مجلة الرسالة/العدد 771/من شواهد النبوة:

مجلة الرسالة/العدد 771/من شواهد النبوة:

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 04 - 1948



المتنبئون

للأستاذ علي العماري

لم يعد خافياً على من كان له قلب أن الشواهد على نبوة محمد أسطع من فلق الصبح، ولكن لا بأس أن نسوق هنا شاهداً جديداً مر عليه أكثر الناس مؤرخين، وقد سخروا منه حينا، واستطابوا السمر به في أحيان كثيرة، ولكن ما أظن أحداً منهم - على مبلغ علمي - فطن إلى المعنى الأصيل، أو كشف عن السر الإلهي الذي كمن في دعوى المتنبئين. ولا شك عندي أن التنبؤ كان من الدلائل الواضحة على صدق النبوة، وهل أدل على وجود الشمس من تضاؤل أشعة المصابيح أمامها؟ وما كان هؤلاء المتنبئون إلا كالأعلام المنصوبة على رأس الطريق تدعو الناس إليه، وتزعم أنها ترشدهم إلى المنهج القويم، فمن الناس من سلك ولكنهم لم يبعدوا حتى وجدوا الصخور والأشواك، وما لا قبل لهم به من حشرات الأرض وأفاعيها. وحينئذ استيقظت أحاسيسهم، وأدركوا خطأهم ورجعوا إلى الأعلام فحطموها، ولكن بقيت منها أشلاء تنادي كل سالك بأن الطريق المستقيم ليست من هنا ولكنها من هناك. . . هناك الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا أمت، ولا أشواك ولا حشرات. ولقد ظهر المتنبئون في الجزيرة العربية ظهور السراب الخادع، فكان من العرب من وثق ببرهان عينيه، وأيقن أنه السراب، وإنما يخيل له، وأن طريق الماء ليست إليه. ومنهم من انخدع - عن جهل أو عن علم - فسار، ولكن بعد أن حفيت قدماه، ونهكهت أعصابه، ما وجد إلا سراباً يقول له واضحاً صريحاً: إني لست ماء فالتمس الري عند غيري. وكان هذا السراب - لمن سار ولمن لم يسر - شاهداً لا سبيل إلى الشك فيه على أن الماء في غيره. . هكذا كان شأن المتنبئين. .

ومن عجب هذا الأمر في الغرب أنه لم يدعه منهم من كان يظن أن يدعوه، فقد كانت طبيعة الأشياء تقضي بأن يتنبأ رجل كأمية بن أبي الصلت، فإنه هيأ نفسه لتلقي الوحي، فدان بالحنيفية ملة إبراهيم، وقرأ الكتب المقدسة وكره عبادة الأوثان، وأخذ نفسه بالفضائل فحرم الخمر والزنا والميسر، وخالط الأحبار والرهبان، وتزيا بزيهم، وأظهر التأله، وما هي إلا غمضة عين وانتباهتها حتى يجيئه - زعم - الوحي، فلما ظهرت النبوة في قريش، ونزل الوحي على محمد بن عبد الله ، امتلأت نفسه حقداً وحسداً، وصد عن السبيل، وبالغ في العداء للمسلمين، وقاتلهم مع مشركي مكة، وجعل يرثي من قتل من كفار قريش في بدر، فكان طبيعياً - وقد حرم النبوة - أن يدعيها، فعنده آلاتها - على زعمه - ولكنه لم يفعل، أو يتنبأ رجل كعامر ابن الطفيل فقد كان سيد قومه، وآلى على نفسه ألا ينتهي حتى تتبع العرب عقبه، فما كان له - كما حدث عن نفسه - أن يتبع عقب هذا الفتى من قريش. وقد وفد على النبي ، وكان يضمر الغدر به، وعرض معه أن يجعل الأمر له سنة، ولنفسه سنة، أو يجعل له الوبر ولنفسه المدر، ولكن الرسول أبى، فقال عامر: والله لاملأنها عليك خيلاً جرداً ورجالاً مردا، ولأربطن بكل نخلة فرساً، ولكنه - مع ما كان يحرص عليه من ملك العرب - لم يدع النبوة، وإنما ادعاها قوم لم يكونوا على مقربة منها، ادعاها مسيلمة بن حبيب، وبعض كتب السيرة تحدثنا بأنه لما وفد مع قومه على رسول الله جعلوه في رحالهم ليقوم بشئونها. وادعاها طليحة بن خويلد الأسدي، وادعاها الأسود العنسي، وادعاها لقيط بن مالك الأزدي في عمان. ولم يحدثنا التاريخ عن واحد من هؤلاء قبل ادعائه النبوة بما يمكنأن يكون مؤهلاً فيه لها، عدا ما ذكروا من كهانة طليحة. ثم ادعتها امرأة، ادعتها سجاح بنت الحارث التميمية، فصحقول الشاعر:

لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس

ولم يخف هذا الأمر على أتباعها، فقال أحدهم يسخر منها بعد أن تزوجت مسيلمة.

أمست نبيتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا

والذي تستطيع أن نقوله في كل هؤلاء (ليس بمتنبئ صادق، ولا بكذاب حاذق) فإن أحداً منهم لم يستطع أن يتقن دوره الذي قام به، وأن يخدع الناس عن دعوته. نعم كان منهم الكهان الذين مرنوا على استهواء العامة، وكان منهم من تعلم الحيل ليموه بها على قومه؛ فقد قال الزمخشري في ربيع الأبرار: قال الجاحظ: كان مسيلمة قبل ادعاء النبوة يدور في الأسواق التي بين دور العرب والعجم يلتمس تعلم الخيل والغير تجات واحتيالات أصحاب الرقي والنجوم. أه. ثم جاء العصر العباسي فكان المتنبئون جماعة من الحمقى، ولم يكن لهم تأثير لا في العامة ولا في الخاصة، وإنما هو الجنون، فإن لم يكن فالحمق لا ريب فيه.

فكيف - أذن - استطاع هؤلاء المتنبئون أن يسخروا أقوامهم في حروب دامية مع جيوش المسلمين! وكيف استطاع مسيلمة - مثلاً - أن يحشد أربعين ألفاً يقاتلون قتالاً لا هوادة فيه ولا رفق، حتى يقول فيهم بطل المسلمين خالد بن الوليد: شهدت عشرين زحفاً فلم أر قوماً أصبر لوقع السيوف ولا أضرب بها ولا أثبت أقداماً من بني حنيفة يوم اليمامة. وحتى يقول فيهم رافع بن خديج: خرجنا ونحن أربعة آلاف، فانتهينا إلى اليمامة فتنتهي إلى قوم هم الذين قال الله فيهم (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد). ولماذا صبر هؤلاء حتى دوخوا المسلمين، وقتلوا منهم ألفاً وثمانمائة، وضحوا من رجالهم بعشرين ألفاً؟ ليس السر قطعاً لصديقهم بنبوة صاحبهم، فما كانوا يحاربون في سبيل الدين، وقد كانوا - أو على الأقل كثير منهم - على يقين من كذب هذا الإدعاء. على أن هذا لم يكن شأن مسيلمة وقومه وحدهم، وإن كان أكثر المتنبئين إتباعاً - ولذلك سبب نحن ذاكروه متى انتهى بنا الكلام إليه - فقد كان وراء طليحة الأسدي نحو السبعمائة رجل! وقبل أن نجيب عن هذه الأسئلة نحب أن نذكر أن حركة التنبؤ تأخرت كثيراً، ولم تظهر إلا في أخريات حياة النبي ، ومنها ما ظهر بعد وفاته. وقد طال نظري في هذا الأمر، ثم وجدت في مقدمة ابن خلدون ما يصح تعليلاً، قال بعد أن تحدث عن النبوة والكهانة، وانقطاع الكهانة في عهد النبوة (فإنما كان ذلك الانقطاع بين يدي النبوة فقط، ولعلها عادت بعد ذلك إلى ما كانت عليه، وهذا هو الظاهر، لأن هذه المدارك كلها تخمد في زمن النبوة كما تخمد الكواكب والسرج عند وجود الشمس، لأن النبوة هي النور الأعظم الذي يخفي معه كل نور ويذهب) وهذا ولا شك تعليل نفسي جميل، فإن النبوة بقوة سطوعها في النفس تخمد فيها كل حركة توحي بها الشياطين، وتشعر النفوس معها بأنها مضروب عليها من كل نواحيها، فلا تفكر في باطل - من هذا النوع - ولا تأتيه، ولكن هذا التعليل - مع ذلك - ليس كل الحق في موضوعنا، فأني لأرى أن تأخر ظهور المتنبئين كان مرجعه إلى أن العرب تركوا قريشاً تنازل النبي، وتصطدم به، وكانوا هم على هامش المعركة، فلما كان عام الفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً ورأى الأعراب أن الدعوة المحمدية قد مكن لها بدأوا يفكرون في طريق يعاندون بها هذه النبوة التي ظهرت، وكانت هناك أسباب أدت إلى ظهور حركة التنبؤ في أواخر أيامه .

ثم نعود إلى الإجابة على ما قدمنا من أمثلة فنقول: إن ثلاثة أمور عظيمة هي التي دفعت بهذه العشائر إلى أتون الحرب، ليس منها يقينهم بنبوات أصحابهم، أولها ما جاء به أولئك المتنبئون من وضع كثير من أوامر الدين عن أقوامهم، فقد رووا أن مسيلمة وضع عن قومه الصلاة، وأحل لهم الخمر والزنا. وفي القصة الموضوعة التي تصور لنا ما حدث بينه وبين سجاح التميمية أنه أصدقها بأن وضع عن قومها صلاتين مما جاء به محمد. والرواة يحدثوننا أن بني تميم لا يصلون صلاة الفجر ولا صلاة العشاء الآخرة لأنهما مهر فتاتهم. ويروى عن طليحة أنه كان يقول لقومه: إن الله ما يصنع بتعفير وجوهكم، وتقبيح أدباركم شيئاً، اذكروا الله، واعبدوه قياماً. على أن أهم ما في هذا الأمر أن المتنبئين أعفوا أتباعهم من الزكاة، وهي السبب الأصيل الذي أدى إلى ارتداد العرب بعد وفاة النبي . وثانيهما تلك العصبية الجامحة التي كانت لا تزال تحتل نفوس العرب، والتي تصورها لنا كلماتهم؛ فقد رووا أن طلحة النمري جاء اليمامة فقال: أين مسيلمة؟ قالوا: مع رسول الله. فقال: لا، حتى أراه، فلما جاءه قال: أنت مسيلمة؟ قال نعم. قال: من يأتيك؟ قال: رحمن. قال في نور أو في ظلمة؟ قال في ظلمة، قال طلحة: أشهد أنك كذاب، وأن محمداً صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر. ثم بقى مع مسيلمة حتى قتل في موقعة عقرباء (كما في ابن الأثير)، كما روى أن عينة بن حصن لما أتى طليحة، وكان بين غطفان وأسد حلف في الجاهلية قام وقال: إني لمجدد الحلف الذي كان بيننا في القديم ومتابع طليحة، والله لأن نتبع نبياً من الحليفين أحب إلينا من أن نتبع نبياً من قريش. على أن عيينة هذا، لم يدخل الإيمان قلبه - ولعل كل الذين ناصروا المتنبئين من سادات العرب كانوا كذلك - فقد روى أن عيينة لما أسر وطيف به المدينة وهو مكتوف جعل الصبيان يقولون: يا عدو الله! كفرت بعد إيمانك؟ فيقول: والله ما آمنت بالله طرفة عين. وهذه العصبية تفسر لنا تفسيراً واضحاً موقف كل متنبئ من عشيرته، فإن كانت العصبية قوية كثر أتباعه، وإن كانت ضعيفة قل هؤلاء التباع. ومن المشهور في التاريخ أن ربيعة كانت شديدة الحسد للمضريين لما ظهر النبي منهم، حتى قال المأمون (لم تزل ربيعة غضاباً على الله منذ أرسل نبيه من مضر) وهذا يفسر لنا كثرة أتباع مسيلمة، وشدة صبرهم على قتال المسلمين.

(للحديث بقية)

علي العماري

مبعوث الأزهر بالمعهد العلمي بأم درمان