مجلة الرسالة/العدد 771/الشيوعية في الإسلام

مجلة الرسالة/العدد 771/الشيوعية في الإسلام

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 04 - 1948



بين رأي لجنة الفتوى ورأي السيد جمال الدين الأفغاني

كتب أحد الكتاب بحثاً تناول فيه رأي العالم الصحابي أبي ذر الغفاري في توزيع المال في الإسلام، وانتهى منه إلى القول بوجود الشيوعية في الإسلام، فأحالت وزارة الداخلية هذا البحث إلى لجنة الفتوى بالأزهر لإبداء الرأي فيه، فأصدرت اللجنة فتوى بهذا الصدد قالت فيها:

(إن من مبادئ الدين الإسلامي احترام الملكية، وأن لكل امرئ أن يتخذ من الوسائل والسبل المشروعة لاكتساب المال وتنميته ما يحبه ويستطيعه، ويتملك بهذه السبل ما يشاء. وقد ذهب جمهور الصحابة وغيرهم من الفقهاء المجتهدين إلى أنه لا يجب في مال الأغنياء إلا ما أوجبه الله من الزكاة والخراج والنفقات الواجبة بسبب الزوجية أو القرابة وما يكون لعوارض مؤقتة وأسباب خاصة كإغاثة ملهوف وإطعام جائع مضطر، وكالكفارات وما يتخذ من العدة للدفاع عن الأوطان وحفظ النظام إذا كان ما في بيت مال المسلمين لا يكفي لهذا ولسائر المصالح العامة المشروعة كما هو مفصل في كتب التفسير وشروح السنة وكتب الفقه الإسلامي).

وبع أن أشارت اللجنة في فتواها إلى ما يكون من تطوع القادرين بالإنفاق في وجوه البر عرضت لمذهب أبي ذر فقالت: (وذهب أبو ذر الغفاري رضي الله عنه إلى أنه يجب على كل شخص أن يدفع ما فضل عن حاجته من مال مجموع عنده في سبيل الله، أي في سبيل البر والخير، وأنه يحرم ادخار ما زاد عن حاجته ونفقة عياله. هذا هو مذهب أبي ذر، ولا يعلم أن أحداً من الصحابة وافقه عليه، ولقد تكفل كثير من علماء المسلمين برد مذهبه، وتصويب ما ذهب إليه جمهور الصحابة والتابعين بما لا مجال للشك معه في أن أبا ذر رضي الله عنه مخطئ في هذا الرأي. والحق أن هذا مذهب غريب من صحابي جليل كأبي ذر، وذلك لبعده عن مبادئ الإسلام وعما هو الحق الظاهر الواضح، ولذلك استنكره الناس في زمنه، واستغربوه منه. . .

ولما كان مذهبه داعياً إلى الإخلال بالنظام والفتنة بين الناس طلب معاوية والي الشام من الخليفة عثمان رضي الله عنه أن يستدعيه إلى المدينة - وكان أبو ذر وقتئذ بالشام - فاستدعاه الخليفة، فأخذ أبو ذر يقرر مذهبه، ويفتي به ويذيعه بين الناس، فطلب منه عثمان أن يقيم بجهة بعيدة عن الناس، فأقام بالربدة بين مكة والمدينة. . . وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان. .

ويبدو لي أن اللجنة لم تفرق في فتواها بين الشيوعية والاشتراكية، مع أن بينهما فرقاً كبيراً، وعلى هذا فقد خطأت أبا ذر في رأيه، وما كان أبو ذر شيوعياً، ولا يرى هذا الرأي، ولكنه لا شك كان اشتراكياً، يدعو إلى رد مال المسلمين على المسلمين. وقبل أن أناقش حكم اللجنة هذا أورد فتوى في هذا الشأن المغفور له السيد جمال الدين الأفغاني وهي تخالف فتوى اللجنة تمام المخالفة، فقد سأله أحد الباحثين عن مذهب الاشتراكية (سوسيالست) الذي ينادي به الغربيون فيه علاجاً حاسماً للحالة الاجتماعية القائمة في بلادهم، وهل هذا المذهب مما يقره الإسلام ويرتضيه فقال السيد رضوان الله: (الاشتراكية الغربية ما أحدثها وأوجدها إلا حاسة الانتقام من جور الحكام والأحكام وعوامل الحسد في العمال من أرباب الثراء الذين استعملوا ثروتهم في السفه والسرف، وبذلوها في التبذير والترف، على مرأى من منتجها، والعامل في استخراجها من بطون الأرض. .)

(أما الاشتراكية في الإسلام، فهي ملتحمة مع الدين الإسلامي ملتصقةفي خلق أهله. . وهذا خير كافل لجعلها نافعة مفيدة، ممكن الأخذ بها، لأن الكتاب الديني وهو القرآن الكريم أشار إليها بادلة كثيرة منها: إن المسلم أول ما يقرأ من فاتحة الكتاب: الحمد لله رب العالمين، فيعلم أن للخلق رباً واحداً، وهو مع سائر الخلق من المربوبين على السواء. ويرى ويعلم أن القرآن أتى على ذكر أرباب القوة ورجال الحرب والغزاة ومن يتولى إمرتهم وحياتهم، فخاطبهم آمراً ومعلماً ومدافعاً ومبيناً حقوق المستضعفين من الأمة الذين لم يتمكنوا من الاشتراك مع من ذكر ليكون لهم من ذلك الجهاد وتلك المساعي نصيب إذ قال (واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير)، فهذه آية باهرة، أوجبت على من يسعى مجاهداً ومخاطراً بحياته أن يكون مشتركاً فعلاً. . وهم لا شك من المستضعفين الذين إنما قعدوا عن الاشتراك في الجهاد والسعي وراء الغنائم لعل تختلف أشكالها وأنواعها، ولكن الله لم يجز حرمانهم، بل جعل لهم نصيباً من مساعي أولئك الأشداء الأقوياء المجاهدين الخائضين غمرات الموت.)

(كل ذلك تراه مبنياً على حكمة الاشتراك، ولبث حكم هذه الآية جارياً، وكان الرضاء به شاملاً لمجموع المسلمين، من مجاهد أو قاعد عن الجهاد لعلة، فبدأ بالدرجة الأولى بعد الله ورسوله بذوي القربى من المجاهدين على درجاتهم، ثم عطف على من دونهم في المرتبة الثانية ممن ليس لهم في المجاهدين أقرباء فقال: واليتامى، ثم وسع نطاق الاشتراكية فقال: والمساكين، ثم رأى أن يأخذ نطاقاً أوسع فقال: وابن السبيل، أي عابره. ثم بذلك الشكل نوع من الاشتراكية لم يكن أوسع منه شكلاً ولا أنفع. . .)

ثم جاء بموضع آخر من الكتاب مقرعاً لمن يكنزون الذهب والفضة، ثم حبذ وأثنى على الذين يؤثرون على أنفسهم بالعطاء والإسعاف والإطعام ولو كان بهم خصاصة.

(وهكذا ترى قانون الاشتراكية المعقول في آيات القرآن تترى، فلننظر هل عمل بهذا القانون؟ وما كانت نتائج العمل به؟)

(نعم) إن الإخاء الذي عقده المصطفى بين المهاجرين والأنصار لهو أشرف عمل تجلى به قبول الاشتراكية قولا وعملا. فالمهاجر من المسلمين إنما استطاع أن يفر بدينه راضياً بهجر بلده، وترك مسقط رأسه، ومفارقاً أهله وذويه، والخروج من ماله ومقتناه، مسروراً أن يصل إلى دار الهجرة سالماً - والأنصاري، وهو في بلده مع أهله وذويهوماله، قبل راضياً مسروراً أن يشارك أخاه المهاجر بكل معنى الاشتراك. حتى لو تطلع الإنسان منا اليوم، وأشرف على تلك الأرواح الطاهرة لرأى من مجال الاشتراك روحاً وجسداً، ما ينبهر له عقله، ولصح اعتقاده أن عمل الدين وتأثيره في تلطيف الكثافة الجثمانية لا يضارعه مؤثر أو عامل آخر على البشرية، ولرجعوا لو كانوا يعقلون. . .)

(وبعد النبي صلوات الله عليه كان صاحب أكبر منصب وهو الخليفة لرسول الله يسير بيسيرة نبيه من الاكتفاء بالقليل من العيش والكفاف منه، ومجالسة الفقراء وبمشاركتهم بكل معنى الاشتراك في مظاهر الحياة الدنيا ونعيمها. فأهل الإسلام مع تمخض سلطان الحرية فيهم لم يروا في سيرتي الصديق والفاروق رضوان الله عليهما ما يدعوهم إلى أقل تذمر أو تململ، أو تفكير بمناهضة لسلطانهما، أو تألب على أشكال حكمهما وإمرتهما، أو إحداث شغب يعرقل مساعيهما في الفتوحات، بل كانوا يبذلون النفس والنفيس في طاعة الخلفاء وتأييداً لشوكة الإسلام وتعميماً لعدل الشريعة السمحة. . .)

وبعد أن أورد السيد الأفغاني جملة من الشواهد الدالة على اشتراكية الخليفتين الأولين، وما تجلى من ذلك في سياستهما وتصرفاتهما، عرض لمذهب أبي ذر فشرحه في إفاضة وأشاد به، وسنعرض لذلك في المقال التالي.

(الجاحظ)