مجلة الرسالة/العدد 775/في مذاهب الأدب

مجلة الرسالة/العدد 775/في مذاهب الأدب

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 05 - 1948


للأستاذ عباس محمود العقاد

قد يغني التمثيل حيث لا يغني الدليل، ولاسيما في تلك المسائل التي تتفق فيها الآراء ولا يقع الخلاف عليها في الحقيقة إلا لاختلاف الأسماء.

ومن هذا القبيل مسألة الحكم على المذهب الرمزي بيني وبين الكاتب الألمعي الأستاذ فريد بك أبو حديد.

فقد سألني مندوب (الزمان) عن هذا المذهب فقلت له: إن كلمة الأدب الرمزي كلمة سخيفة؛ لأن الأدب قبل كل شيء إفصاح، فمن عجز عن الإفصاح فأولى أن يترك الأدب. ومن كان لا يتكلم إلا بالرموز فخير له أن يخترع له لغة أخرى غير هذه التي تواضع الناس على التفاهم بها. وليخترع إن استطاع نوعاً من الهيرغليفية القديمة تغني فيها الصور والإشارات عن الحروف والكلمات).

ووجه المندوب هذا السؤال إلى زميلنا الأستاذ أبي حديد بك فقال: (لا أوافق الأستاذ العقاد فيما ذهب إليه بخصوص الأدب الرمزي؛ فإن كان هذا الأخير من نوع بيجماليون لبرناردشو، وأهل الكهف لتوفيق الحكيم، وتاييس لأناتول فرانس، فانه يعد من أسمى أنواع الأدب. ولعل اختلاف الرأي بين العقاد وبيني يرجع إلى أن الصورة التي في ذهني عن الأدب الرمزي قد تغاير تلك الصورة التي في ذهن العقاد عنه).

وهكذا أفاد تمثيل الأستاذ فريد للأدب الرمزي المقبول عنده في التقريب - بل في التوحيد - بين القولين.

فكل هذه الروايات التي تعجب الأستاذ تعجبني، وترتقي عندي إلى المرتبة الأولى من فن المسرح والرواية.

ولكني لا أحسبها من أدب (المذهب الرمزي) الذي تكثر الدعوة إليه بين الفرنسيين خاصة في هذه السنوات الأخيرة، لأنها لا تعمي ولا تتعمد التلبيس، ولكنها من أصرح ما يقرأه القارئون

وإذا توسعنا في التعبير فهي عندي من الرمز السائغ وليست من الرمز الممنوع.

لأنني - حين أجبت عن ذلك السؤال - عنيت الرمز الذي يلجأ إليه الكاتب عمداً و مندوحة من الإفصاح، أو عنيت الرمز الذي يهرب من النور وليست له معذرة في الهرب منه.

أما الرمز على إطلاقه فليس هو بممنوع ولا مستهجن، وقد بينت أنواعه في مقال بمجلة الكتاب نشر في أول السنة الماضية فقلت فيه بعنوان (مسوغات الرمزية)!

(إن التعبير بالرموز عادة قديمة في تعبير الإنسان، بل عادة قديمة في بديهة الإنسان. فالحالم مثلا يعبر في منامه عن شعور الضيق أو الخوف بقصة رمزية. . والكاتب الذي لم يعرف الحروف الأبجدية يرمز إلى المعاني بالشخوص والرسوم. وكهان الديانات يرمزون ويعمدون كثيراً إلى الكنايات والألغاز. . . والنساك المتصوفون يرمزون لأنهم لا يستوضحون المعاني الغامضة التي تجيش بها نفوسهم في حالة كحالة الغيبوبة. . . وكان بعض الدول يقهر الرعية على عقيدة لا يدينون بها وقد يدينون بغيرها، فيشيرون إلى عقائدهم برموز يفهمونها. . . وقد يكون الرمز اختصاراً لعبارة مفهومة أو صورة ظاهرة. . . فالرمز شيء مألوف في تعبير الإنسان وفي طبيعة الإنسان، ولكنه مألوف على حالة واحدة لا تخلو منها معرض الرمز والكناية، وهي حالة الاضطرار والعجز عن الإفصاح. . . فإذا لوحظت هذه الحالة فالمز أسلوب متفق عليه لا يحتاج إلى مدرسة تنبه الأذهان إليه. فالخيالي لا يستشير مدرسة من المدارس لتشير عليه أن يحلم بالصور والتشبيهات. . . والشاعر لا يعاب إذا مثل لنا الكواكب والأزهار فألبسها ثياب الأحياء. ومن ضاق به اللفظ فعمد إلى التعليل والتشبيه فالناس لا يحسبونه من هذه المدرسة أو تلك؛ لأن المدرسة التي يصدر عنها في هذه الحالة هي مدرسة البديهة الإنسانية حيث كان الإنسان.

هذه الرموز الطبيعية هي الرموز التي نعجب بها كما يعجب بها الأستاذ فريد.

أما الرموز التي وصفناها بالسخف فهي تلك الرموز الملفقة في غير حاجة ولغير علة، إلا ذلك الهراء الذي يتحدثون فيه عن (اللاوعي). . . و (اللاشعور)، ويقولون إنهم يعبرون به عما لا يعيه العقل ولا يحيط به الحس الظاهر، وهي جهالة منهم يسوقهم إليها أن الكلام عن (اللاوعي) وعن (اللاشعور) شيء جديد، وكأنهم يحسبون أن الإنسان قد خلق مجرداً من هذا (الوعي الباطن) أو هذا الشعور الذي لا يعي نفسه قبل أن يتكلم عنه النفسانيون المعاصرون.

والواقع أن (اللاوعي) قديم في الإنسان، وأنه قد صدر عنه في تخيله وتفكيره قبل أن نطلق عليه هذه الأسماء، وإذا كان المعاصرون قد كشفوه أو أطلقوا عليه الأسماء فذلك أدعى إلى كشفه وتوضيحه، لا إلى طغيانه على العقل والحس وإلغاء هذا وذاك كأنهما معطلان في تعبير الإنسان وتفكيره، عاجزان عن الإبانة والأداء.

فالتعمية المقصودة لغير علة هي الرمزية السخيفة التي ننكرها ولا نسيغها، وهي وليدة التشدق بالمبتدعات الحديثة في مذاهب علم النفس عن غير فهم ولا تمييز بين ما هو حديث في الكشوف العلمية وما هو حديث في طبيعة الإنسان.

إن الكلام الحديث عن طبيعة العقل كالكلام الحديث عن طبيعة النظر أو حقائق النور والإضاءة، ونحن لا نغير نظرنا إلى الأشياء لأننا عرفنا عن دقائق العين ما لم نكن نعرف، وكذلك لا نغير شعورنا بالدنيا لأن علماء النفس أطلقوا على الملكات النفسية فينا أسماء لم يعرفها الأقدمون.

ولكن هذه الطائفة التي تسمى نفسها بالمدرسة الرمزية تظن أننا قد خلقنا خلقاً جديداً بعد ظهور تلك المصطلحات على الألسنة فتلغي ما كان من تفكير وتعبير لغير سبب، وتتعمد أساليب التعمية لأنها سمعت أن الوعي الباطن غير الوعي الظاهر، وهما في الحقيقة قد كانا كذلك منذ أول الزمان.

فليكن في الأدب (رامزون)، لأن الرمز أقرب إلى التوضيح والتأثير.

أما الرامز الذي تظهر له الحقائق فيضع يديه على عينيه لكي لا يراها، فهو لا يرينا شيئاً قط يستحق أن نراه.

وقد سألني مندوب الزمان أيضاً عن كلية الآداب، فقلت له إن هذه الكلية لم تخرج أديباً واحداً منذ نشأت، وأن الشبان الذين نبغوا منها في الأدب قد نبغوا بجهودهم وملكاتهم علىالرغم من سوء التعلمي هناك، وقيامها في الغالب على قواد الانتفاع وحب الظهور.

وسئل الأستاذ أبو حديد فقال: (أوافقه بتحفظ. وهذا التحفظ يرجع إلى أن الجامعة المصرية وليدة ربع قرن فلا ننتظر منها بعد ما ننتظره في ربع قرن آخر، وأملي أن تكون النتيجة طيبة).

ولست أريد أن أخالف الأستاذ في هذا التحفظ إلا بما يرضيه ويرضي الحقيقة.

فالأستاذ أبو حديد من خريجي مدرسة المعلمين العليا، وهذه المدرسة قد أنشئت لتخريج المعلمين ولم تنشأ خاصة لتخريج الأدباء.

ولكنها - مع هذا - لم تنقض عليها سنوات حتى أخرجت للعربية أدباء من طراز محمد السباعي وعبد الرحمن شكري وإبراهيم المازني ومحمد جلال وكامل سليم وأحمد زكي والعبادي وعوض محمد وفريد أبي حديد ومحمد بدران.

فالمسألة إذن مسألة البيئة والاستعداد لا مسألة الزمن الطويل أو القصير.

ولا فضل لمدرسة ننتظرها خمسين سنة لتخرج لنا أديباً أو جملة أدباء؛ فإن تعليم المدرسة برنامج محدود السنوات، وليست هي أمة تتولد فيها الأجيال وتحسب أطوارها بالعشرات من السنين.

وإذا تم برنامج بعد برنامج ولم نشعر لتمامه بأثر في النهضة الأدبية فذلك هو الإفلاس بعينه، أو ذلك هو الدليل على أن الأديب الذي يخرجه لنا نصف قرن من الزمان هو وليد الأمة في تطورها وليس وليد المدرسة التي كان ينبغي أن تعطيه ثمرتها في بضع سنوات.

حقق الله أمل الأستاذ في النتيجة الطيبة، ولكن قبل خمس وعشرين سنة إن شاء الله. . .!

عباس محمود العقاد