مجلة الرسالة/العدد 764/القصص
مجلة الرسالة/العدد 764/القصص
نهاية حب
للأستاذ زهدي الشواف
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
وبعد هذه المقابلة تغيرت (نانو) علي، فراحت تبخل بابتساماتها الغراء، وباتت تقتصد بنظراتها العرجاء. . . لقد أصبحت (نانو) تتيه علي، وكان تيهها ذا معنى خاص لم أستطع فهمه!. . . أتراها حسبت أني موله بثغرها الأدرد؟. . أم تراها ظنت أني مدله بوجهها الأجعد!. . هذا مستحيل!. . إن للحب دائرة موصدة في أوجه الشياطين!. . . إن في الحب نفحة سماوية لا يدركها أولئك الذين التصقوا بالأرض فلم يتجهوا بأعينهم إلى السماء ليبصروا ما أبدع الله فيها من جمال!. . إن في الحب وقف على القلوب الزاخرة بالحياة، الشاعرة بجمال الوجود؛ أما (نانو) فإنها بعيدة عن الحياة. . . بعيدة عن الحب. . . إن الحب ليلفظها لفظ النواة!. . إذاً ما بالها تتيه علي؟. . هذا سر مستغلق!. . وما أكثر ما يستغلق على المرء من أسرار!.
ما (نانو) ومالي!. . إنها وسيلة غير صالحة للوصول إلى آنستي. وقد بقيت يومين أفكر، لم أذق خلالهما طعاماً ولم أرق في فمي شراباً. وكان من نتيجة تفكيري أني عولت على أن أكتب إلى آنستي رسالة أشرح فيها حبي وقمت إلى مكتبتي وأمسكت بالقلم وأخذت أشرح ما يخاطرني من أشواق. ثم ختمت الرسالة بالكلمة التالية: (أي آنستي!. . . إني لأرجو منك أن تعلميني رأيك صريحاً. . . فإما قبول أنعم فيه بعطفك، وإما رفض يبرئني من حبك. . . وإني لأنتظر كلمتك الفاصلة آملاً أن ألقاها غداً معلقة في مصراع الشباك. . .)
ولم تكد شمس الغد تطلع حتى كنت أمام المنزل أنتظر. وبعد فترة وجيزة بصرت بالقطة الحبيبة تمد رأسها من الباب، فلوحت لها بقطعة لحم كنت أحضرتها من السوق، ولم تكد تراها حتى عدت نحوي فأمسكتها بيدي وربطت الرسالة في عنقها وتركتها تعود أدراجها.
ولما كان الغد دلفت إلى المنزل وأنا أقدم رجلاً وأؤخر رجلاً. لقد كان قلبي يخفق هلعاً، وكانت عيناي تتشوقان وكأنهما تتحريان شيئاً مضاعاً. وكان ذهني غارقاً في التفكير أي غلطة هذه الغلطة التي ارتكبتها؟ وأي حماقة هذه الحماقة التي أتيتها؟. وهل ثمت أكثر جنوناً من فتى يسلم سره إلى قطة!؟ إن كل ما كنت أخشاه هو أن تكون الرسالة قد وقعت في يد غيرها فينفضح الأمر، ويطلع الأهل على السر.
وما كدت أدنو من المنزل حتى لمحت قطعة من الورق معلقة في النافذة، ومددت يدي المرتجفة فأخذتها وفتحتها وقرأتها!. . يا للسعادة!. . . إنها من آنستي. . . آنستي الحبيبة. . . يا للعجب إنها تدعوني لمقابلتها بعد منتصف الليل في بيتها!. هذا لا يكاد يصدق. . . يا لله!. . أتراني في اليقظة أم في المنام!. . ماذا أصابها فبدلها؟. . وماذا عراها فغيرها؟. . أيكون الصدود الذي كانت تبديه مجرد وهم باطل ألجأها إليه عيون القوم المفتحة حولها؟ هذه هي الحقيقة بعينها. . . إنها تحبني وتحبني ولكنها لم تكن لتجرأ على البوح بهذا الحب!. . . غفرانك يا آنستي!. . . لقد اتهمتك بالقسوة ولكني كنت مخطئاً في ظني، وإن بعض الظن إثم.
لقد قرأت الورقة ثم طويتها، ورحت أنتظر الساعة الموعودة بفارغ الصبر، ودقت الثانية عشرة، ثم الواحدة بعد منتصف الليل؛ فانحدرت إلى المنزل والآمال المعسولة تحدوني. ولم أكد أصل الباب حتى وجدته مفتوحاً، ولم أكد ألجه حتى وجدتني أمام شبح لم أتبينه لشدة الظلام. . . إنه ولا ريب شبح آنستي المحبوبة. . .
وتقدمت منها وأنا لا أكاد أصدق نفسي! وعرتني رعشة من الفرح كادت تنسيني صوابي، وانحنت آنستي عليّ وراحت تمطرني بوابل من القبل؛ فانتشيت من السرور ومددت يدي محاولاً لمس ثغرها. . . وكم كانت دهشتي عظيمة حين وجدت أن يدي قد دخلت في فوهة لا قرار لها. . يا إلهي!. . أين الأسنان الناصعة، أسنان آنستي المحبوبة؟
وفتحت عيني وحدقت في الثغر الذي كان يقبلني، إنه ثغر أورد وأمعنت النظر بالوجه الذي يقابلني. . . يا للغرابة!. . . إنه وجه (نانو) العجوز التي أبغضها. ولا يستطيع أن يتمثل خيبتي هذه إلا أولئك المقامرون الذين أضاعوا في ثانية واحدة كل ما قد ربحوه في ساعات. لقد تبدلت عواطفي بعد اشتعالها وخمد الدم في عروقي. وما هي إلا ساعات معدودات حتى انقلب التبلد العاطفي إلى ثورة غضب كادت تطيح بصوابي فانقضضت على (نانو) ودفعتها بيدي دفعة قوية فسقطت مغشياً عليها.
ولقد خشيت الفضيحة فحاولت أن ألوذ بالفرار، ولكني حين هممت بفتح الباب غشيت عيناي فلم أعد أبصر شيئاً. ولقد زاد في ارتباكي أني سمعت وقع أقدام متجهة نحوي. . . إنه رب البيت. لقد نبهه صوت وقوع (نانو) فجاء يستطلع الخبر. يا للكارثة! إنه يحمل في يده عصا غليظة لو أهوى بها على جدار لدكه. ولقد حاولت أن أجد لنفسي مفراً ولكن سهمي قد طاش فلم أعد أدري ما أصنع. ولم أجد بداً من طلب الأمان.
ولقد عجب رب البيت من أمري: إن ملامحي لا تنبئ عن سوء الطوية الذي أتى بي إلى بيته بعد منتصف الليل؟. . هذا سر لم يستطع له تفسيراً. وحاولت أن أفضي له بالحقيقة الواقعة، ولكن هل يصدق أن (نانو) تحب. . إنه سيتهمني بالجنون وسيرميني بالكذب. . ولم أجد بداً من اللجوء إلى الحيلة فادعيت أن كلباً عقوراً تبعني في الشارع وحاصرني فلم أستطع الخلاص منه. واتفق أن مررت بالقرب من باب هذا المنزل فوجدته مفتوحاً، فولجته وسرعان ما اصطدمت بشخص ارتاع من دخولي فسقط مغشياً عليه.
وكانت (نانو) قد أفاقت من غشيتها وسمعت كلامي. ويبدو أن هذا التخلص الحسن قد أعجبها؛ فأنبأت رب البيت بأنها قد نسيت الباب مفتوحاً منذ المساء، وأنها استفاقت عند منتصف الليل وذكرت ما قد نسيت فخرجت تغلقه فكان أن صدفتني.
وقد جازت هذه الحيلة على رب البيت فأحسن بي الظن، ورثى لحالي، وطيب خاطري ثم فتح لي الباب، وتركني أنصرف بسلام.
ولقد خرجت من البيت وآليت على نفسي أن لا أعود إليه ثانية. لقد ألقيت شبكتي طامعاً بالسمكة الجميلة ولكني لم أعثر إلا على سلحفاة بشعة. ولقد خشيت أن ألقيها ثانية فأعثر على ثعبان يقضي على حياتي. لقد خرجت من البيت بعد أن نذرت التوبة عن الحب. نعم لقد تبت ولقد مضى علي سنون عدة ركن قلبي خلالها للسكينة، وارتاح للهدوء لولا بعض نزوات كانت تعتاده في الفترات فيتحرك بين أضلاعه، ويحاول الانطلاق من أغلال التوبة ولكنه سرعان ما يذكر العيون الزرقاء، ويتخيل (نانو) العجوز؛ فيعود إلى هدوئه ويخلد إلى سكينته وهو يقول: (إني تبت عن الحب منذ زمن بعيد. . .)
(حماه - سوريا)
زهدي الشواف