مجلة الرسالة/العدد 78/الشيخ الخالدي

مجلة الرسالة/العدد 78/الشيخ الخالدي

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 12 - 1934



للدكتور عبد الوهاب عزام

لقيت في الآستانة منذ خمسين عاماً شيخاً جليلاً ينقب عن الكتب، ويتحدث عن نوادرها، وعرفت أنه الشيخ خليل الخالدي رئيس محكمة الاستئناف الشرعية في القدس

ثم شرفت بلقائه في مصر مرات. كان كلما قدم القاهرة تفضل فزارني في الجامعة. تقابلنا مرة فتكلم عن الكتب والمؤلفين كلام خبير بحاثة. فحرصت على لقائه والإفادة منه فراعني علم لا ينفد، وحفظ لا يخطئ

يبدأ حديثه عن الكتب، فيذكر أنه رأى كتاب كذا في مكتبة كذا، ويصف النسخة وما عليها من سماع العلماء، ثم يتكلم عن قيمة الكتاب ومكانته بين أشباهه، ويذكر المؤلف فيبين عن تاريخه ومكانته من العلم، ودرجته بين العلماء، وهلم جراً، يفضي من حديث إلى حديث، والسامع فرح بما يسمع، معجب متعجب. وقد زار مكاتب الآستانة والأناضول وفينا والشام ومصر وبلاد المغرب والأندلس، ونقب فيها عن نفائس الكتب، فأحاط بما لم يحط به سواه. والشيخ حفظه الله منقطع النظير في هذا الموضوع ما رأيت ولا سمعت بمثله

وهو من أسرة الخالدي إحدى أسر الشام العظيمة، تنسب إلى سيدنا خالد بن الوليد. وهي معروفة في التاريخ بأسرة الديري، وفيها العلماء والقضاة في الشام ومصر منذ خمسمائة وخمسين سنة

والشيخ نزيل القاهرة الآن. وقد أسعدني الجد بلقائه مرات في شعبان ورمضان هذا. وأرجو أن أسعد أنا وأصدقائي بحديثه مرات أخرى قبل رجوعه إلى فلسطين

وقد حرصت أن أكتب عن الشيخ بعض أحاديثه دون أن أشعره بذلك، فلما اجتمعنا في حلوان ليلة السبت ثامن رمضان، سأله بعض الحاضرين سؤالاً فشرع في حديثه، فدونت بعض ما قاله إجمالاً، ثم عدت إليه بعد انفضاض المجلس ففصلته على قدر ما وعيته. وإني أقدم للقارئ هنا ما حفظته عن الشيخ العلامة في ذلك المجلس:

سأل أحد الحاضرين عن المدارس ذات المكانة في التاريخ الإسلامي فقال: المدارس النظامية كانت في بغداد والموصل، وأصفهان ونيسابور، ومرو وهراة، وكان في نيسابور مئات المدارس: منها المدرسة البيهقية. ومدرسة ضياء الدين في سمرقند، وكان يقيم به صاحب الهداية وشمس الدين الكردلي صاحب مناقب أبي حنيفة، ومدرسة الأمير مسعود في بخارى، ومدرسة قطلغ تيمور في خوارزم، وهذه البلاد التي ذكرت كانت من مراكز العلم، ومثلها بخارى وبلخ وفرغانه وجرجان، وكان ببخارى من معاهد العلم مسجد كوكلتاش ومسجد كلام، ومن رجال مرو: القفال الكبير والقفال الصغير، ومشايخ إمام الحرمين والبغوي، والسمعاني، وابن حنبل. وكان بدمشق مدارس كثيرة، منها العمرية التي أنشأها أبو عمر بن قدامة. وهو أخو الموفق أخو قدامة صاحب كتاب المغني في مذهب الحنابلة، وهو اثنا عشر مجلداً. ومنها المدرسة الضيائية، وكان بها خطوط المحدثين كلهم. وهي منسوبة إلى ضياء الدين المقدسي ابن أخت أبي عمر بن قدامة. وقد تخرج فيها ابن تيمية والذهبي، ومن مدارس دمشق دار الحديث الأشرفية، وهي دار المتحف العربي الآن. وقد درّس بها النووي وابن الصلاح وأبو شامة، والمدرسة العادلية، وقد درس بها ابن مالك وابن خلكان، والمدرسة الرواحية التي تخرج فيها النووي، وصارت الآن من دور آل الغزى، والمدرسة التي درس بها ابن القيم، وهي بقرب بيت العظم. وكانت بيوت العلم في الشام بني قدامة، وبني تيمية، وبني عساكر، وبني عبد الهادي، وهؤلاء من مشايخ الذهبي

ثم انتقل الحديث إلى الفخر الرازي، فقال في أثناء كلامه: إن الرازي من بني أبي بكر الصديق، فتعجب الحاضرون، فقال: ومن ذرية الصديق أيضاً جلال الدين الداوني، وعضد الدين صاحب العقائد، وأبو اسحق الشيرازي، والفيروز آبادي، قلت وجلال الدين الرومي. قال: نعم، وجلال الدين، وأين جلال الدين من هؤلاء، قلت: لكل وجهة، ثم سئل الشيخ عن بني عمر بن الخطاب في العلماء فقال: منهم السهرورديون من المتصوفة، ومنهم الفنري. وكان في بخارى جماعة منهم. وكان تيمور لنك يجلهم كل الإجلال، قال: وصدر الشريعة من بني عبادة ابن الصامت، وليس كل من نشأ في بلاد الفرس فارسياً، فأبو داود السجستاني، والترمذي صاحب الشمائل، والترمذي صاحب المسند، وابن عبد البر، كل هؤلاء من العرب، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري من بني ضبة، ومسلم بن الحجاج صاحب الصحيح، وأبو القاسم صاحب الرسالة القشيرية من بني قشير، والمازري، وابن يونس الصقلي، وعبد الحق الصقلي الذي غلب إمام الحرمين في المناظرة، من بني تميم، والقاضي عياض من يحصب ثم ساقه الحديث إلى القطب الشيرازي العلامة المطلق، وفخر الإسلام البزدوي وصدر الشريعة فأفاض في الحديث. وقال: لفخر الإسلام البزدوي كتاب في الأصول منقطع النظير، حدث شمس الدين الأصفهاني شارح الطوالع أنه دخل على أستاذه القطب الشيرازي فرأى عنده كراسات على وسادة، فقال ما هذه؟ قال: إني منذ سنة كذا أقرأ كتاب البزدوي، وأنقل عنه وما أنهيته. ولصدر الشريعة كتاب تعديل العلوم في المنطق والحكمة والكلام والتصوف والأخلاق. رأيت منه نسخاً كثيرة. وله كتاب التنقيح وشرحه التوضيح

سأل سائل لماذا قل أمثال هؤلاء العلماء بين المسلمين اليوم؟ قال لذلك أسباب: منها أن أسلافنا كانوا يطلبون العلم للعلم لا يبغون من ورائه شهادة ولا منصباً؛ كان كل منهم يتخذ عملاً يعيش منه ثم يحصل العلم عن جهابذته. ولم تكن أساليب التعليم صناعية آلية كنظام المدارس في الوقت الحاضر؛ ومن الأسباب انقطاع الرحلة، كان سلفنا يشدون الرحال في طلب العلم لا يفترون، فيلقى بعضهم بعضاً، ويأخذ بعضهم عن بعض. الخ. أنظر إلى قضاة السلف كيف يفرون من القضاء إشفاقاً على دينهم؟. هذا أبو علي الصدفي أحد قضاة الأندلس ذبح الذبائح وحج شكراً لله على خلاصه من القضاء. ومن القضاة الأباة عظماء النفس، أهل التقوى أبو بكر بن السليم القاضي الأندلسي، وله رأي في الفقه معروف: (أن الإنسان إذا اشترى بيتاً فوجد به بقاً فله خيار العيب) ومنهم ابن زر القاضي، وكان في عهد المنصور بن أبي عامر. وحسبك بقاض يتعاظم على مثل المنصور. وله كتاب الخصال الكبير والخصال الصغير في مذهب مالك، رأيتهما في مجريط. وقد قيل أن من قرأ الخصال استغنى به عن الكتب الأخرى، وكان الأندلسيون ذوي همة عظيمة في تحصيل العلم؛ وكان طلابهم يبدءون بحفظ التسهيل لابن مالك، ومختصري ابن الحاجب في الفقه والأصول، هذا عند المتأخرين. وأما من قبلهم فكانوا يحفظون الموطأ، ومن قبل هؤلاء كانوا يحفظون تهذيب المدونة، وسلفهم كانوا يحفظون المدونة، وكان ابن بشكوال يحفظها كلها، وكان الرازي يحفظ كتاب الشامل لإمام الحرمين، وهو مجلدان في علم الكلام. وأرى أن تفوق الأندلسيين كان من عنايتهم بأمهات الكتب. كانوا يقرءون في النحو كتاب سيبويه، وأين من كتاب سيبويه كتاب الأشموني وحاشية الصبان؟ وقد رأيت في مكتبة الأسكوريات خط أبي علي الشلوبين على كتاب سيبويه بعدد الكتب التي قرأها في النحو وكلها من الأمهات. ورأيت في مكتبة كوبريلي بالآستانة إجازة قاضيخان كتبها بخطه على السير الكبير للسرخسي وعدد الكتب التي درسها في الفقه. وهي كتب تضمن لقارئها التفقه. أنظر! أهل الأزهر يقرءون في الأصول جمع الجوامع، وليس هو من كتب الأصول القيمة. - قال بعض الحاضرين: قرءوا كتاب الآمدي في عهد الشيخ المراغي ثم أبطلوه، فقال كتاب الآمدي جيد، وللآمدي كتابان: أحكام الأحكام، وأبكار الأفكار. وكتاب ابن الحاجب في الأصول مأخوذ من منتهى السول والأمل للأرموي، وهذا مأخوذ من كتاب الآمدي، والآمدي أخذ من الأدلة القواطع للسمعاني، وهذا مأخوذ من كتاب الباقلاني، فهذا الأصل الذي لم يؤخذ من غيره، ثم تكلم عن أصول الحنفية وعلمائهم وكتبهم وطريقتهم، ورجع إلى الباقلاني فقال: وكان الباقلاني آية من آيات الله. وقد روى أبو الوليد الباجي أنه كان يسير مع الدارقطني - والدارقطني من كبار المحدثين، في درجة الترمذي وابن ماجة - فلقيا رجلاً، فأعظمه الدارقطني غاية الإعظام وقبله، فقال أبو الوليد: من هذا؟ قال: سيف أهل السنة أبو بكر بن الطيب، يعني الباقلاني، وقد رثاه بعض الناس فقال:

أنظر إلى جبل تمشي الرجال به ... وأنظر إلى القبر ما يحوي من الصلف

وأنظر إلى صارم الإسلام منغمداً ... وانظر إلى درة الإسلام في الصدف

وكان الباقلاني يناظر ابن المعلم فيفحمه. وكان ابن المعلم يوماً في أصحابه فأقبل الباقلاني، فقال ابن المعلم: جاءكم الشيطان، فسمعها الباقلاني فتلا قوله تعالى: ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزّاً. وتناظرا مرة، فلما أُفحم ابن المعلم أخرج قبضة من الباقلي ورماها في وجه الباقلاني، يعني بذلك أنه ابن بائع باقلى. فأخرج الباقلاني درة من ثيابه ورمى بها ابن المعلم يعني أنه ابن معلم صبيان، فتعجب وقال: ما أخبرت أحداً أني سأرميه بالباقلي، فكيف أعد لي هذه الدرة؟ - وعقائد الدواني مأخوذة من عيون المسائل، وهذه مأخوذة من رؤوس المسائل، وكلاهما للجرجاني، ورءوس المسائل مأخوذة من جواهر الكلام لعضد الدين صاحب المواقف، والجواهر من المواقف، والمواقف مأخوذة من أبكار الأفكار للآمدي، وهذه عن الباقلاني، وهذه كما نرى في فقه المالكية: كتاب أقرب المسالك للشيخ الدردير مأخوذ من كتاب خليل، وهذا عن كتاب ابن الحاجب إن تهذيب البرادعي عن المدونة. وقد رأيت نسخة من المدونة في مكتبة القرويين في فاس بخط عبد الملك بن مسرة شيخ ابن رشد، وهي في ثمانين مجلداً صغيراً، وكتب في نهايتها:

بالله يا قارئ استغفر لمن كتبا ... فقد كفتك يداه النسخ والتعبا

كتبه عبد الملك بن مسرة اليحصبي

وقد ذكر ابن مسرة بن فرحون في كتاب الديباج وهو من أنفس الكتب. وابن رشد الجد له كتاب البيان والتحصيل في الفقه ستة عشر مجلداً. وقد ضمن لقارئه الاجتهاد. وابن رشد الحفيد الفيلسوف كان في المغرب بمنزلة الرازي في المشرق

ثم تكلم عن محنة ابن رشد في دولة الموحدين وقال: والسلطان يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن كان من العلماء، كان يحفظ كتاب المحلى لابن حزم - سأل بعض الحاضرين عن رسالة صلاح الدين إلى يعقوب بن يوسف فقال هي في كتاب أبي شامة. وكان أبو شامة حافظاً وقارئاً ونحوياً وعالماً في الأصول والفروع. ويشبهه في هذا أبو عمرو الداني. قال بعض الحاضرين هل كانا متعاصرين؟ قال لا، أبو شامة توفي سنة 622 والداني توفي سنة 444. الخ الخ. ولعلنا نعود فندون عنه مجلساً آخر

عبد الوهاب عزام