مجلة الرسالة/العدد 778/عبد الله بن سبأ
مجلة الرسالة/العدد 778/عبد الله بن سبأ
للدكتور جواد علي
- 5 -
ذكر البلاذري في كتابه (أنساب الأشراف) كل أخبار أبي ذر، غير أنه لم يتطرق إلى خبر التقاء (عبد الله ابن سبأ بأبي ذر في الشام، ولا في أي مكان آخر. وقد جاء البلاذري في كتابه هذا بروايات عن أبي ذر لم ترد في الطبري مما يدل على أنه قد اغترف من منابع لم يغترف منها صاحب التأريخ. وأن أصحاب تلك الروايات لم يعرفوا عن هذا اللقاء شيئاً؛ ولو عرفوه لما تركوه.
وتجد مضمون رواية الطبري عن نطرية (أبي ذر) في المال في (أنساب الأشراف) وتجد أنه كان يقول بها وهو في المدينة قبل ذهابه إلى الشام، وأن معاوية أرسل إليه ثلاثمائة دينار، وأن حبيب بن مسلمة الفهري أرسل إليه مائتي دينار فردها. وتجد أشياء أخرى لم ترد في الطبري؛ كل ذلك حمل معاوية على توجيه أبي ذرك إلى المدينة خوفاً من إفساده أهل الشام عليه.
ويظهر من رواية (يزيد الفقعسي) أيضاً عند الطبري أن (عبد الله بن سبأ) أصاب نجاحاً كبيراً بمصر، وأنه وجد هنالك أتباعاً وأنصاراً، وأنه لقنهم (الرجعة) و (الوصية) و (الطعن على الأمراء) وأنه صار يكاتب الأمصار ويدعو إلى الفتنة. حتى ألب الناس على ولاتهم وحكامهم وقاموا بتلك الحادثة الأليمة التي آلت إلى مذابح وفتن كانت سبباً لتفريق الكلمة وحدوث الحروب.
وأن الخليفة رضي الله عنه حينما أدرك خطورة الموقف أراد الوقوف على أسبابها، ومعرفة العوامل التي أدت إلى حدوثها (فأرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة، وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر، وأرسل عبد الله بن عمر إلى الشام، وفرق رجالاً سواهم، فرجعوا جميعاً قبل عمار فقالوا أيها الناس ما أنكرنا شيئاً ولا أنكره أعلام المسلمين ولا عوامهم. وقالوا جميعاً الأمر أمر المسلمين، إلا أن أمراءهم يقسطون بينهم ويقومون عليهم. واستبطأ الناس عماراً حتى ظنوا أنه قد اغتيل فلم يفاجأهم إلا كتاب من عبد الله بن سعد بن أبي سرح يخبرهم أن عماراً قد استماله قوم بمصر وقد انقطعوا إليه، منهم عبد الله ابن السوداء وخالد بن ملجم وسوجان بن حمران وكنانة بن بشر).
وهذه الرواية الأخرى هي في حاجة إلى نقد ودراسة، فالظاهر من روايات الطربي نفسها أن (عمار بن ياسر) كان في المدينة في هذا الوقت، وأن أهل مصر كانوا يراسلونه ويتصلون به عن طريق المكاتبة، وأنهم عندما وصلوا إلى المدينة كان بها، والمعروف أن علاقة الخليفة بعمار لم تكن على ما يرام، فلا يعقل إرساله لأداء مثل هذه المهمة. والذي ذكره البلاذري أن الفتنة التي ظهرت بمصر كانت ترجع إلى أعمال (محمد بن أبي بكر) و (محمد بن أبي حذيفة) حتى إن الوالي (عبد الله ابن سعد بن أبي سرح) اضطر إلى وضع رقابة صلرمة عليهما لئلا يفسدا الناس، حتى إبهما عند ما طلبا الخروج معه في الغزو أعد لهما سفينة مفردة لئلا يفسدا عليه الناس، فمرض محمد بن أبي بكر فتخلف وتخلف معه ابن أبي حذيفة، ثم إنهما خرجا في جماعة الناس فما رجعا من غزاتهما إلا وقد أوغرا صدور الناس.
فلما بلغ عثمان ذلك دعا بعمار بن ياسر وسأله الشخوص إلى مصر ليأتيه بصحة خبر ابن أبي حذيفة وحق ما بلغه عنه من باطلة، وأمره أن يقوم بعذره ويضمن عنه العتبى لمن قدم عليه. فلما ورد عمار مصر حرض الناس وانضم إلى جماعة ابن أبي حذيفة ثم أرجع بعد ذلك إلى المدينة.
ولم يذكر البلاذري أن صاحب الفتنة هو (عبد الله بن السوداء) ويتفق الطبري مع البلاذري في هذا الخبر في كل شيء سوى وجود هذا الشخص الذي قيل إنه (عبد الله بن سبأ) وقد عزا المسعودي هذه الحركة إلى محمد بن أبي بكر. ولا أريد هنا أن أجرد اليهود من المؤامرات التي دبرت للكيد بالإسلام، وحوادثهم في ذلك كثيرة مشهورة يكفي أنهم هم الذين دسوا السم للرسول وأنهم كانوا يتولون نشر دعاية خبيثة بين المسلمين اضطرت (الخليفة عمر بن الخطاب) إلى اتخاذ موفق حاسم مشرف تجاههم أنقذ به العرب والإسلام. ولكني لا أريد في الوقت نفسه أن أسلم بدعوى من يصدق الروايات ولأخبار فأسلم بأن المسلمين كانوا يصدقون كل ما كان يقال لهم بلا تفكير، وأن يهوديا نكرة لم يعرف مركزه في اليهود ولا منزلته في الإسلام يستطيه أن يلعب هذا الدور الذي قصه علينا (سيف بن عمر) عن جماعة عن (يزيد الفقعسي) وأنه يستطيع أن يضحك من عقول المسلمين، وأنه يضع لهم مقالة ومقالات ثم يجادل الإمام على حيا، ثم يدعي بعد وفاة الإمام أنه لم يمت وأنه حي يرزق في السحاب.
ورجل هذا شأنه في الدسائس والفتن والمؤامرات أن من الواجب الإشارة إليه بشيء من التفصيل، والتنبيه عليه، وكان في وسع (معاوية) القبض عليه والتنكيل به بين الناس. ولم نجد في شعر الرثاء الذي قيل في قتل الخليفة (عثمان) واستشهاده ما يشير إلى هذا اليهودي الفاتن، وقد ورد من هذا الشعر في الطبري وفي البلاذري وغيرهما ما فيه الكفاية.
ويظهر من تأريخ الطبري أن المشاغبين الذين حاصروا المدينة وكانت غالبيتهم من المصريين كانوا يعرفون (بالبائية) كذلك، وانهم كانوا من المحبين للفتن وأنهم لما سمعوا خطبة (على بن أبي طالب) بعد مبايعته قالوا:
خذها إليك واحذرن أبا حسن ... إنا نمر الأمر إمرار الرسن
صولة أقوام كأسداد السفن ... بمشرفات كغدران اللبن
ونطعن الملك بلينٍ كالشطن ... حتى يمرنَّ على غير غنن
والظاهر أنهم شاغبوا على (علي بن أبي طالب) وأنهم تركوا العسكر ولم يمتثلوا الأوامر وأنهم كانوا يحبون الفوضى والخروج على النظام.
وإن الأمر بعد مقتل الخليفة أصبح فوضى، فثار العبدان على الرؤساء وخرج الأعراب لما تراءت لهم علامات الغزو وإمكان الانتقام من أهل المدن. وتجد هذه الفوضى واضحة مرسومة في خطبة (علي بن أبي طالب يخاطب بها طلحة والزبير) يا إخوتاه! إني لست أجهل ما تعلمون، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم؟ هاهم قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا فهل ترون موضعاً لقدرة على شيء مما تريدون؟ قالوا لا، قال فلا والله لا أرى إلا رأياً ترونه إن شاء لله، إن هذا الأمر أمر جاهلية، وإن لهؤلاء القوم مادة؛ وذلك أن الشيطان لم يشرع شريعة قط فيبرح الأرض من أخذ بها أبداً. إن الناس من هذا الأمر إن حرك، على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا حتى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ الحقوق. فاهدؤوا عني وانظروا ماذا يأتيكم ثم عودوا.
واشتد على علي قريش، وحال بينهم وبين الخروج على حالها. فلما ذكر له ذلك ذكر فضلهم وأنه ليس له من سلطانهم إلا ذلك. ونادى: برئت الذمة من عبد لم يرجع إلى مواليه عندئذ تذامرت السبائية والأعراب وصاروا يشاغبون على عليّ. ولما أراد عليّ إخراج الأعراب وإرجاعهم إلى مياههم أبت السبائية ذلك وأطاعهم الأعراب.
فالظاهر من هذه الروايات أن حالة من الفوضى قد عمت الأمصار بعد مقتل الخليفة (عمر بن الخطاب) الذي كان قد سيطر على الأمور سيطرة تامة. وأن الذين كان في قلوبهم مرض وزيغ انتهزوا فرصة مقتل الخليفة وارتباك الأمر واستبداد الولاة بالرأي دون سائر الرؤساء، فأثاروها فتنة وفوضى أدت إلى حدوث ذلك الوضع الشاذ، فأفلتت الأمور من أصحابها وخرج العبيد والمستضعفون على قريش، وانتهز الأعراب هذه الفرصة وقد كانت أخلاقهم وطباعهم مكبوتة في أيام (عمر) واتفقوا مع المهبجين الذين دعاهم الطبري بالسبائية والذين شاركوا حتى في المشاغبة على (علي) عندما رأوا منه أنه كان يريد استتباب الأمن والقضاء على الفتن وإعادة سلطة قريش كما رأيت.
ولا ندري لم دعاهم الطبري (سبائية)؟ ألأنهم أتباع (عبد الله ابن سبأ؟) ولكن أين كان هذا الرجل في هذا الوقت؟ ولم لم يشترك مع المصريين أو غيرهم عندما ذهبوا إلى المدينة وقد نسبت أكثر المصادر سبب الفتنة إلى أشخاص آخرين؟ أم لأن جمهرتهم كانت من أهل اليمن، وقد كانت العادة أن يقال لهم (سبإبين) أو (حميرين) كما كانت في مصر جالية كبيرة منهم قبل الإسلام وبعده فقيل لهم لذلك (سبائية) ولا علاقة لهذه السبائية بسبائية عبد الله بي سبأ؛ وأن هذه (السبائية هي التي دعت الإخباريين لسبب ستراه إلى خلق أسطورة (عبد الله ابن سبأ) هذا الذي جعلنا الرواة نكتب عنه هذه المقالات. فاختلقوا شخصاّ يهودياّ مسلماً أبوه من سبأ وأمه سوداء من الأحباش أو غير ذلك كما رأيت.
ولا شك عندي في أن هذه العناصر، سبائية سميتها أم كانت مسخرة ومحرضة، حرضها أناس كانوا يسعون منذ عهد الرسول إلى خلق الفتن وتفريق العرب إلى شيع وأقسام، وأنها حاولت الكيد لمن كان يعرف فيه الحزم والعزم، وأن مقتل الخليفة (عمر) لم يكن بتلك الصورة البسيطة الساذجة التي رسمها الأخباريون، بل كان خطة منظمة مدبرة يعرف بها جماعة. وأن نفراً كان لهم اتصال وثيق بذلك الرجل الذي صنع تلك الآلة للفتك بالخليفة.
يكفيك أن تقرأ خبر (كعب الأحبار) مع (عمر بن الخطاب) لتعرف منه أن (كعباً) هذا كان يعرف المؤامرة وأن الخليفة أحس بذلك من حديث كعب. جاء كعب إلى عمر قبل مقتله فقال: يا أمير المؤمنين اعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام. قال: وما يدريك؟
قال كعب الاحبار: أجده في كتاب الله عز وجل التوراة؟ فقال عمر: الله! إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة!؟
فقال كعب: اللهم لا، ولكني أجد صفتك وحليتك، وأنه قد فني أجلك.
فقال عمر: وعمر لا يحس وجعاً ولا ألماً!
فلما كان من الغد جاءه كعب فقال: يا أمير المؤمنين ذهب يوم وبقي يومان. ثم جاءه من غد الغد فقال: ذهب يومان وبقي يوم وليلة وهي لك إلى صبيحتها، فلما كان الصبح خرج عمر وكان يوكل بالصفوف رجالا فإذا استوت جاء هو فكبر، ودخل أبو لؤلؤة في الناس في يده خنجر له رأسان نصابه في وسطه فضرب عمر ست ضربات.
لا أدري هل تحسن الظن بعد ذلك (بكعب) وتقول معه إنه كان يجد كل شيء حتى القتل في التوراة، أم أنك ستخرج وأنت به شاك وتقول كما قال عمر. الله! إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة!؟
جواد علي