مجلة الرسالة/العدد 762/البريد الأدبي
مجلة الرسالة/العدد 762/البَريدُ الأدَبيَ
في كتابة التاريخ:
(إلى الأستاذين عبد الرحمن الرافعي بك وعباس محمود
العقاد)
من بضعة أسابيع نشرت مقالا بعنوان (اللغة العربية تصارع) أطريت فيه يداً أسداها للضاد الأساتذة سعد زغلول باشا والدكتور عبد السلام ذهني عبد بك وعبد الحميد عبد الحق، فقد كان للأول فضل تعميم العربية في معاهد الدرس بدل الإنجليزية، وكان للثاني يدٌ طولى في إقرار مبدأ المرافعة بالعربية في محاكم الاختلاط، وانتصر ثالثهم لاستخدام العربية في شركات التجارة وبيوتات المال.
وحسبت حين نشرت ذلك المقال أني لم أزد على أن استقيت من التاريخ تعض وقائعه ونسجت حولها خيوطاً جعلت منه وحدة أدبية تفضل الأستاذ العباس بنعتها (بمقالة نيرة).
ولكن أدبياً - هو الأستاذ عزت المنشاوي - عقب على مقالي في جريدة منبر الشرق، مشككا في فضل سعد زغلول على اللغة العربية، مستشهداً على ذلك بما أورده الأستاذ الجليل عبد الرحمن الرافعي بك في كتابه (مصطفى كامل)، وهذا نصه:
(واشتد الفقيد (مصطفى كامل) في نقد سعد باشا حين طلبت الجمعية العمومية من الحكومة في مارس سنة 1907 جعل التعليم في المدارس الأميرية باللغة العربية، وكان وقتئذ باللغة الإنجليزية، فاعترض سعد باشا وألقى خطبة طويلة في هذا الصدد سوغ فيها جعل التعليم باللغة الإنجليزية قائلا: إن الحكومة لم تقرر التعليم باللغة الأجنبية لمحض رغبتها أو اتباعاً لشهوتها، ولكنها فعلت ذلك مراعاة لمصلحة الأمة. . . وقال: إذا فرضنا أنه يمكننا أن نجعل التعليم من الآن باللغة العربية وشرعنا فيه فعلا، فإننا نكون أسأنا إلى بلادنا وإلى أنفسنا إساءة كبرى لأنه لا يمكن للذين يتعلمون على هذا النحو أن يتوظفوا في الجمارك والبوستة والمحاكم المختلطة والمصالح العديدة المختلفة التابعة للحكومة.)
ومن ثم عدت إلى كتاب (سعد زغلول. سيرة وتحية) للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد لأستفتيه في هذا الأمر وأقف على ما أورده في هذا الصدد. فلم يخرج ما قاله العقاد عم أودته في مقالي، وهو ما أجمع عليه المؤرخون من أن لسعد زغلول فضل تعميم العربية في المعاهد، وإليكم نص ما جاء في كتاب العقاد:
(ومن أجل الأعمال التي قام بها سعد في وزارة المعارف وجازف من أجلها بمنصبه وبحسن العلاقة بينه وبين الأقوياء عملان: أحدهما كان مغضباً للإنجليز، والآخر كان مغضباً للخديو وأتباعه من الشيوخ الأزهريين. . .
(نقل التعليم من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية، فأغضب الإنجليز أشد الغضب واحتاج إلى تذليل عقبات أخرى غير عقبات المقاومة السياسية، وهي تحضير الكتب وتحضير المدرسين وتهيئة الجو للتدرج من نظام متغلغل متشعب مضت عليه خمس وعشرون سنة إلى نظام طارئ لا يزال في دور التمهيد، محتاجاً إلى المعدات والمنفذين)
فنحن إذاً أمام روايتين غير متطابقتين، يقول بالواحدة الأستاذ الجليل عبد الرحمن الرافعي بك، ويقول بالثانية الكاتب الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد. وهذه واقعة تاريخية لا يجدي المنطق في إثباتها إن كانت باطلة، أو تفنيدها إن كانت صائبة. ولذلك أراني مناشداً الأستاذين الكبيرين أن يفيضا - على صفحات الرسالة إذا تسنى ذلك - في تبيان ما عندهما من ملابسات لهذه الحادثة التاريخية لنستطيع أن نخلص برأي أيا كان محوره.
وما دمنا بصدد هذه الواقعة التاريخية، أذكر ملاحظتين قد تكونا معواناً في فهم النهج الذي يتبع في كتابة التاريخ القومي في مصر.
وأول الملاحظتين أن شيخاً كبيراً في المقام عاشر التاريخ المصري في القرن الأخير (وعاش) معظم وقائعه قال لي - وهو اليوم عضو في مجمع فؤاد للغة العربية - إنه يقسم بأن التاريخ المصري المطبوع حافل بأخطاء لا حصر لها، وأنه دأب على أن يسعى التاريخ المصري (تاريخاً لولبياً) لأنه دائم الانحراف عن الحقيقة بسبب عدم تدوينه في حينه، وإرجاء مهمة التأريخ إلى ما بعد انقضاء زمان بعيد على الأحداث المرجو تأريخها.
وقد ألححت على هذا الشيخ في نشر مذكراته إنصافاً للتاريخ وللواقع، فتأبى متعللا بأنه بلغ من طول العمر وشدة الهزال مرتبة لا تمكنه من الرد على ما يتعرض له من حملات إذا ما رأت مذكراته ضوء النهار في حياته.
للشيخ الكبير من المقام ومن العلم ومن الثقافة ما يجعلني أتردد كثيراً قبل أن أحكم ببطلان رأيه. هذه ملاحظة.
أما الملاحظة الثانية، فلعلها لم تبرح بعد مخيلة القارئين، لأن الصحف ما فتئت تتناول موضوعها من جوانب شتى.
فقد عرف القاصي والداني ما حل بمصر في 4 فبراير عام 1942، وكنا نحسب من عامين أو ثلاثة أن تاريخ تلك الواقعة قد سجل فعلا، ولم يعد هناك مزيد لمستزيد. بيد أ، هـ اتضح أخيراً من محاكمات المتهمين في قضية الجرائم السياسية أن في جعب الساسة كثيراً من البيانات المستورة، وأن الحادث لا يزال حتى الآن غير واضح وضوحاً تاماً.
أولا يحق للمرء أن يسأل: إذا كان هذا الحادث التاريخي الذي حدث من خمسة أعوام أو ستة لا يزال موضعه في التاريخ بين شد وجذب، فكيف يكون الحال إذا بعدت المشقة بين الحادث والمؤرخ، وامتدت المسافة بين الواقعة والمسجلين لها؟
وبعد، فلعل الأستاذين الجليلين العقاد والرافعي بك يتفضلان - مشكورين - بإطلاع القراء على ما يعرفان عن فضل سعد على اللغة العربية - أو إساءته إليها، لأن من حق الجيل الجديد أن يعرف حقيقة أمر تضاربت فيه الآراء.
وديع فلسطين
في أدب المهجر:
أشكر للأستاذ مناور عويس هذه اللفتة الحميدة للتحدث عن أديب المهجر الكبير ميخائيل نعيمه الذي رفع منارة الأدب العربي في الدنيا الجديدة هو وإخوانه الأدباء من مهاجري العرب. والحديث عن ميخائيل نعيمه وإخوانه ممتع لأنه يتصل بالشاعرية التي تمردت على القيود الكلاسيكية القديمة وأنطلقت حرة في الفضاء إلا من المعاني السامية واللمحات الدقيقة ومنذ زمن مضى وأنا أتطلع إلى أدباء المشرق لعلهم يتحدثون عن تلك النهضة المهجرية ويشيدون بمفاخر إخوانهم هناك وينشرون في الجيل الجديد هنا ما كتبه أولئك وما نظموه، فهناك نثر، وهناك شعر ينبضان بالحياة المشرقة الضحوك، ويفيضان بالإبداع الذي يماشي الحياة في موكبها النشيط لأنهما يتدفقان من ينبوع الواقع، وينبعثان من الوعي والوجدان، ففيها فلسفة، وفيها حب وغزل، ودعوة للإنسانية المثالية الشاملة.
ما أكثر إنتاج نعيمه، والريحاني، وجبران، وإيليا، وإلياس فرحات، ونسيب عريضه، وأمين مشرق، وغيرهم، ولكن هذا الإنتاج على كثرته وقوة الإبداع فيه لم يكن له ذلك الصدى المحسوس في دنيا الشرق إلا قليلا عند من ترسموا خطي المهجريين وتابعوا سيرتهم، وإذا كان بعض مؤلفات جبران والريحاني، وقصائد نعيمه وإيليا قد أخذ نصيبه من الذيوع والانتشار في ربوعنا فليس ذلك بكاف في التتبع والدراسات الصحيحة، فهناك غير هؤلاء من الشعراء والكتاب قد ملأوا الدنيا الجديدة بعصارة عقولهم وقلوبهم، ونشروا عليها أجنحة ضافية من أخيلتهم السمحة، وليس أدل على ذلك من الصحف الكثيرات التي يصدرها إخواننا المهجريون في ديار الغربة أمثال مجلة (الشرق) و (العصبة) و (السمير) و (الهدى) وأمثال جريدة (البيان) التي كانت بحق لسان القومية العربية الذرب وقد قرأت من هذه الجريدة أعداداً كثيرة يوم كانت تصل إلى العراق قبيل الحرب ولا أغالي إذا قلت: إني لم أجد من بين صحفنا العربية هنا ما يشبهها حماسة وعروبة ودفاعاً عن البلاد العربية.
وحتى الأدب الشعبي كان له نصيب كبير من جهود المهجريين فقد كانت جريدة (أبجد هوز) التي يصدرها ناصر شاتيلا أروع مثال لهذا اللون الفكه فقد كان فيها نقد لاذع وفكاهة ممتعة باللسان اللبناني المحلى، وأجمل ما فيها تلك المحاكمات التي تعقدها لمحاسبة الأدباء فتخلط الهزل بالجد والنقد بالفكاهة، ومن الظريف أن تعرف - وإن كان خروجاً عن الموضوع - أن للشعر الشعبي قيمة ليست قليلة عند المهجريين وقد تدخل هذا الشعر في الإعلانات عن البضائع والمتاجر ولشد ما يضحكك أن تقرأ البيتين الآتيين على لسان بنت تخاطب أمها:
تا أحلي بعين الشبان ... بلكي حد إينحطبي
يا أمي بدي فستان ... من حرير لويس كمزي
وهذا اللون من الإعلانات بالشعر العامي يرجع بك إلى التأريخ العربي القديم في قصة (المحلق) عندما كسدت سوق بناته فلم يخطبهن أحد فاستضافه الأعشى وأطعمه وسقاه ثم طلب إليه يشيد بذكره فكانت تلك القصيدة المشهورة التي منها في وصف نار المحلق:
تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق
ثم كان بعدها زواج بنات المحلق بأصدقة عالية. وفي قصة بائع (اُلخمُر) حين لم يجد من يشتري شيئاً من بضاعته فاستنجد بأحد الشعراء وكانت تلك القصيدة التي منها:
قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا فعلت بناسك متعبد
وأما مجلتا (الشرق) و (العصبة) فإنهما أسمى مثال للفن الصحفي العالمي من حيث الطباعة والإتقان وأسمى مثال للأدب العربي في عهده الحاضر من حيث التطور الفكري والإبداع في الشعر والنثر.
هذه لمحة استعراضية عن جهود إخواننا المهجريين في بعث الأدب العربي والدعوة إلى العروبة في المهاجر الغربية وتركيزهما على قاعدة التطور ومماشاة الزمن.
أفلا يجدر بهذا الأدب أن يأخذ نصيبه في مناهج الأدب الشرقي ومعاهد التعليم فيه ونشره بين الشباب المتطلع إلى الحياة الجديدة، ثم ألا يجدر بهذا الجيل أن يضيف إلى معلوماته عن امرئ القيس، والمتنبي، وشوقي، والرصافي شيئاً عن جبران وميخائيل وإيليا؟.
إن مناهجنا التعليمية ودراساتنا الحديثة تجحف أشد الإجحاف بحقوق المهجريين بل بحقوق الأدب العربي والناشئة الحديثة، وليس ذنب هذا الأدب إلا أنه عصارة الروح والعقل والمثل الإنسانية العليا، وإلا كونه خالياُ من الزخرف والصناعة والتقليد. وحتى المطابع والمكتبات عندنا لا نجد فيها أثراً بارزاً لأدب المهجر إلا القليل الذي لا يغني ولا يسمن. أليس من الغريب أن تبحث عن (الجداول) لإيليا أبي ماضي فلا تجد له أثراً في مكتبات القاهرة من أنه قد طبع في أمريكا والعراق.
ولعلي قد خرجت عن الموضوع وتجاوزت إلى الزيادة في القول فلأعد مرة ثانية لأشكر الأستاذ مناور عويس على اتجاهه هذا والتنويه بأدب ميخائيل نعيمه ويسرني أن يكون انتخابه لبعض القطع الشعرية خالياً من الحذف والتحريف ولاسيما إذا كان المحذوف شطراً في نهاية مقطع كحذفه قول الشاعر: بخشوع جاثيه. بعد قوله: (وتجزى كنبي هبط الوحي عليه) في قصيدة (من أنت يا نفس).
وكذكره البيت الآتي:
أنت برق أنت رعد ... أنت ليل أنت فجر
مخالفا لنصه الأصلي:
أنت شمس أنت رعد ... أنت برق أنت فجر ولعل للأستاذ عذرا في ذلك أنه اعتمد على (همس الجفون) وفيه بعض المغايرات لما نشر قديماً في الصحف والمجاميع وقد يكون ذلك من رأي الشاعر نفسه. ومهما يكن من شيء فإن هذه تبعات لا يؤاخذ عليها الكاتب الفاضل إلى جانب اهتمامه بالأدب المهجري وخصوصاً أدب ميخائيل نعيمه.
إبراهيم الوائلي