مجلة الرسالة/العدد 764/رسالة النقد
مجلة الرسالة/العدد 764/رسالة النقد
مبادئ علم النفس العام
للدكتور يوسف مراد
بقلم الدكتور أحمد فؤاد الأهواني
كنا قد وجهنا إلى الدكتور يوسف مراد منذ عام سؤالاً في مجلة الكتاب، فحواه هل علم النفس علم أو فلسفة أو بين هذا وذاك؛ ولم يحر جواباً، وأبى أن يواجه السؤال، فقلت لعله يريد أن يفصِل المسألة، ويعد لها العدة، ويقرأ المراجع ويفيض في الجواب. حتى أصدر كتابه (مبادئ علم النفس العام) وهو يقع في أربعمائة صفحة من القطع الكبير، فحمدنا الله، وبادرنا إلى قراءته كي نستفيد منه هذا العلم الذي يقوم على تدرسه، وشغل كرسي الأستاذية في كلية الآداب.
وقد استباح الدكتور مراد لنفسه أن يحكم على كتب المؤلفين في علم النفس، ونصب الموازين التي يصدر بناء عليها حكمة عليها، فتراه يقول في التصدير (وهناك نقص آخر يكاد لا يخلو منه كتاب مدرسي في علم النفس، وهو عدم الربط بين الوظائف السيكولوجية والمظاهر السلوكية ربطاً كافياً مطابقاً للوقائع.). ويقول أيضاً (من واجب كل من يشرع في وضع كتاب في علم النفس لمعالجة جميع موضوعات العلم، كما تنص عليها عادة برامج الدراسة الثانوية في مختلف البلاد، أن يتوخى الأساليب العلمية التي تمتاز بالأمانة والدقة، وبضرورة التمييز بين ما هو يقيني وما هو عرضة للاحتمال والشك، وبين الوضع العلمي لبعض المشاكل كمشكلة الغريزة مثلاً، ووضعها الفلسفي) وفي التصدير إشارات كثيرة من هذا القبيل.
فهو يضع نفسه موضع المعلم لجميع من ألف في مصر في علم النفس. ونحن لا نرفض أن نتعلم من الدكتور مراد إذا كان حقاً في كتابه من الحقائق الموثوق بها ما نأخذ به.
ولسنا نجد جواباً صريحاً عن السؤال الذي وجهناه من قبل، ولكنه يوثر أن يعتمد في علم النفس الجانب التجريبي
أما الجانب الذي لم تتناوله التجارب، فإنه يقول فيه (إنه صورة لا تشمل كافة مسائل علم النفس العام. فهي صورة ناقصة للحياة النفسية) ولا غرو في ذلك إذ كان المؤلف يقصر حديثه على الحقائق التجريبية الموثوق بها. وهو يشير هنا إلى كتاب وودورث في علم النفس التجريبي.
ونحن لا نقر وجهة نظر الدكتور مراد وزعمه أن علم النفس لا يكون علماً موثوقاً به إلا إذا كان تجريبياً، فهناك مسائل كثيرة لا يمكن أن تنالها التجربة من جهة، وليس من الضروري أن يكون العلم علماً لأنه تجريبي.
هذا الخطأ في فهم منهج علم النفس، جعله يقول في ص10 (ونحن ندرك هذه الأحداث من الداخل، مندمجة في حياتنا النفسية، بطريقة مباشرة وبوساطة حس باطن يسمى الشعور. ولكن إذا ظلت هذه الأحداث سراً مطوياً بدون أن تكون مصحوبة بتعبير لفظي أو حركي بقيت في نظر العلم كأنها غير موجودة. ولا تصبح هذه الأحداث الداخلية صالحة للمعالجة العلمية إلا إذا عبر عنها بواسطة حركات خارجية).
الله أكبر. . . كيف تزعم أن الإنسان حين يفكر بينه وبين نفسه، يكون هذا التفكير (غير موجود) وكيف تستبيح لنفسك أن تنطق باسم العلم فتنكر وجود هذه الأحداث الباطنية.
وكان خليقاً بك، إذا أردت أن تكون منطقياً مع نفسك أو مذهبك في إنكار هذه الأحداث الباطنة، ألا تذكرها بعد ذلك في كتابك، ولا تعتمد عليها. ولكنك مضطر إلى الاعتراف بها، لأن علم النفس لابد أن يقوم على التأمل الباطني، وهذا أحد مناهجه، ولذلك قلت في ص14 (أما الحالات الشعورية من حيث هي حالاتي أنا، أختبرها بنفسي وأحياها، فإحساسي بها إحساس مباشر. وتمتاز الشعوريات، كما أحس بها وكما أخبرها بنفسي، بكونها داخلية ومباشرة وتلقائية. .)
ونحن لا نجد هذا الاضطراب في المنهج الذي يسلكه المؤلف فحسب، بل في الموضوع كذلك. وهو أخطر فهو يقول في ص10، عن موضوع علم النفس. (وبعبارة أخرى، موضوع علم النفس هو الإنسان من حيث هو كائن حي يرغب ويحس ويدرك وينفعل ويتذكر ويتعلم ويتخيل ويفكر ويعبر ويريد ويفعل).
وواضح أن هذا هو التعريف الذي يرتضيه لعلم النفس. فهو يقول في ص11 (يستنتج أيضاً من تعريفنا لموضوع علم النفس أن لهذا العلم صلة وثيقة بعلمين هما علم الحياة وعلم الاجتماع من جهة أخرى).
ونحن نحاسب الدكتور مراد بمقتضى كلامه، فهو يقول في استهلال الكتاب (يتميز كل علم من غيره بموضوعه ونهجه).
وقد رأيت أن المنهج الذي وضعه مضطرب، والموضوع الذي ينص عليه لا يرضى به العلماء، وقد ناقشه العلماء منذ زمن طويل.
ذكر الأستاذ ألفرد بينيه في كتابه (النفس والجسم) إن هناك سبعة تعاريف لعلم النفس، الميثافيزيقي، والعددي، والمنهجي، والتعريف بدرجة اليقين، وبالمضمون، وبوجهة النظر، وبالقوانين العقلية. وآخر هذه التعاريف هو الصحيح.
أما الثاني، وهو الذي جاء في كتاب الدكتور مراد، وهو الموسوم بالعددي أي بتعديد المسائل التي يتناولها موضوع العلم؛ فيقول فيه الأستاذ بينيه: (إنه يفيد بالتقريب الأولى للأشياء، وفي تذكير أولئك الذين لا يشكون في أن علم النفس يدرس أفكارنا. ومهما يكن العدد الحقيقي لهؤلاء الجهال؛ فإنهم، فيما أعتقد، عدد لا يحسب له حساب).
ويقول في ص12 (ولتحديد العلاقة بين الظاهرة وشروطها يستعان بالطريقة الإحصائية، ويوصف القانون العلمي بأنه قانون إحصائي).
ولسنا نفهم لماذا يقصر الدكتور مراد القوانين العلمية على الإحصاء فهناك قوانين ليس من الضروري أن تقوم على الإحصاء ويكفي أن ينظر العالم إلى بعض الحالات، دون أن يستقرئ أو يحصي جميعها. مثال ذلك تمدد الحديد بالحرارة، فإننا لا نحصي كل قطعة من الحديد، وليس في مقدورنا ذلك. والمنطق الحديث الذي ينحو نحو الإحصاء لا يقول عن القانون إنه (علاقة) كما قال، بل اقتران. . . وذلك ليفادى القول بالعلية.
ولسنا ندري لماذا يقول في ص13 (فاللغة إذن هي حلقة التصال بين علم الاجتماع وعلم النفس) أليس ذلك مما يتنافى مع القواعد التي سنها للباحثين في التصدير حتى يهديهم سواء السبيل فقال: (فهناك خطر جسيم يهدد الباحث في هذا العلم وهو التجريد، وما ينجم عنه من التبسيط المسرف المخل الذي يتحول بسهولة إلى إبهام وغموض)
ولسنا نريد أن نتعرض لأسلوب الكتاب ولغته، فليس الكتاب في الأدب وليس صاحبه ممن درس العربية أو يحسنها، غير أننا كنا نحب أن يتجنب مثل هذه اللفظة كالبطانة عند قوله عن المؤثرات في الإنسان (من حيث هي معان لها بطانتها الوجدانية، ويمكن تصورها وإدماجها في منظومة ذهنية واستخدامها لإنشاء ضروب من الاستجابات الذهنية الصامتة أو اللفظية أو الحركية، تختلف باختلاف الغرض الذي يسعى إلى تحقيقه).
وليس هذا الأسلوب عربياً بل أعجمياً، لا يفهم القارئ منه شيئاً، أما (بطانة) فهي لغة البزازين لا لغة العلماء المتثبتين.
وبعد فقد عرضنا عليك نموذجاً مما جاء في هذا الكتاب من اضطراب في التفكير، وتناقض في الآراء، وأخطاء جسيمة في صميم العلم. ولا تتسع صفحات هذه المجلة لتعقب المؤلف في سائر الكتاب، فهو يجري على هذا النحو من الاضطراب والزلل.
ومادام الدكتور مراد قد نصب الموازين في صدر كتابه يحاسب بها الذين ألفوا في علم النفس، وقد ذكرنا لك طرفاً من هذه الموازين في سياق المقال، فنحن نرجو العلماء أن ينصبوا له نفس هذه الموازين، ليحكموا على مبلغ علم أستاذ علم نفس بالجامعة، وهو المسئول عن تثقيف الطلاب.
أحمد فؤاد الأهواني