مجلة الرسالة/العدد 772/لا، لا نملك تحريم تعدد الزوجات

مجلة الرسالة/العدد 772/لا، لا نملك تحريم تعدد الزوجات

مجلة الرسالة - العدد 772
لا، لا نملك تحريم تعدد الزوجات
ملاحظات: بتاريخ: 19 - 04 - 1948



للأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي

لم أكد ألمح بين مواد فهرس الرسالة الصادرة في 5 أبريل الجاري هذا العنوان (نعم نملك تحريم تعدد الزوجات) حتى ساءلت نفسي: ترى من هذا الذي تطوع للدفاع عن قضية بينة الخسران؟ وما أن رأيت العنوان مقرونا باسم صديقنا فضيلة الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي حتى إشفاق على المدافع وخشيت عليه مغبة الأمر.

لكن سرعان ما تبددت مخاوفي حين طالعت المقال فوضح لي أن العنوان لا يترجم له. ويخيل إلى أن الأستاذ قد أغرى بمعارضة عنوان مقالاتنا المنشورة بمجلتي (المجتمع الجديد) (والرسالة) تحت عنوان (هل نملك تحريم تعدد الزوجات) فأوقعه ذلك - دون ما قصد - فيما ظنه مأخذاً علينا من عدم المطابقة نين العنوان والمقال. فالأستاذ يقرنا على أن الشرع قد أباح تعدد الزوجات إلى أربع ولم يحرمه بأي نوع من أنواع التحريم، ويؤيدنا في إنكارها علي معالي عبد العزيز فهمي باشا - أسبغ الله ثوب العافية - ما ذهب إليه من القول بأن الشرع يحرّم ذلك، وما ارتكبه دفاعاً عن هذا القول من (تعسف لم يقع نظيره من مسلم) بتأويله آي القرآن بما لا تحتمله، ورده السنن الواردة بالإباحة وتسفيهه الإجماع المنعقد عليها قولا وعملا في جميع العصور. . الخ لكنه (الأستاذ الصعيدي) يرى - مع ذلك - أننا (نملك تحريم تعدد الزوجات، ولكن بطريق ما كان يصح أن يخفى على حضرة صاحب المعالي العالم العلامة عبد العزيز فهمي باشا. .) ولم يبين لنا هذا الطريق صراحة وغن كان قد أشار إليه بما يفهم منه أنه طريق التشريع الوضعي القائم على استعمال ولي الأمر ماله من سلطان على عماله قضاة كانوا أو مأذونين بمنعهم من تحرير وثائق رسمية لعقود الزواج المتضمنة للتعدد أو سماع الدعاوى المترتبة على هذه العقود.

فأن كان هذا معناه - ولا يمكن أن يكون قد عنى سوى - فقد أخطأ القصد إلى التحريم وإلى حقيقة هدف الباشا وما خفي وما لا يخف على معاليه. ذلك أن الطريق الذي أشار إلية قد لجأ إليه الشارع المصري حقيقة في نظائر لتعدد الزوجات تحقيقاً لمقاصده الإصلاحية بما يناسب تطور الزمن وتغيير الأوضاع. ومن هذه النظائر مسائل إثبات النسب، والنفقة، والعدة، وتحديد سن الزواج الذي أشار إلية الأستاذ لكن هذا الشارع لم يتناول هذه الأ بتحريم قط، وما كان له أن يفعل إذ الحل والحرمة حكمان دينيان، والحاكم هو الله وحده جل شأنه، وإنما سلك الشارع المصري طريقاً سلبياً لا علاقة له بحل ولا حرمة، وهو كما قدمنا - طريق منع القضاة والمأذونين من سماع بعض الدعاوى وتحرير بعض الوثائق الخاصة بهذه الأمور. فلا ينبني على ذلك أن ينقلب الحرام منها حلالاً أو الحلال حراماً حتى يصح القول بأننا (نملك التحريم) وكل ما هنالك أنه عطل من الآثار المترتبة على هذه الأمور ما يستلزم الوصول إليه قضاء القاضي أو تحرير الوثيقة وترك الناس بعد ذلك أحراراً يتزاوجون ويقر بعضهم لبعض بالنسب ويؤدون لزوجاتهم ما عليهم لهن من نفقات غير مقيدين في ذلك إلا في بأحكام الدين. ويعتبر صحيحاً كل ما ينشئون بينهم من علاقات على هذا النحو، وتترتب عليه جميع الآثار الشرعية عدا ما ذكرنا من الآثار المعطلة. فلو طلق مسلم مصري زوجته ثم ولدت بعد الطلاق بأكثر من سنة ولم ينكر المطلق الولد ثبت نسبه منه شرعاً وترتبت للولد والوالد كافة الحقوق من نفقة وحضانة وولاية وتوارث وغيرها. ولو تزوج من يقل سنه عن ثماني عشرة سنة بمن يقل سنها عن ست عشرة سنة فزواجهما صحيح شرعاً تترتب عليه كافة الآثار الشرعية عدا المعطل منها. وكذلك الحال في باقي الأمور التي سلك فيها الشارع هذا الطريق السلبي.

بل أن العلاقات التي تنشأ من هذا القبيل في حدود الأوضاع الدينية صحيحة قانوناً أيضاَ وتترتب عليها كافة الآثار عدا ما نص على تعطيله. ومن ذلك أن مواقعه الزوج لزوجته التي يقل سنها عن ست عشرة سنة لا تعتبر جريمة، فلو لم يكن هذا الزواج صحيحاً قانوناً لاعتبارات جريمة هتك عرض ولا نطبق على الزوج حكم المادة 269 من قانون العقوبات - ومن ذلك أيضاً أن محكمة النقض والإبرام قد أصدرت في 29 نوفمبر سنة 1930 برياسة معالي عبد العزيز فهمي باشا نفسه حكمها المشهور بعدم اعتبار ذكر الشهود سناً غير حقيقية لأحد الزوجين في وثيقة العقد مع علمهم بسنه الحقيقية، جناية تزوير بناء على أن واقعة السن ليست من الأركان الأساسية في عقد الزواج لأنه يصح وينفذ وتترتب عليه أثاره الشرعية بدونها.

ولهذه الاعتبارات المتقدمة نرى الشارع المصري يعبر عما تناوله من هذه الأمور بتعبير يتفق وحقيقة ما قصد إليه من معنى سلبي لا يتعرض فيه لحل ولا حرمة، فيقول مثلاً (لا تسمع الدعوى لنفقة عدة تزيد عن سنة من تاريخ الطلاق، كما أنه لا تسمع عند الإنكار دعوى الإرث بسبب الزوجية لمطلقة توفى عنها زوجها بعد سنة تاريخ الطلاق) (المادة 17 من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929) بخلاف الأحكام التي أوردها متفقة وأحكام الشريعة ولو في بعض المذاهب فقط، كقوله (لا يقع طلاق الكران والمكره) (المادة 1 من المرسوم بقانون سالف الذكر).

على أن سلوك المشرع المصري لهذا الطريق السلبي مبنى على قاعدة شرعية مقررة وهي (تخصيص القضاء بالمكان والزمان والحادثة) إلا أن تطبيق هذه القاعدة في مصر محل نظر ليس هنا مجال التبسيط فيه. وحسبي أن أجتزئ ببيان أن المقصود بهذه القاعدة وما يتفق مع ما حدث من تطبيقها في جميع عصور الإسلام المتقدمة، هو تخويل ولي الأمر، بما له من الولاية القضائية العامة، الحق في تنظيم هذه الولاية بين قضاته بما يتفق والصالح العام ومصلحة المتقاضين وحال القضية من أن بعضهم أكثر صلاحية للحكم في بلد دون آخر، وفي زمان معين دون زمان آخر، وفي بعض الدعاوى دون بعض. وليس المقصود بهذه القاعدة حرمان المتقاضين من التمتع بالآثار المترتبة على ما أحله الشرع، وإلا كان في ذلك تعطيل لبعض أحكامه الخاصة بترتب الآثار المتقدمة على تصرفات أجازها مما لا يدخل في نطاق هذه القاعدة ولا يمكن أن يكون مقصوداً بها. ولهذا قرر جميع من تعرضوا لبيان هذه القاعدة من أمثال أبن فروجون في تذكرته والماوردي في أحكامه السلطانية أنه إذا كف ولي الأمر جميع قضاته عن سماع الدعوى بناء على هذه القاعدة، وجب عليه أن يسمعها بنفسه كي لا تتعطل بعض أحكام الشرع، فليرجع إلى ذلك من شاء.

ومما تقدم يتبين بجلاء للأستاذ عبد المتعال أن الطريق السلبي الذي أشار إليه ليس طريقاً للتحريم بحال في وضعه الحالي، بل ولا يجوز (شرعاً) أن يترتب عليه تعطيل لبعض الأحكام المترتبة على تصرفات شرعية صحيحة ولذلك لم يقل به معالي عبد العزيز فهمي باشا في مسألة تعدد الزوجات، وما كان هذا الطريق ليخفى على مثل معاليه، ولكنه أراد شيئاً، مغايراً لما عناه الأستاذ، أراد (تقرير) التحريم بقانون على أنه حكم الشرع كما فهمه معاليه من النصوص القرآنية، لا (إنشاء) حكم جديد فعنوان مقالاتي في الرد على معاليه يطابق موضوع النزاع بيني وبينه تمام المطابقة.

إبراهيم زكي الدين بدوي

من جامعات الأزهر وباريس وفؤاد

المتخصص في الشريعة الإسلامية والقانون