مجلة الرسالة/العدد 775/رسالة النقد

مجلة الرسالة/العدد 775/رسالة النقد

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 05 - 1948



كتاب الكندي إلى المعتصم بالله

في الفلسفة الأولى

حققه وقدم لـ الدكتور أحمد فؤاد الأهواني

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

لم تمض إلا أربعة أشهر أو خمسة على كتاب (معاني الفلسفة) الذي ألفه الدكتور أحمد فؤاد الأهواني حتى أتحف جناح الفلسفة في المكتبة العربية بكتاب من كتب فيلسوف العرب يعقوب الكندي، وهو الكتاب الذي بعث به أول فيلسوف من فلاسفة العرب إلى الخليفة العباسي.

ولم يكن غريباً على فلاسفة المسلمين أن يبعثوا بكتبهم إلى الخلفاء، ولم يكن جديداً على (الكندي) نفسه أن يراسل الخلفاء في مسألة من مسائل العلم، فقد ذكر ابن أبي أصيبعة في (طبقاته) أن للكندي رسالة إلى المأمون (في العلة والمعلول).

وتحمل مراسلات الفلاسفة للخلافة والأمراء معنى تشجيع هؤلاء لأولئك، وهي في ذاتها دلالة من الواقع والتاريخ على ما كان يقوم به الخلفاء من احتضان العلماء وتقريبهم ومعونتهم على أداء الرسالة الجليلة التي نصبوا أنفسهم لها، وأضنوا أنفسهم في سبيلها.

وعنوان الرسالة نفسه (في الفلسفة الأولى) يحمل سؤالا يرد على الخاطر لأول وهلة؛ فهل هناك فلسفة أولى تقابلها فلسفة ثانية وثالثة ورابعة؟ وهل هناك فلسفة أولى تقابلها على سبيل الطباق البلاغي فلسفة آخرة؟ كما يقال في الشهور القمرية جمادي الأولى وجمادي الآخرة؟ وكما يقال في صفات الله: هو الأول والآخر؟؟

ظننت أول الأمر أن الفلسفة الأولى هي فلسفة اليونان التي اشتغل بها العرب في إبان بهضتهم في الترجمة. فقد أكبوا على فلسفة اليونان ونقلوها إلى اللسان العربي الذي كانت الفلسفة شيئاً جديداً عليه. ولكن الدكتور الأهواني يقول في مقدمته التحليلية النفيسة للرسالة إن اصطلاح (ما دون الطبيعيات) هو نفسه (الفلسفة الأولى) ص 55؛ وقد يكون ذلك مقبولا لو أن عنوان رسالة الكندي هو (كتاب الفلسفة الأولى أو ما دون الطبيعيات)، ولك العنوان هو كما يذكر الدكتور الأهواني (كتاب الفلسفة الأولى فيما دون الطبيعيات والتوحيد)، ويستنبط المحقق من هذا النص أن ما دون الطبيعيات غير التوحيد، ولكنه ينسى ما يقوله الكندي في أحد مواضع الرسالة أن الفلسفة هي علم الربوبية والوحدانية - أو التوحيد - وينسى ما يقوله الكندي في موطن آخر: (إن علم العلة الأولى سمى بحق الفلسفة الأولى).

ورسالة الكندي في الفلسفة الأولى لا تزيد على نصف الكتاب المطبوع اليوم إلا قليلا. أما النصف الأول فهو تحقيق علمي دقيق في ترجمة الكندي ونشأته ومنزلته في تاريخ الفلسفة الإسلامية وأسلوبه في الكتابة الفلسفية وتحليل الرسالة ذاتها، وقد أضاف هذا التحقيق كثيراً من القيمة لهذه الرسالة التي كانت للدكتور الأهواني فضل نشرها في لغة العرب لأول مرة، وهو فضل نسجلة دائماً مع الشكر لكل من يزيح ستراً عن أثر من آثار المسلمين إبان نهضتهم في زماننا هذا الذي تدعونا فيه دواع كثيرة إلى كشف الغطاء عن كل أثر إسلامي صغر أو كبر.

وإذا كنا أخذنا في عدد ماض من مجلة (الرسالة) على الأستاذ فؤاد جميعان عدم استيفاء التحقيق والتحليل لكتاب (ميزان الحكمة) الذي ألفه الحكيم الرازي، فان الدكتور الأهواني كان في الحق بعيداً عن موضع المواخذة حين أخرج رسالة الكندي في الفلسفة الأولى هذا المخرج الذي يجري على أسلم قواعد نشر المخطوطات. وإذا كان لم يقع لصديقنا الأهواني من مخطوط الكندي إلا نسخة خطية واحدة فانه في الحق قد عني نفسه في التحقيق والمراجعة على الرغم مما عاناه من رداءة الخط وكثرة التصحيف وعدم الإعجام في النسخ.

ولا أقول إن تحقيق الرسالة الكندية المعتصمية قد أوفى على الغاية، وخاصة حينما لا يكون بين يدي الناشر إلا مخطوط واحد يجتهد في تخريج الغامض من نصوصه عى ما يقتضيه السياق حيناً أو على ما يوحى به الحدس أحياناً. . . مما يحمل الناشر على أن يقول هذه العبارة التقليدية. . .: (في الأصل كذا ولعلها كذا) ولعل ما يقع من اضطراب أو غموض في أسلوب الكندي مردود في بعض الأمر إلى ما عند الناسخين من تخليط وتصحيف. والدكتور الأهواني يعترف معي بأن الكندي الذي تقع له العبارات البليغة في بعض رسائله ويحدث له التعبير المشرق (في رسالة في الحيلة لدفع الأحزان) لا يقع له الغموض في بعض ما كتب إلا حين يحمله التفلسف على التوعر.

وأخشى أن يكون الكندي مظلوماً في الذي قيل من رداءة أسلوبه. فهل كان هو ينقل الرسائل عن اليونانية بنفسه أم كانت تنقل له؟ فاذا كانت تنقل له فليس الذنب في الأسلوب ذنبه، ولكنه ذنب الناقل. . . ألم يختلف مؤرخو الحكمة الإسلامية في كتب الكندي اختلافاً يدعو إلى العجب. . . فابن النديم يقول عن كتاب جغرافية بطليموس إنه نقل للكندي نقلا رديئاً. . . ويقول القفطي إن هذه الكتاب (نقله الكندي إلى العربية نقلا جيداً). فأنت تقف أمام هذا التناقض موقفاً لا تدري وجه الحق فيه.

ويذكر ابن النديم أيضاً أن كتاب (الإلهيات) لأرسطو نقله أسطاث المترجم للكندي الفيلسوف. فيزيدنا شكا في رسائل الكندي وصحة نقله إياها من اللسان اليوناني. . . على أن صديقنا الدكتور الأهواني لا يبالي بأمثال هذه الشكوك ويمضي في رسائل الكندي كأن الطريق إليها مأمون العثرات. . .

ويظن بعض الناس عمداً أو خطأ أن الكندي مسيحي سرياني. وقد وقع في هذا الوهم الفيكونت فيليب طرازي في كتابه القيم (عصر السريان الذهبي). ومن عجب أن هذا الكتاب طبع سنة 1946، وطبع قبله كتاب للمرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق وفيه نفي لمسيحية الكندي وتحقيق لهذا المسألة تحقيقا لا يدع مجالا للشك فيها. وأظن أن الكونت طرازي قد وقع له كتاب الشيخ مصطفى عبد الرازق لأنه يفتخر بمكتبته العامرة في بيروت فما معنى الإصرار على الأمر بعد تبين الحق فيه؟؟ وقد أشرت إلى ذلك في مجلة (الكتاب) عدد فبراير سنة 1946 ص 916، ولعل الدكتور الأهواني رأى أن هذه الحقيقة في إسلامية الكندي وعربيته لا تحتاج إلى مزيد من التحقيق أو التقرير.

والكندي لم يُتهم بالانتساب إلى يونان كما يقول الدكتور الأهواني في صفحة 23. والظاهر أن المسألة اختلطت على الدكتور وهو ينقلها عن (المسعودي) في كتابه (مروج الذهب) فلم يقل الكندي إنه يوناني، ولكنه كان يذهب مذهب القائلين في الأنساب أن يونان أخ لقحطان. وشتان بين هذا وذاك.

أما الشاعر الذي هجا الكندي لهذا الخلط في الأنساب فهو أبو العباس الناشيء من طبقة ابن الرومي في الإجادة وما كان يستحق من الناشر هذا التنكير بقوله عنه (أحد الشعراء). . . وصحت البيت الأخير من أبيات (الناشيء) كما يلي:

وتخلط يونانا بقحطان ضلة ... لعمري لقد باعدت بيهما جداً

ويظهر أن الكندي مبتلي باضطراب الناس في حياته وفي آثاره وفي قيمته الفلسفية؛ فالدكتور مدكور يقول عنه إنه كان ممهداً للفلسفة الإسلامية ولم يكن فيلسوفاً. والدكتور أبو ريدة يقول عنه إنه كان فيلسوفاً بالمعنى الواسع الذي يتمثل في فلاسفة اليونان. والمرحوم الشيخ مصفى عبد الرازق يقول إن ما بأيدينا من آثاره لا يمكن من استخلاص مذهبه الفلسفي نسقا كاملا. وأغرب ما في هذا الاضطراب أن شهرة الكندي كانت موضعاً للخلاف عند الناس. حتى أن الدكتور الأهواني يقرر في ص 36 أنه كان عديم الشهرة، وأن رداءة أسلوبه كانت علة في عدم شهرته. وأين هذا من قول الناشر نفسه في صفحة 38 بأن الكندي اشتهر بالفلسفة، وكأنه بهذا يناقض نفسه. . . وأين هذا من قول القفطي عنه: (إنه المشتهر في الملة الإسلامية بالتبحر في فنون الحكمة الخ).

بقيت كلمة واحدة في مقدمة الدكتور الأهواني لرسالة الكندي في الفلسفة الأولى، فقد بلغت من وضوح المقاصد وسلامة المنهج وسهولة التعبير مبلغاً نهنيء الأستاذ عليه، وخاصة إذا قيست بالرسالة نفسها وما فيها من غموض في بعض المواطن. وكأن الدكتور الأهواني يعني أن يقول بهذا الوضوح المقصود أن الغموض التعبيري ليس دائماً من أدوات الفلسفة ولا من لوازمها.

محمد عبد الغني حسن