مجلة الرسالة/العدد 778/أيها المليك العظيم!
مجلة الرسالة/العدد 778/أيها المليك العظيم!
للأستاذ شكري فيصل
(جرت التقاليد على ألا يدلي جلالة ملك مصر بأحاديث، ولكن
جلالته تفضل فأذن بالإعراب عن وجهة نظره في مشكلة
فلسطين فقال في الجواب عن خير الوسائل لوقف النزاع
المحتدم بين العرب واليهود: إنه لابد من استخدام القوة. . .)
الصحف اليومية 12 5 1948
أيها المليك الشاب! في كل هذه الفترة التي كانت تتأزم فيها قضية فلسطين كنا، نحن الشباب، ننظر حوالينا هنا وهناك، نرقب اليد التي تخلع القفاز، والإرادة التي تطيح بالحذر، والقوة التي تستطيع أن تدل على نفسها في ساعات الحاجة إليها، فلم نلمح اليد، ولم نجد الإرادة، ولم نحس القوة. . . وإنما حملونا على أن نعيش في خور الأمل، وفي قلق الترقب، وفي حمَّى الانتظار. . . وتطلعنا فحجبوا عن أعيننا الواقع، وتأملنا فخدروا هذا الألم بالحذر الخادع، وتساءلنا: أين موقع العرب اليوم من موقع العرب الأولين؟
وطفرت من أعيننا دموع، وارتسمت على شفاهنا تمتمات فيها غضب وغيظ وبأس، أو ما يشبه اليأس، وطافت بأذهاننا ذكريات من التاريخ فيها إنكار للذات، وفناء في الواجب، لم نجد لها في واقعنا الأليم أشباهاً ولا أشباحاً. . . فطوينا التاريخ القديم كأنما كنا ندفنه، وفقزت من أمامنا صور من التاريخ القريب: صورة من فيصل، وصورة من غازي!
أما الأولى، فهي صورة النبل السري، والإيمان القوي، والإحساس الرفيع. . . صورة فيصل يطرح العداوات ويولي ظهره لها، ويهزأ بالثارات ويضحك منها، وتظهر له مصلحة العرب الكبرى فينسى عرش أبيه الذي كان يريده ملكا واسعاً في بلاد عربية واسعة، فإذا هو منفي صغير في جزيرة ضيقة صغيرة، ويسافر إلى ابن السعود يصافحه ويقبله. . . لا تخفق في صدره ذكرى أبيه القريب، ولكنها تحرك في ضميره صوت جده الأعلى محمد، ولا يرتسم في صفحته عالمه الصغير، وإنما ينفسح من أمامه المدى ليرس صورالامبراطورية العربية الكبيرة التي يفنى فيها فيصل وابن السعود، ليعيش فيها العرب سادة أحراراً وكراماً أبراراً وأما الصورة الثانية، فهي من غازي هذا الشبل. . . صورة فيها الجرأ الذكية الرائعة، والضربة المسددة البارعة، والعزم الأبي المتدفق، والمجد الثائر الذي يريد أن يتحقق. . . صورة فيها كل مكارم الفتوة، وعزائم النبوة، وحماسة الإيمان. . . صورة هذا الشاب الذي يغضب للحق، ويثور للعرب، ويتطلع إلى المستقبل الذي يلتقون فيه في ظلال رسالتهم الخالدة لينطلقوا بها من جديد، فيحطم العقبات التي كان الأعداء يزرعونها، ويبدد الأوهام التي كانوا ينثرونها والأحلام التي يعيشون عليها، لا يبالي في ذلك إلا إرادة الوطن العربي الكبير!
صورتان من فيصل وغازي في التاريخ القريب منا نرقبهما فلا نجدهما، ونتطلع إليهما فلا نظفر بهما، ونطوي الليل لا تغمض لنا عين، ونفني النهار إفناء لا يهدأ لنا خاطر ولا ينعم لنا بال، ونعيس في جحيم القلق وسعير الترقب. . . صورتان من عظمة فيصل واندفاع غازي، نبشنا عنهما الأرض، ودرنا نسأل عنهما السماء، وطرقنا للظفر بهما كل باب. . . وكاد يعصف بنا اليأس ويتولانا القنوط أن نقع عليهما أو على إحداهما. . . لولا أن الله أراد بالعرب الخير، فإذا الصورتان، صورة العظمة، وصورة الاندفاع، صورة الحكمة، وصورة القوة، تبرزان من جديد في مثال حي عامل كريم، في مثالك أيها الملك العظيم!
إن آلافاً من الشباب الذين يتقلبون على الجمر، يقرءون حديثك السامي الذي أذنت بإذاعته، وإنهم ليحسون أن قضيتهم التي كانت تلتمس الحكمة والقوة معاً، فلا تجد إلا حكمة عاجزة أو قوة خائفة قد وجدت عندك غايتها، وحققت طلبتها، وبلغت هدفها، ولم يتجاوب الضمير العربي العام مثل هذا التجاوب الحي حين سمع: (لا بد من استخدام القوة!)
إنه يعرف ماذا يعني الملك العظيم حين يقول: (لا بد!). . . إنه يحشر فيها كل عزمات الأبطال منذ دخل العرب بيت المقدس حتى دخلها النبي. . . إنها همسة الأمان لأرواح آلاف الشهداء الذين سقوا فلسطين بدمائهم وغذوها برفاتهم، وأقاموا من أجسامهم سياجاً لها!
لقد كان العرب في حاجة إلى كلمة واحدة هي خير من عشرات الصحف، ولقد قلت يا مولاي هذه الكلمة، وسيترجمها الشعب العربي إلى عمل وعزيمة واندفاع. . . لقد كنا نأمل أن تنفرج عنها في مثل صراحتها الشفاه، فلم يكن لها غير هذه النفس الكبيرة تنهض لها في جلاء ووضوح وبيان.
إن حديثك العظيم، أيها الملك العظيم، هذا الذي ابتعث من أعماقنا الإيمان بعد أن كدنا نفقد الإيمان، وأزاح عن وهجه عتمة الضباب وكدرة الظلمات، فارتد صقيلا مشعاً، وعاد إليه نوره بعد الذي فعلت به الحادثات وألقت علية النوازل من ظلال معتمة سوداء. . . فليبارك الله لك فتوتك، ويحسون لها في أعماقهم الألفة. . . وليحفظ عليك شبابك، ففي هذا الشباب الحكيم الجريء ضاعت الحكمة القلقة والقوة والوجلة!
وسيحفظ لك التاريخ أنك قلت فهزأت بالقيود وضحكت من السدود. وإنا لنرقب أن يحفظ لك التاريخ أنك فعلت فرفعت البنود، وجزت الحدود، حدود تافهة مصطنعة هي عارضتان من الخشب، وشبكة من القطن. . . فعلى بركة اللًه!
(دمشق)
شكري فيصل