في مصر منذ عشر سنين أو تزيد، إلا أنها كانت دراسات موجزة لا تتفق وعظمة الآداب الألمانية ووفرة كنوزها وارتباطها بالآداب الغربية والشرقية على السواء، ومن أجل ذلك كله حق لبعض من عكف على دراسة الحياة الأدبية في مصر وبقية بلاد الشرق العربي أن يقول عنا بأننا اقل الشعوب المتمدنة إلماماً بالآداب الألمانية. . . والواقع أن هذه الظاهرة لا تلائم بغية المتأدبين، إذ أول واجباتهم نحو الأدب بالذات أن يحيطوا علماً بالآداب العالمية، وليس من ينكر بأن للألمان صرحاً فيها مازال، وسيبقى، موضع فخر الأدباء في كل صقع. . .

لهذا كله ونزولاً على إرادة بعض من أجلهم، رأيت أن أكتب في هذا الباب، عسى أن أوافق إلى إثارة الرغبة عند كرام القراء في الإطلاع على الآداب الألمانية، بقدر توفيقي إلى استمالة الأدباء للإكثار من نقل غرر الآداب الألمانية

مقدمة:

لا تخلو الآداب الألمانية في أطوارها التاريخية من صفات عامة مشتركة بينها وبين الآداب الأوربية الأخرى. نعم إن عصور ازدهار الآداب الألمانية وعصور سقوطها لا تسير مع العصور التي تماثلها في آداب فرنسا أو إنكلترا أو إيطاليا، ولكن ليس معنى ذلك إن الآ الألمانية في تطورها لم تكن مرتبطة بالحركات الدينية والثقافية والاجتماعية التي غمرت القارة الأوربية. فقد كانت ألمانيا قبل دخول المسيحية إليها في حالة أقل ما توصف به إنها حالة غامضة مهمة، وكان الناس إذ ذاك يكادون ألا يعرفوا شيئاً غير الجمود والنسك، شأنهم في ذلك شأن بقية الناس في البلاد الأوربية الأخرى. ثم تلا ذلك عصر آخر اضطر فيه فرسان الحروب الصليبية إلى التقهقر أمام المدن الثائرة. وجاء عصر الإصلاح ممهداً لعصر النهضة. وكانت ألمانيا أسرع من جيرانها استجابة للحوادث الجسام التي كانت تنتاب أوربا من وقت إلى آخر. وإذا كان من المسلم به أنه لا يوجد أدب أوربي كان في كل تطوراته مستقلاً تمام الاستقلال عن آداب جيرانه، فانه مما لا شك فيه أن الآداب الألمانية مدينة بالشيء الكثير إلى آداب الغير. لهذا كانت دراسة الآداب الألمانية هي، إلى حد بعيد، دراسة ما يطلقون عليه اليوم اسم (الأدب المقارن)، وإذاً فمن المهم معرفة مركز الآداب الألمانية بالنسبة للآداب الأوربية، وعلاقة هذه بتلك. وستؤدي بنا طبيعة هذا البحث إلى التمييز بين الوطني من آداب الألمان والأممي منها. وكذلك سنقف على مدى تشعب كل من النزعتين في تطور الآداب الألمانية وما ينتسب منها إلى الوطنية، وما له صلة بالتاريخ السياسي أو الاجتماعي

ولكل من مؤرخي الآداب الألمانية طريقه الخاص في استعراضه لتاريخ هذه الآداب. وكذلك كانت نظرة كل منهم في تقسيم تاريخه إلى مراحل. وموقفنا هنا يضطرنا إلى الأخذ بالسهل منها؛ ولذلك يمكننا القول بأن تاريخ الآداب الألمانية ينقسم إلى ثلاثة أقسام بينة، لثلاثة عصور مختلفة، لكل عصر منها لغته وطابعه. فالقسم الأول يشمل العصر القديم للألمانية الرفيعة الذي يبدأ حوالي سنة 750 ميلادية، وينتهي حوالي سنة 1050. والقسم الثاني يشمل العصر الوسط لآداب الألمانية الرفيعة، يبدأ من سنة 1050 وينتهي سنة 1350 ميلادية، ثم العصر الأول لجديد آداب الألمانية الرفيعة الذي يبدأ من سنة 1350 وينتهي سنة 1700 ميلادية، ثم تلي تطورات الآداب الألمانية في هذه المراحل الثلاث تطوراته الأخيرة في كل من القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين

وسنعالج كل طور من هذه الأطوار التي مر بها الأدب الألماني في باب خاص، جاعلين بغيتنا في ذلك إيضاح النزعات الفنية في الآداب الألمانية وأثر كل منها في تاريخه العصر القديم للألمانية الرفيعة

الثقافة الألمانية الأولى

نجد في تطور كل أدب عهداً مرتبطاً بما اتفق على تسميته في التاريخ السياسي (بعصر ما قبل التاريخ). وفي ذلك العصر لم تكن للشعوب ثقافة عامة، كما لم يكن لها أدب مخطوط، ولم يكن للألمان في ثمانية القرون الأولى المبتدئة من يوم مولد المسيح شيء ينم عنه تاريخهم السياسي من ثقافة عامة. كذلك لم يكن لهم أدب مخطوط يمت إلى الحوادث الواقعية حتى عهد كارل العظيم. والواقع أن التاريخ القديم للعشائر الجرمانية لا زال موضع جدل بين المحققين، ولا يمكن الإجابة القطعية على سؤالك من أين جاءوا، ومتى أتوا إلى الجهات التي استوطنوها. ولكن من الثابت انهم ينحدرون من الأسر الجرمانية الهندية وموطنها الأصلي أواسط آسيا. وكانوا في نفس الوقت الذي أخذت فيه روما توطد مركزها في جنوب أوربا يقطنون البلاد الواقعة على شواطئ بحر الشرق الممتد فيما بين بحر البلطيق وبحر الشمال. وكان أول من جاء بأخبارهم إلى العالم المتحضر في القرن الرابع قبل المسيح، رجل رحالة مغامر اسمه بييتس فأثبت انهم يتكلمون بلهجات ألمانية دون شك، إذ هي تختلف عن بقية اللغات الأوربية الهندية , -

وربما كان أول حدث سياسي هام بدل من كيان تلك الجماعات التي كانت تسكن المناطق الواقعة على بحر الشرق، هو ذلك الذي أثار التفرقة بينهم وجعلهم فريقين: فريق الجرمانيين - , وهم الغوط , والعشائر التي استوطنت اسكندنافيا وفريق الجرمانيين الغربيين - , وهؤلاء كانوا يؤلفون الجنسيات الوطنية التي عرفت فيما بعد , الإنجليز - والجرمانيين البحريين - وهم الذين يتكلمون اليوم اللغة الهولاندية واللغة العامية الألمانية ثم الجرمانيين العلويين , ومضت بضعة قرون قبل أن تستقر هذه العشائر في موطنها الجديدة. وكانت غزوة الجرمانيين لأسكندنافيا قد تمت قبل مولد المسيح ببضعة قرون. ثم حفزتهم غريزة الترحال فيهم إلى الرجوع ثانية إلى الجنوب فأسسوا دولة الدانوب البحرية

أما الجرمانييون الغربيون فكانوا أقل من زملائهم سرعة في التطور، إذ لم يدعهم يوليوس قيصر القرن الأول قبل المسيح يستقرون في مكان، وظلوا أشبه بالقبائل الرحل حتى كانت غزوة , أواخر القرن الرابع، التي ربكت عامة الجرمانيين

وكان النزاع بين الجرمان والدولة الرومانية قد استمر نحو نصف قرن، مما دفع مؤرخي الرومان إلى حب الوقوف على أحوالهم. فكان منهم تاكيتوس وهو في كتابة كثير التدقيق والتحقيق، وقد قال فيه أن الأبجدية لم يستعملها الجرمان في مراسلاتهم بشكل عام إلا في القرن الثالث. وهم ككل شعب مبتدئ ليس لهم شعر مخطوط. وفي أغانيهم القديمة، وهي المستند الوحيد، يحيون إلاههم تيستو الذي أنبتته الأرض كما يحيون ابنه ما انهما أي الجنس الجرماني. وللبطل أرمينوس في أغانيهم. وكان له نشيد وطني معروف بأسم ينشدونه والدروع إلى أفواههم ليكون له دوي عظيم. وكانت أناشيدهم الدينية وأغاني تمجيد أبطالهم تقرن بالرقص ويسيرون في مواكب تشبهاً بالجرمانيين الأقدمين كما جاء في ذلك الشعر؛ وكان قدماء الجرمان يطلقون على هذه الحفلات أسم لايكاس وكانت هذه هي الخطوة الكبرى نحو وأضاف تاكيتوس إلى ذلك القول بأنه لا بد أن يكون للجرمانيين أدب له سحره وجماله الذي نجده عند الأوربيين الهنود كافة. وللجرمان غير ما ذكرنا أغان للموتى، وأخرى لانتصار الشمس على الظلام والزوبعة، وغيرها عن الحدث الأكبر: موت النهار، أو عن ذبول الصيف. وهذه الأغاني بقايا خرافاتهم القديمة عن الطبيعة

وكان الغوط أول من نهض من الجرمان بحياة ثقافية. وفي دولتهم التي أنشئوها في المنطقة القريبة من الدنواب خطوا خطوات سريعة نحو الثقافة ونحو المدنية. ولعل مركزهم الجغرافي هو الذي ساعدهم على الاتصال بالفكر الإغريقي وبالمسيحية، بينما كان إخوانهم في الشمال ما يزالون همجاً وثنيين

ويعتبر فولفيلا - الذئب الصغير أول من وضع أساس الأدب في لغة الغوط

(للبحث صلة)

إبراهيم إبراهيم يوسف