مجلة الرسالة/العدد 761/الشاعر
مجلة الرسالة/العدد 761/الشاعر
للأستاذ طاهر محمد أبو فاشا
(مهداة إلى الطائر الصامت الصديق الشاعر الأستاذ المهدي
مصطفى)
إلى مثله تصبو عذارى الخواطر ... وفي يومه تصحو سكارى المزاهر
وفي كل همس حول معناه ضجة ... وفي كل معنى منه أقنوم ساحر
ألَّم على الأيام يسقى جديبها ... ويبني جديداً فوق أطلال دائر
هو الشعر ما غنى ربيع، وما بكى ... خريف، وما اخضلت عيون الأزاهر
تراتيل أنسام، وتسبيح جدول ... وانه موجوع، ومصباح جائر
تشهته أم الفجر معنى لضوئه ... وعاقره في الليل صمت الدياجر
وودت بنات الزهر لو أن غرفها ... من الفن نهب للسوافي الثوائر
وإن حياة لا تحس جمالها ... لتكنيف مصفود، وصفقة خاسر
هو الشعر ما كانت حياة، وما جرى ... على صفحة المقدور إلهام قادر
تغنت به الآباد من قبل عزفه ... كلاماً فجاب الدهر اول عابر
وأرهض للأوتار من قبل عزفه ... كلاماً فجاب إلهام قادر
ودقت نواقيس الحياة، وأطلقت ... رهابينها في الأرض سحر المزامر
ونادى مناد في السماوات: أو قدموا ... كواكبها فاليوم ميلاد شاعر
فضج باعراس السماوات عيدها ... وقر على شط الحياة شريدها
تجردت الأنغام فهي عوالم ... يترجم أسرار الوجود وجودها
وأقبل رب الشعر في آي موكب ... تحف به حور السماء وغيدها
وطاف به جبريل قبل نزوله ... إلى العالم المحدود والرض بيدها
فلما دنا من جوهر الشعر زلزلت ... به الساحة الكبرى، وماج أبيدها
وقيل له: يا شاعر الكون هذه ... هي الجذوة الأولى، وأنت وقيدها
وغوث بالنار القديمة كاهن ... ومس بها الدنيا فضاء عموده ودب بها معنى جديد، وامرعت ... بطائحها الجدباء واخضر عودها
واطلع ساقي الشعر في البيد كرمة ... منغمة يحدو الزمان نشيدها
ونادى نبي قومه: تلك واحة ... على الأفق عذراء الجنان ولودها
فما آمنت بالشعر إلا لحونه ... وران على الأرض العجوز جمودها
وقدر للدنيا الشقاء فألحدت ... وجدف غاويها، وضل رشيدها
واشرعت الأطماع فيها ضغائناً ... يجادل في معنى السلام حديدخت
وما كدر الأيام إلا ظماؤها ... وهل شاب ماء العين إلا ورودها
فلا طاب نفسا بالحياة شقيها ... ولا قر عينا بالحياة سعيدها
أنشد في دنيا الحيارى من اهتدى؟! ... أفي الحانة الحمراء ترتاد معبدا؟!
هرقت إذن - يا سادن الشعر - لحنه ... وأهدرت للغافلين نايا مسهدا
هي الأرض طبع في بنيها. ومن تكن ... جبلته الأولى ترابا تمردا
وكم ضارب فيها تعكاز تائه ... يعد من الموتى ترابا تمردا
وكانت حياة الناس لولا زحامهم ... عليها طريقا للسلام معبدا
فلا تك نجما جاوز الليل وحده ... ببيداء فأنثالت أشعته سدى
لمن شارق في الأفق أن كنت لا ترى ... وفيم هتاف الورق أن كنت جلمدا
هنالك والدنيا رواية ظالم ... إلى وقصة مظلوم، وتلفيق منتدى
وفي ليلة ظلماء ينسل برقها ... كما جردت كف الكمي المهندا
وفوق رباة يكمن الدهر عندها ... وتبصر فيها - قبل مولده - غدا
دعا ربه الشادي، وأوفى بشعره ... إلى العالم الثاني، ومد له بدا
وكف عن الأوتاد فهي نواشز ... كأعصاب محموم ألح به الصدى
وقال بنو الموتى: (لقد مات شارعر) ... وكيف يذوق الموت من كان مخلدا
بقدر شعور المرء يمتد عمره ... وفي حماة الأوهام يردى بنو الردى
وما مات شاد بالجمال، وإنما ... إلى عالم الألحان عاد كما بدا
ومن فهو الأيام لحنا مجدداً ... قرأت له الأيام لحنا مجددا
طاهر محمد أبو فاشا