مجلة الرسالة/العدد 761/من وراء المنظار

مجلة الرسالة/العدد 761/من وراء المنظار

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 02 - 1948



انتقام!

صخاب ثائر لا يقر له قرار، ينبعث صوته الغليظ الضخم من قاع حنجرته فإذا به مثله خوار الثوار إذا اهتاج؛ وانه ليحدث من الضجيج وحده مالا يحدثه نفر من الرجال مجتمعين، وما انبعث جلبة من الشارع في اي ساعة من النهار أو الليل إلا ردها أهل الحي اليه؛ ولا شهدوا زحمة أما دكانه إلا أيقنوا إنها (خناقة) وهو بطلها، ولا وقعت مشاجرة فعلا إلا سألوا من المضروب هذه المرة فما يقع في وهمهم قط إلا انه هو الضارب، وما احسبهم لو رعدت السماء وأرقت إلا ظنوا بادئ الرأي انه بدا إحدى معاركه. . ذلك هو بائع عصير القصب الذي ابتلانا به الله فجعل دكانه تجاه بيتنا يفصل بيننا وبينه الشارع، والذي استغنى به من يخوفون الأطفال عن (البعبع) والغول والدب وأبى رجل مسلوخة واضرابها، ولا عجب فانه والله لحري أن يخوف به الرجال.

فظ غليظ في حدود الأربعين، بين الطول والقصر، متكرش كأنه بطنه قربة سقاه تحت ثوبه تترجرج، ضخم الزندين، متشحم العاتقين، غليظ العنق، منتفخ الأوداج، مترهل اللغاديد، صغير الراس حتى لتبدو عمامته الصوفية البيضاء نصف وجهه، مفتول الشاربين صغير الحدقتين ضيق الجبهة، واسع الفم طويل الأنياب: يحسبك أن تنظر إليه لتوقن أن في بني ادم من ينتسبون إلى الآدمية ظلماً. .

وقف هذا العتل أما دكانه يصفع بيده الغليظة (صبيه) وهو فتى في نحو الخامسة والعشرين قصير غير بدين ولا نحيف، وعجبت إذ رايته مطرقا مسبل العينين وملابس العمل تحت إبطه، لا يتحرك إلا بقدر ما يتحاشى الصفعات واللكمات ولكنها تنزل جميعا على وجهه وقفاه وعاتقيه؛ والمني هذا العدوان وما فيه من فظاظه كما أحزنتني هذه المذلة التي كثير ما يكرب نفسي أمثالها، ولعمرك ما أتألم لشيء ولا اثور لمنظر بقدر ما أتألم وأثور لمرائ إنسان في موقف المذلة حتى لو كان من الأثمين؛ ولطالما سالت نفسي متى اج في شعبنا هذا من الأنفة والحفاظ ما ينسيه ذل القرون وأقول متى يستكبر عامة الناس في هذه الأمة فيتطامن لهم من عليته وغاصبيه المستكبرين؟

وحسبت أول الأمر أن هذا العامل قد اقترف سرقة أو خيانة، حتى سمعته يقول وهو مسب العينين في تخشع (عم على. . . . لم تضربني.؟ أنت أخرجتني) وكان أحرى به، أن يقول: يا ايها الغول أو (يا عم الدب) وقال الغول في صوته الفظيع وكأنما يريد أن ينشب أظافره في عنق هذا المسكين (لأنك لا تريد أن تبقى حتى أتى بغيرك).

وامتلأت حنقا وألما لهذا البغي يقع من الغول صاحب راس المال على الفريسة المسكينة ذلك العامل الضعيف، ولو كنت في ملابسي التي اخرج بها إلى الشارع لاقتحمت على الدب كهفه ولو ادى الأمر إلى وقوعه بين أنيابه.

ونظرت فإذا فتى في مثل عمر المضروب وفي مثل قامته وجرمه، يقف أمام الدب ويسأله في عنف والشر ملء وجهه وقد تجمع السابلة والألم في وجوههم جميعا (لم تضرب هذا الرجل؟. .) ونظر إليه الدب نظرة استهزاء ظن إنها حسبه ليخاف وعاد يضرب العامل مبالغة منه في عدم المبالاة فما كاد يرفع كفه حتى نزلت على صدغه هو، اي والله على صدغ الدب السميك، كف ذلك الفتى! ودهش الناس جميعا وتحمس بعضهم فصفقوا وهرول الغول إلى دكانه فاحضر سكنيا، ولكن الفتى باغته بكرسي ألقاه على رأسه، ثم اختطف سكينة واخذ بتلابيبه بيده ورفع السكين بالأخرى قائلا (هيه. . . افتح كرشك يا. .) واخذ الناس السكين من الفتى وخاف البعض عليه من الدب، ولكن ما راعنا جميعا إلا الدب يرتمي على الأرض كأنه جذع شجرة ضخم والناس يصفقون للفتى ضاحكين معجبين. .

ونهض الفحل ثقيلا مستخزيا واستنوق الجمل، وحال الناس بين الفتى وبينه وإن الفتى ليتوثب ويتهدد، ولست ادري لم طرأت على ذهني وقتئذ صورة ديكتاتور إيطاليا وكيف لبث يخوف العالم زمنا حتى اكتشف أمره.

وحسبت أن بين الفتى وبين ذلك العامل المسكين صلة من قرابة أو نسب، ولكن لم يكن بينهما كما علمت شئ من ذلك حتى ولا مجرد المعرفة ونزلت إلى الشارع في ثياب البيت لأقابل البطل إذ يمر ببابنا بعد أن دخل ذلك الجمجاع دكانه لا يلفظ كلمة، ومددت يدي للبطل وقلت (أترضي أن تتخذني صديقا) فضحك وقد فظن إلى أني رأيت كل شئ وقال في تأدب (يا فندم أنا محسوبك) وعزمت عليه فشكرني ومضى وأنا معجب بنخوته أسال الله أن يكثر من أمثاله.

الخفيف