مجلة الرسالة/العدد 771/من العصور الوسطى إلى الأزمنة الحديثة:

مجلة الرسالة/العدد 771/من العصور الوسطى إلى الأزمنة الحديثة:

مجلة الرسالة - العدد 771
من العصور الوسطى إلى الأزمنة الحديثة:
ملاحظات: بتاريخ: 12 - 04 - 1948


1 - الوطنية الجديدة

للأستاذ محمد محمد علي

في عام 1909 لفت اثنان من حكام المستعمرات الأوربية أحدهما إنجليزي في الهند البريطانية، والآخر روسي في التركستان، لفتا النظر إلى المتغير الذي بدأ يحدث في اليقظة الاجتماعية والثقافية لسكان المستعمرات. فقال اللورد رونالد شاي: (هناك مشكلات آخذة في الظهور، لها أثر بعيد بالنسبة للعالم عامة، ولبريطانيا خاصة، تحفز على التفكير والدراسة، أعضاء جنسيتنا، وإني أشير إلى تلك المشكلات الممثلة في الرغبة الزائدة لتأكيد الذات، التي تثير أعصاب الشرقيين. وفي الواقع أن احتكاك الفكر العربي بأفكار الشرقيين، قد أحدث تأثيراً كبيراً في جميع سكان الشرق.

وفي نفس العام، كتب الحاكم الروسي العام للتركستان: (إن الحروب قد حركت العالم الإسلامي في الفترة الحالية، فقد ظهرت أولاً فكرة الجامعة الإسلامية ثم المطامع الوطنية المتزايدة والأفكار الثورية، كل هذا حرك الجماهير الإسلامية، وأيقظ في أوساطهم فكرة الوحدة الوطنية، والأفكار الاشتراكية)

ومنذ عشرين سنة كافحت الهند من أجل الاستقلال، الذي لفت أنظار بريطانيا والعالم. وفي التركستان، حلت الجمهوريات الوطنية الاشتراكية محل الولايات الروسية التي كانت تحت سيطرة الحاكم العام. وقد عرف تفوق أوربا في ميدان العلوم الهندسية والتنظيم الفني. وبدا الناس يعرفون بالتدريج أن أوربا يمكن أن تقهر بأسلحتها، فساروا على نهج حركات التحرير الوطنية التي قامت في أوربا في القرن التاسع عشر. ولما تنبهت في شرق أوربا - أمم لا تاريخ لها - للشعور بذاتها، في القرن التاسع عشر، وحاولت أن تلعب دوراً إيجابياً في التاريخ؛ استيقظ الشرقيين من ظلمات عهود الإقطاع الوسطى، وهبوا إلى غرض واحد في شعار الوطنية ورأسمالية الطبقة الوسطى.

إذن، فالشرق قد وصل إلى عصر فيه الوطنية أعلى وأسمى الأوضاع الاجتماعية، وتفرض طابعها على العنصر.

ومنذ سنوات، كان الدين هو العامل الفعال في الشرق. وليست الوطنية ديناً خارجاً ولكنه تشق طريقها بجانبه، وغالباً ما تعدل فيه بالتغيير والإصلاح.

إن الوطنية اليوم في تلاؤم مع النظم الاجتماعية الجديدة. وقد ظهر هذا في أوربا بوضوح، عندما كانت هناك حاجة إلى القضاء على الإقطاع، والوطنية المحلية القائمة على أساس الزراعة والأسواق الصغيرة والمدن والوصول إلى الوحدة الكبرى في ظل النظام الرأسمالي.

لقد كانت الوطنية هي الشكل الذي وافق حاجات الرأسمالية الناشئة والطبقة الوسطى الفتية، ولا تزال الوطنية في الشرق تواجه حاجات اجتماعية واقتصادية، سواء نظرنا إلى الموقف من وجهة نظر أوربا اليوم، أو الشرق في الماضي القريب. فنظم الصناعة الرأسمالية تشق طريقها إلى الشرق، ويسير اقتصاد النقد والتصنيع: جانب الزراعة والمبادلة. وهنالك طبقة وسطى فنية آخذة في الظهور، والشعور برسالتها، ومتأهبة للكفاح ضد نبلاء الإقطاع.

وفي الأقطار التي تجري فيها هذه العمليات، وترى أن الحركات الوطنية قد قضت على الانقسامات الدينية بين السكان، كما في مصر وسورية. وإن السياسي المنقطع النظير - ابن السعود بعيد عن روح التطور في رسالته السياسية، ويعقد الشباب العربي في سوريا وفلسطين - حتى المسيحيون - آمالهم على بدوي الصحراء المسلم ابن السعود. وعندما أعلن الأتراك الرابطة الوطنية في 28 يناير سنة 1920 - عن الولايات العربية في الإمبراطورية العثمانية، ومدن الإسلام المقدسة، الذي كان امتلاكها في غاية الأهمية لدولة الخلافة الإسلامية؛ أرسل وفد الخلافة الهندي برئاسة محمد علي إلى نائب الملك في الهند في 19 يناير سنة 1920 وإلى لويد جورج في 19 مارس، يقول إن الخليفة يجب أن يمتد نفوذه إلى المدن المقدسة الثلاث: مكة والمدينة والقدس، وإلا فإن معاهدة السلام لن يقبلها أي مسلم مؤمن.

وقد نقل (خودابكش) كلمات ولسون كاس الأمريكي: (إن شباب الإسلام اليوم مفكر بأسلوب سياسي أكثر منه دينياً، وهو متحمس جداً لنفع أمته أكثر من تحسنه الانتشار الإسلام. وإن عظمة الإسلام ليست مسألة خلافة أو شريعة، بل هي مسألة وحدة سياسية تقف في وجه الغرب).

2 - الشباب الحديث بعد الحرب العظمى (الأولى) مباشرة - عندما سادت بين الشرقيين تجربة الوحدة الوطنية، ظهر أن الاختلافات الدينية قد اختفت. فالمسلمون والأقباط في مصر، والمسلمون والمسيحيون في فلسطين وسوريا، والشيعة والسنيون في العراق، والمسلمون والهندوس في الهند؛ كل أولئك حاربوا جنباً إلى جنب من أجل الثورة على أحوالهم السياسية. ولا تزال اليقظة القومية لها وجود اليوم وإنها لعامل في تاريخ هذه الأقطار - التي ما كانت توجد بغيرها. وسوف لا تلعب الاختلافات الدينية دوراً في السياسة في محيط الحضارة العربية المصرية؛ وهذا بالرغم من السياسة الاستعمارية الرجعية وتصعيبها للنمو السياسي واليقظة القومية، وذلك بإدخال أقليات دينية وعنصرية.

إن الشباب المسلم يعمل على ربط نفسه بالتقاليد، فيفصل ما هو ذا قيمة عما لم يعد يتلاءم والوقت الحاضر، وليخلق إسلاماً مجدداً يقبل محاسن الغرب ويغالب الحضارات الأوربية، هؤلاء الشباب ينكرون إرساليات التبشير، ويرون أنفسهم، وقد واجهتهم مشكلات - كان يجهلها آباؤهم، ويقابلهم تغير مريع في أحوال الشرق الفكرية والاجتماعية. لقد دخلت في نفوسهم قوى جديدة وخلقت لأول مرة: حركة شبان مسلمين.

ومنذ قرون لم يكن في الشرق حزازات ولا اختلافات بين الآباء والأبناء. أما الآن فقد حدث تغير في علاقات الأفراد وصلتهم بالحياة والأسرة والطبيعة.

وقد أسر الشباب في الشرق: حب الرياضة والتجول، كما دخلت إلى حياتهم العاطفية مشكلات الحب والزواج. ثم إن تعليم البنات بغير العلاقة بعد الجنسين. وزيادة على ذلك يأمل الشباب - ولما يملكوا القوة بعد - أن يتخلصوا من الماضي ومما وارث من العادات في السياسة الشرقية، مثل الأساليب الرجعية، والحاجة إلى العزيمة الماضية، وانخفاض مستوى المسئولية الاجتماعية، وعدم القدرة على التضحية بالمصالح الشخصية في سبيل الصالح العام والمحسوبية!. وكانت جمعيات الشبان المسلمين مجمع هذه الآمال، إذ حاولت إنشاء مراكز ثقافية واجتماعية لشباب الإسلام. وفي إبريل 1928 - انعقد في يافا مؤتمر لجمعيات الشباب المسلمين مع مائة وعشرين مندوباً عن فلسطين. وقد أجمع المؤتمر على إصدار إعلان عن تأسيس مدارس إسلامية وطنية ودعوة الحكومة إلى فتح مدارس جديدة، وتعديل برامج الدراسة في المدارس الأجنبية بروح وطنية. كما وضع الاجتماع شارة ونشيد وعلم. ومما يلفت النظر الاحتفال بيوم الجمعة وتخصيصه للعطلة الأسبوعية، وتنظيم دراسات مسائية للعمال، وتشجيع المسرح العربي، وإنشاء جمعيات إسلامية للشابات، غرضها رعاية الطفل والعلاج المجاني للمرضى الفقراء.

هذه القرارات الحازمة لم تعرف في الإسلام، ولا من عهد قريب. وليس من شك في أن هناك تأثيراً بأوربا، ولكن الشباب يجاهد لاستنبات هذه الأفكار في تربة إسلام مجدد.

وليس من يشك أيضاً في أن الجيل الناشئ من المسلمين والمسيحيين أكثر نضوجاً سياسياً من الجيل الماضي، وذلك بفضل تعاليم المدرسة الجديدة والجامعة الأوربية. ولم يقتصر عمل الشباب على وضع المطالب القومية في المقدمة فحسب، بل إنهم تيقظوا للمشكلات الاجتماعية وضرورة إيجاد حلول جديدة.

(يتبع)

محمد محمد علي