مجلة الرسالة/العدد 762/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 762/الأدب والفنّ في أسبُوع

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 02 - 1948



نشوء القومية في البلقان:

ألقى الأستاذ ساطع الحصري يوم السبت المحاضرة الثانية من سلسلة محاضراته التي يلقيها في الجمعية الجغرافية الملكية. وكان موضوع هذه المحاضرة (نشوء الفكرة القومية في النمسا والبلقان - تأثير اللغة والتاريخ والكنيسة فيها).

وقد عنى الأستاذ في هذه المحاضرة بإبراز تأثير اللغة في بعث القوميات تأييداً لما أبداه في المحاضرة السابقة من ترجيح كفة النظرية الألمانية القائلة بأن القومية كائن حي روحه اللغة، ضد النظرية الفرنسية التي ترى أنها إنما تقوم على مشيئة الأمة؛ ولذلك استعرض دول البلقان مبينا ذلك في كل واحدة منها، فاليونان كانت موحدة اللغة والثقافة بفضل الكنيسة التي تركها العثمانيون حرة في شعائرها، وقد حفظت الكنيسة اللغة اليونانية وثقافتها في بلاد اليونان بل نشرتها فيما جاورها من البلاد، ولهذه الوحدة اللغوية الثقافية التي يضاف إليها التاريخ القومي وجهود الكنيسة كانت بلاد اليونان مهيأة لنشوء الفكرة القومية فيها ومستعدة للثورة في سبيل استقلالها وقوميتها، فلم تكن الثورة تنتظر غير الإشارة. وفي بلغاريا كان الأمر على عكس ذلك، لأن الكنيسة اليونانية كانت هي المتسلطة على البلاد البلغارية بسلطانها الديني الذي يستتبع فرض اللغة اليونانية في الصلاة وسائر الشعائر الدينية وفي كل ما يمت إلى الثقافة، ولم تكن اللغة البلغارية ذات أدب ولا ثقافة، بل لم يكن لها نحو ولا صرف، وفي أوائل القرن التاسع عشر بدأت الجهود تتجه إلى ترقية اللغة البلغارية واستعمالها في الدين والثقافة، أي الاستفناء بها عن اليونانية. وجاهد البلغاريون في هذا السبيل رغم ما لاقوه من مقامات وعقبات، حتى وصلوا إلى ما أرادوا من إحياء لغتهم، ثم التفتوا إلى كيانهم السياسي فعملوا على استقلالهم حتى تحقق.

وكذلك فعلت رومانيا في كفاحها اللغوي مع اليونان والسياسي مع الدولة العثمانية، وإن كانت الحال فيها تختلف عن بلغاريا من عدة وجوه، منها التاريخ، إذ استشعر الرومان مجد أبطالهم القديم.

أما يوغسلافيا فكانت قسمين: قسم يتبع تركيا وقسم يتبع النمسا، وقد قامت فكرة القومية في القسمين على توحيد اللغة. ولما ساعدت الظروف القسم الأول على الاستقلال قبل الث ظل يتجه نحو الاتحاد مع القسم الآخر حتى تم ذلك. وقامت في تلك الأثناء دعوات مختلفة إلى اللغة التي يرى كل فريق اتخاذها لغة قومية. ومن ظريف ما حدث أن أحد الشعراء صنع مخطوطات طبقاً للغة التي يدعو إليها وادعى أنها ترجع إلى القرن الثالث عشر، واحتال حتى أظهر أنها كانت محفوظة في سراديب إحدى الكنائس، وجعل ينشد الشعر ويكتب الأقاصيص على أوضاع لغة هذه المخطوطات، وتنبه له بعض المعارضين، ولكن بمضي الزمن سار الجميع عليها.

وهكذا كانت اللغة هي أساس القوميات في دول البلقان، وكان النزاع الكنسي يدور حولها، فلم يكن ثمة اختلاف في العقائد، ولكن كانت اللغة هي الغاية. وبين الأستاذ ذلك أيضاً بوصف حالة البلاد التي تقع بين دول البلقان وهي بلاد مقدونيا، فقد كانت مختلفة في اللغات على حسب موقع كل منها من الأمة التي تجاورها - وصف الأستاذ حالة التنازع بين هذه البلاد في مراحله المختلفة، بسبب اختلاف اللغة، ولم ينته هذا التنازع حتى تقسمت الدول المجاورة تلك البلاد، وأخذت كل دولة منها ما يماثلها في اللغة.

ثم قال الأستاذ: أيد الفرنسيون نظريتهم بسويسرا، إذ قالوا إن الأمة السويسرية شاءت أن تكون أمة فكانت، على الرغم من تعدد لغاتها، والواقع أن سويسرا بلاد كثيفة السكان بخلاف مقدونية وهي تتبع في نظام حكمها أن يقوم كل إقليم بنفسه في الإدارة، والقضاء وغيرها، والحكومة المركزية إنما تنظم العلاقات الخارجية. وقد ساعد موقع البلاد الجغرافي على المحافظة على كيانها وحيادها، لأنها محاطة بدول كبيرة مصلحتها في أن تبقى سويسرا على الحياد، وهنا شبه الأستاذ اللغة في القومية بجاذبية الأرض، فكما أن المصباح المعلق لا يلتصق بالأرض والدخان يصعد إلى السماء ولا يهبط إلى أسفل، دون أن ينقض ذلك جاذبية الأرض - كذلك القومية في سويسرا، تقتضيها عوامل أخرى غير اللغة، ولكن هذا لا يدفع أن اللغة هي أساس القومية وروحها.

هذا هو الإنسان:

لا يستطيع متتبع الآداب أن يغفل ذلك المقال الذي كتبه بالأساس الأستاذ عباس محمود العقاد في مقتل غاندي، فهو مقال لا يظفر الناس بكثير من أمثاله، وخاصة في هذه الأيام التي أصبحت الأقلام فيها تجري على الصفحات لمجرد ملئها بأي كلام.

قتل غاندي في هذا الأسبوع، فكتب كاتبون ونظم شعراء. وقرأت لهؤلاء وهؤلاء، فلم أقع على مثل ما كتب العقاد.

قال في تصوير هذا الحادث: (لم يحدث قط أن ترتفع يد بالشر إلى رجل لا يسفه الأحلام ولا يبشر بغير الإسلام، رجل في الثامنة والسبعين يكف الشر في النفوس بوقار سنه وضعف شيخوخته وطيب سكينته واستسلامه رجل يدين بما يدين به قاتله المتعصب لعقيدته. وقصارى ما تنتهي إليه تلك العقيدة - عند ذلك القاتل التعس - أن قتل البقرة حرام، وأن قتل القديس العظيم مَباح).

وقال: (قيل منذ أيام أن قذيفة ألقيت على غاندي فنجا منها. فوقع في الأنفس أن نجاته من تلك القذيفة من أحداث الطبيعة لا غرابة فيه. . . كأن المادة نفسها تهاب أن تمضي بالأذى إلى هيكل ذلك الروح. . . كأن القذيفة ترتد - ولا تستطيع إلا أن ترتد وحدها - عن القداسة التي أخضعتها، ولم تخضع لها قط في تجارب الحياة. فلما قيل إنه قتل بيد إنسان، قد والله سألت: كيف تحركت عضلة في جسد بشري بضربة قاتلة لذلك الشهيد؟ قد والله سألت عن اليد التي لا تعقل، لأنها كانت خليقة أن تعجز عن الحراك إذا سيمت مثل هذا الحراك الذي يشذ عن كل قانون. . . ولم أسأل كيف سولت نفس ولا كيف هجس ضمير، لأن من الهول الهائل أن يدخل مثل هذا الجرم في حساب نفس أو ضمير).

وقد بلغ الغاية في تحقير القاتل مع الرثاء له بقوله: (ومن يقتل شرف الإنسانية كلها إلا مخلوق يخجل من إنسانيته كل إنسان، بل كل حي من الأحياء، وكل ضاربة من ناهشات الأبدان، وكل ساعية من نافثات السموم. ويسألون: أي جزاء يجزى به وراء الإعدام في جانب الوصمة الأبدية يحملها المسكين وحده في تاريخ البشرية بأسرها. فيذكر وحده إذا ذكر الخزي الذي لا خزي مثله في طوايا التاريخ. هذا هو الإنسان في بؤرته السفلى. وذاك هو الإنسان في ذروته العليا).

ولقد دفع إلى صاحبي بهذا المقال فقرأته، ودفعته إلى صاحبنا الثالث ليقرأه، وقد اعتدنا أن نتناول شيوخنا بألسنة حداد فما نُفلت أحداً منهم، ولكن حينما قرأنا مقال (هذا هو الإنسان) نظر بعضنا إلى بعض وسكتنا، لا لأنا جاحدون، بل لأننا متفاهمون.

في تأبين هدى شعراوي: شهدت يوم الجمعة احتفال الاتحاد النسائي بتأبين رئيسته السابقة السيدة هدى شعراوي، وقد اشترك في هذا التأبين أربعة من الأدباء، اثنان من الأعلام: الأستاذ عباس محمود العقاد والدكتور محمد حسين هيكل باشا، ألقى الأول قصيدة، وتحدث الثاني عن أثر الفقيدة في نهضة المرأة؛ والآخران هما الأستاذان محمد الأسمر ومحمود أبو الوفا، وقد ألقى كل منهما قصيدة. أما قصيدة أبو الوفا فقد كانت أدق في تصوير شخصية الفقيدة، وأما الأسمر فقد ساعد تعبيره الخطابي وجرس إلقائه على اجتذاب أسماع الجمهور واجتلاب استحسانه.

المرأة المصرية والعربية:

وأريد أن أتجاوز الرجال سريعاً إلى النساء، فإن لي معهن شأناً. تكلم في هذا الاحتفال عشر نساء، ثلاث من العراق ولبنان وفلسطين، وست مصريات، وواحدة أوربية. وأريد أن أقارن بين المصريات وبين العربيات الأخريات، وأقارن بين العربيات جميعاً وبين الأوربية.

مثلت العراق السيدة منيبة الكيلاني، ومثلت لبنان وسوريا السيدة ابتهاج قدورة، وألقت الآنسة تحية محمد كلمة فلسطين، ثم تعاقب بعدهن الست المصريات، فكان الفرق واضحاً كل الوضوح بين الفريقين، فقد امتاز الأوائل لا بفصاحة النطق وسلامته ونصاعته الأسلوب فحسب، بل كذلك بالبراعة في تصوير شخصية هدى شعراوي باعتبارها زعيمة نساء العرب، وفي التعبير عن شعورهن إزاء فقدها، وقد شعرنا ونحن نستمع إلى كل منهن أننا أمام إنسان حي يؤدي إلينا ما يريد من فكره وإحساسه بأسلوب قويم ولسان مبين.

وقد تعمدت أن أصف أولئك الثلاث العربيات بتلك الصفات لأقول صراحة إن المصريات تجردن منها، فالنطق عامي، واللحن كثير، والإعراب لا رقيب عليه، ولا شئ وراء الكلام العادي الجامد، بكت إحداهن - وهي سيدة كريمة لها نشاط محمود في الخدمة الاجتماعية - وهي تلقي كلمها، فعوضت بلاغة بكائها من قصور كلامها. ونابت إحداهن عن خريجات الجامعة، فلم تكن خيراُ من الباقيات.

ولقد جنى العربيات على المصريات اللائي لا أراهن جديرات بأن يوصفن بأنهن عربيات، لأن الأوالي لو لم يشتركن في هذا التأبين لسمعنا من نسائنا وغفرنا لهن قائلين: إنهن جنس ناعم واللغة العربية خشنة. . ألسن يتحدثن بالفرنسية الرقيقة. .؟ ولكن العربيات وصفت ألسنتهن رقة اللغة العربية وسحر بيانها وبدت المصرية بجانبهن في صورة المتخلفة عن ركب النهضة العربية ولن تكون سائرة في هذا الركب حتى تجيد لغتها وتعالج بيانها.

ومن العجيب أن المرأة المصرية المتعلمة خطت خطوات واسعة في نواحي الحياة المختلفة، ولكنها ما تزال على عجمتها لا تكاد تبين وننظر في ميدان الأدب فلا نرى إلا عدداً لا يبلغ حد المجمع إلا بالتساهل.

فلم لا تتعلم المرأة المصرية اللغة العربية. . .؟ إنها ما دامت وكيلته، فارتجلت كلمتها، وتخلصت بالارتجال من قيود القراءة، وواجهت الجمهور بكل قواها الخطابية. وأنا لم أر بعد امرأة عربية ترتجل بلغة فصيحة، أما الرجال فمنهم من يقرأ وكثيرون يرتجلون، وقد كان موقف هذه السيدة الأوروبية قوياً بالقدرة على الخطابة بلغتها مرتجلة، فبدا الفرق كبيراً بينها وبين من تحبر أو يحبر لها، ثم يتعثر لسانها في الإلقاء!

صدى من لبنان:

يذكر القراء ما كتبته في النهج الذي سلكه أخيراً في الكتابة الأستاذ توفيق الحكيم، وقد رجع إلينا الصدى من لبنان في مجلة الأديب (عدد فبراير) قالت:

(رد الأستاذ توفيق الحكيم على الذين ينعون عليه، بأنه ودع الفن يوم ترك برجه العاجي وانحط إلى مستوى الجمهور، بقوله: يجب على الفنان نفسه أن ينزل السفح إليهم. . . يهدينا إلى ذلك فعل المبدع الأعظم لهذا الكون. . . لقد أراد وهو في عليائه أن يبلغ الناس رسالته فلم ينتظر منهم أن يصعدوا إليه فأرسل إليهم رسولا أو نزل هو نفسه فتجسد في المسيح كما هو القول عند المسيحيين. وبهذا التشبيه البعيد يعتقد الحكيم بأنه أقنع الناس بسر فعلته).

(العباسي)