مجلة الرسالة/العدد 763/القصص

مجلة الرسالة/العدد 763/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 02 - 1948



نهاية حب

للأستاذ زهدي الشواف

لو قدر لكل إنسان أن يحب كما أحببت، وأن يمنى بالحبيبة كما منيت؛ لفاض ينبوع العواطف في هذه الدنيا.

لقد قضيت ريق شبابي على مقعد الدرس، وصرفت زهرة أيامي وأن أقلب صفحات الكتب. ولقد كنت أحسب أن هذه الأوراق الجامدة ستنال مني؛ فتحد نشاط عاطفتي. ولكني كنت مخطئاً في ظني؛ إذ كنت كلما انصرفت لحظة عن الدرس طالعتني العيون الناعسة فعدت وكأن لم أقظ لحظة إلى جانب كتاب، ولم أمض ثانية بعيداً عن تيار العاطفة الجارفة.

وظللت تبيع العاطفة؛ فأمضيت حقبة من الزمن سادراً لا أرعوي، حتى قيض الله لي الصدمة التي أبرأتني من الداء.

كان ذلك في صبيحة يوم من أيام الربيع في حماة؛ فقد استيقظت باكراً ومضيت للحقول أمتع العين بمفاتن الطبيعة، ولم يطل بي الطواف كثيراً؛ فقد كان عقرب الساعة يسرع في جريه فيدنو من الثامنة. وكانت المدرسة تتمثل لي من ورائه، وكانت دقات الجرس ترن في أذني مؤذنة بحلول الدرس الأول. . . يا إلهي كيف أترك هذا الهواء الطلق، وهذه الجنان الرحبة. . . لأنحدر إلى الغرفة الضيقة. . . إلى الهواء الحبيس!. وكيف أضحي بهذه الحرية المطلقة لأستريح إلى نظام أقل ما يقال فيه إنه غول الحرية! ولم أذهب في تفكيري بعيداً فلم يبق للثامنة إلا دقائق عشر لا تكاد تكفي للوصول إلى المدرسة.

وعدت أدراجي آسفاً، وانحدرت إلى المدينة لا ألوي على شئ. وبينا أنا في الطريق قرع مسمعي نبرات صوت عذب فرفعت رأسي لأتبين مصدرها، فإذا أنا أمام جبين وضاح يبهر بنوره شمس تلك الصبيحة الفاتنة.

إنها فتاة في مقتبل العمر، وقفت في نافذة بيتها تتلهى برؤية المارة. لقد انحنت قليلاً ممسكة شعرها المتهدل بيمناها وراحت تداعب بيسراها قطتها الجميلة. ولقد لبثت هذه القطة تونو إليها شاخصة ذاهلة، وكأنها قد سحرت بزرقة تلك العيون، أو أنها فتنت بمنظر ذلك الجبين. . . ولم أشعر إلا وقد طرحت كتبي على الأرض ثم جلست فوقها ورحت أرنو إلى النافذة شاخصاً ذاهلاً. . لقد أنساني هذا الجمال كل ما قد شهدت في الحقول من جمال، وأبعدت هذه الحقول شبح المدرسة عن فكري. وكأن فعلتي هذه لم ترق للآنسة المحترمة؛ فإنها لم تكد تراني أحدق في وجهها حتى اعتدلت بوقفتها وسوت شعرها بيدها ثم أغلقت النافذة وانصرفت.

أما أنا فقد لبثت في مكاني أفكر بحظي التاعس، وأقرن نفسي إلى تلك القطة السعيدة! إنها أسعد من على الأرض! ألا يكفيها أنها تستمتع بحريتها وتعيش إلى جانب الآنسة الفتانة!. . ألا يكفيها أنها لا تمسك نفسها ساعات طويلة على مقعد الدرس. ألا يكفيها أنها لا تشغل بالها بقوانين الجبر، ولا ترهق نفسها بحفظ قواعد الصرف والنحو! سعيدة أنت أيتها القطة.

وبينا أنا سابح في سماء الخيال؛ وقعت عيني على الساعة فإذا بها تشير إلى الثامنة والربع. . . يا للمصيبة!. . . أين المدرسة؟. بأي وجه أقابل الناظر؟. . . ومضيت أجر ساقي جراً، وكنت كلما سرت خطوتين تلفت لأرى النافذة ومن وراء النافذة. حتى إذا ما خفي المنزل عني عدوت نحو المدرسة ودخلتها متأخراً؛ فاستقبلني الناظر بطلعته الكالحة. وبعد السؤال والجواب سجل لي ما يناسبني من جزاء ثم سمح لي بالدخول إلى الصف.

ودخلت الصف فألفيت زملائي الطلاب ساكتين كأن على رؤوسهم الطير. لقد كان الوجوم يخيم في سماء الغرفة، وكان الصمت يستأثر بالأفواه. . . أين هذا الكلوح من تلك البشاشة! وأين هذا التزمت من ذلك المرح؟. . .

وأخذت وقعدي ورحت أفكر. ولقد كان لي في صمت الطلاب وهدوئهم ما يحملني على الانطلاق في سماء الخيال. . . لقد فتحت الكتاب لأتابع الأستاذ في قراءته، ولكن العيون الزرقاء كانت تطالعني من بين الأسطر. . . لقد كانت كل كلمى عيناً زرقاء، وكان كل سطر خصلة شقراء. لقد كنت في زاد والطلاب في واد. وانتهى الدرس الأول، وتبعه الثاني، وانصرم النهار وأنا لا أعلم كيف انصرم؛ ولكن الذي أذكره هو أنه كان طويلاً، وأني لم أفد به من العلم لا كثيراً ولا قليلاً.

ورجعت البيت في المساء كاسف البال محطم الأعصاب، ولم أقدر على المطالعة، فأغلقت الكتاب واضطجعت في الفراش. . . ولكن أنى للنوم أن يزور الأجفان التي تتطلع من وراء الخيال إلى صورة الحبيب المجهول.

وتوالت الأيام وأنا أزداد بالآنسة شغفاً، وتتابعت الليالي وأنا أطوف حول بيتها لعلي أظفر منها بنظرة. ولكن هيهات! فقد كانت لا تكترث بوجودي، ولا تبالي بمروري وإنما تعتدل في وقفتها فتغلق النافذة ثم تنادي قطتها وتنصرف. وكنت إذا لحظت منها الصدود غضبت وأقسمت أن لا أمر من أمام بيتها، ولكن ما أسرع ما أحنث بهذا القسم فلا أجدني إلا سائراً في طريق بيتها. لقد كانت هذه القصة تتمثل كل يوم، ولكنها تنتهي وكأني لم ألحظ صدوداً ولم أحلف يميناً.

وأقبل الصيف وأغلقت المدارس أبوابها فوجدت في العطلة الصيفية عوناً على تحقيق رغباتي. لقد رحت أقضي الأيام الطوال حول منزل آنستي فأستقصي أخبارها وأتنشق عبير رائحتها. . . ولقد تخطت معرفتي بها الحدود التي كان الربيع قد رسمها فلم أعد أقنع برؤيتها في النافذة، وإنما أصبحت أراها في الطريق رائحة غادية برفقة مربيتها العجوز (نانو).

وإن أنس لا أنس تلك اللحظات التي كنت أقضيها بانتظار خروجها. لقد كانت اللحظة شهراً، وكانت الساعة دهراً، ولكني ما كنت لأشعر بوطأة هذا الطول. فقد كان لي خلفه آمال تعدل كل ما ألقاه من آلام. لقد كنت أنتظر طويلاً ثم لا ألبث أن أسمع صوتاً ملائكياً يرن في أذني. إنه صوتها وهي تقول: (نانو. . . امشي يا نانو) ثم ينفتح الباب وتخرج منه وهي تخطو خطوة وئيدة وإلى جانبها (نانو) فأقف في الطريق محاولاً استدراجها إلى ابتسامة رقيقة. ولكني كنت أعود كل مرة خائباً. فقد كانت تمر بي دون أن تشعر بوجودي أو تفطن إلى عواطفي. وإني لا أزال أعجب لتلك العواطف الجامدة كيف لم تعصف بها نظراتي الحادة، وإني لا أزال أكبر ذلك القلب الهادئ الذي لم تستطع أن تحركه نبرات قلبي المتأججة. . .

وقد أوشك الصيف أن ينقضي قبل أن أنتهي إلى تنيجة مرضية، فقد ظل قلب الآنسة بعيداً عن قلبي وبقيت آذانها مغلقة عن سماع صوتي، وقد تراءى لي أنها تكتم عواطفها خوفاً من (نانو) العجوز، فاعتقدت أن الحب يقضي علي أن استعطف (نانو) وأن استدر رحمتها.

ولما كان الغد ملت بنظري نحو (نانو) فابتسمت لي وابتسمت لها وقلت في نفسي إنها ولاشك قد أدركت معنى ابتسامتي وفهمت مغزى وقوفي، وتتابعت النظرات والابتسامات ورأيت (نانو) ذات صباح وحدها فدنوت منها وتكلفت من الشجاعة أكثر مما أطيق، ثم اعترضتها وقلت لها: (الهوى صعب يا نانو!) فهجزت برأسها هزة العجب والكبرياء ثم أجابتني (والصبر طيب. . . طيب يا حبيبي!.) ثم مضت لسبيلها وظللت وحدي أفكر في معنى كلمتها. . .

(البقية في العدد القادم)

زهدي الشواف