مجلة الرسالة/العدد 78/هنا وهناك

مجلة الرسالة/العدد 78/هنا وهناك

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 12 - 1934



حماية التفكير وتكريم النبوغ

للأستاذ محمد عبد الله عنان

نقرأ تباعاً أنباء الجوائز العلمية أو الأدبية أو الفنية التي تمنحها المؤسسات والهيئات العلمية المختلفة لأقطاب رجال التفكير والآداب والفنون؛ وهناك غير الجوائز المحلية القومية التي تنظم في كل أمة لتشجيع الحركة الفكرية، جوائز عالمية ترمي إلى تشجيع أبدع ما يخرج الذهن البشري في أي البلاد أو الأمم؛ ولعل جوائز (نوبل) هي أشهر جوائز من هذا النوع، فهي تمنح إلى أقطاب العلم والأدب والسياسة في أنحاء العالم دون فارق بين الجنسية أو الدين أو اللغة، ثم هي تمنح للنساء كما تمنح للرجال؛ وهذا هو أبدع ما في هذه الجوائز، فهي تقصد إلى تكريم النبوغ البشري حيث يوجد، وهي ترتفع فوق جميع الاعتبارات القومية، ولا تنظر إلا إلى أفق الإنسانية الشاسع، ولقد خلد ألفرد نوبل السويدي، صاحب هذه الوصية العلمية والإنسانية الجليلة، اسمه بتأسيسها وتنظيمها بما لم يخلده فاتح؛ والواقع أن لم يكن ينقص هذا المخترع العبقري شيء من بعد الصيت والذكرى، فقد كان عالماً ومخترعاً عظيماً، له ثبت حافل من الاختراعات العظيمة؛ وقد كان لتجاربه واكتشافاته في أواخر القرن الماضي أثر عظيم في تقدم الفنون العسكرية ولا سيما فيما يتعلق (بالديناميت) الذي وصل إلى اكتشافه وتركيبه. ومن الغريب أن يتجه هذا الذهن الذي أنفق نبوغه في اختراع المفرقعات المهلكة، إلى تشجيع النبوغ البشري في مختلف نواحي التفكير والأدب، وأغرب منه أن يتجه إلى تشجيع السلام العالمي، فيخصص ضمن جوائزه الشهير جائزة لأي جماعة أو شخصية تمتاز بخدماتها الجليلة لقضية السلام

وليست جوائز نوبل سوى مثل من أمثلة لا تحصى لهذا النظام المحمود - نظام الجوائز العلمية - الذي ترتبه جميع الأمم المتمدنة لتشجيع الحركة الفكرية، وتكريم أبنائها الممتازين بسمو التفكير والابتكار، ومعاونة الأذهان والعبقريات المغمورة على الظهور والعمل لاستثمار كفاياتها ومواهبها في مختلف النواحي. ولنلاحظ أن هذه الجوائز الشهيرة إنما هي من وضع فرد فقط، وإن كثيراً من الأغنياء في بلاد الغرب يحذون مثل ألفرد نوبل فيهبون الألوف والملايين إلى الجامعات والجماعات العلمية والأدبية؛ ويرتبون الجوائز لتشجيع الباحثين والمفكرين، وإظهار جهودهم، وثمرات نبوغهم؛ وفي كل يوم نقرأ نبأ هذه الهبات والجوائز السنية، ونهتز إعجاباً وإكباراً لهذه النفوس والهمم الرفيعة التي تجد مثلها الأعلى في العمل على تشجيع المثل العليا، ولا تنظر إلى المال إلا كوسيلة لإذكاء النبوغ واستثماره لخير العلم والإنسانية. وفي هذه الأمم التي يتقدم أغنياؤها للاضطلاع بهذه الأعمال الجليلة نجد الحكومات والهيئات العلمية الرسمية تعنى أشد العناية ببذل هذا التشجيع المنظم للدرس والبحث والنبوغ؛ ففي الجامعات ترتب جوائز دائمة لنوابغ الطلاب، فضلاً عن إعفائهم من أجور الدراسة، وترتب جوائز دورية مختلفة لتشجيع البحوث والجهود العلمية الممتازة؛ ولا تكاد توجد هيئة علمية أو أدبية، إلا ولها جوائز دورية ثابتة تمنح لكل عامل لتحقيق الأغراض العلمية أو الأدبية التي رتبت لتشجيعها. وأمامنا مثل الجمعيات الطبية والجغرافية والتاريخية في مختلف العواصم الغربية، فإنها جميعاً تبذل من المعاونات المادية في سبيل البحث والدرس والاستكشاف ما هو معروف ومشهور؛ ويكفي أن نذكر أن معظم الاستكشافات العلمية والطبية والجغرافية، تتم تحت رعاية هذه الهيئات المحترمة. بل يكفي أن نذكر أن معظم العلماء والمستكشفين لا يستطيعون القيام بمشروعاتهم إلا بمؤازرتها المادية، وأنها هي التي أوفدت في العصر الحديث معظم المكتشفين إلى مختلف مجاهل أفريقية وأسيا والقطبين

والخلاصة أن الهيئات الرسمية والخاصة في هذه الأمم العظيمة، تتحد جميعاً في مؤازرة الحركة العلمية، وتشجيع التفكير والنبوغ بجميع الوسائل. على أن أبدع ما في هذه النزعة هو الجهود الخاصة والفردية؛ وليس مثل ألفرد نوبل وحيداً، وإن كان من أعظم الأمثلة وأبدعها؛ فهنالك في فرنسا مثلاً مشروع جائزة (جونكور) الذي وضعه الكاتب الفرنسي أدمون جونكور لتتويج الآثار الأدبية البارزة؛ وقد وهب المشروع مالاً كثيراً، وما زالت (أكاديمية جونكور) منذ أواخر القرن الماضي تمنح جوائزها الأدبية للكتاب والقصصيين النابهين، عاماً بعد عام؛ وما زالت تعتبر شرفاً أدبياً يطبع الفائزين بطابع النبوغ، ولا سيما كتاب الشباب، ويفتح أمامهم أبواب المستقبل الذهبي؛ وهنالك أيضاً أمثلة عديدة لهذه الجهود والمنشآت الفردية، كما أن هنالك صحفاً كثيرة تنشئ مثل هذه الجوائز الأدبية؛ ولهذه الجهود المتحدة بلا ريب أثرها القوي في تقدم الحركة الأدبية وازدهارها في هذه الأمم أما نحن فلم نعرف بعد أهمية هذه المؤازرة العلمية، ولم تأخذ بها إلى اليوم جماعاتنا العلمية الرسمية؛ ولم يسغها بعد أغنياؤنا. فوزارة المعارف لم تفسح في ميزانيتها أي مجال لمثل هذه المؤازرة، لأنها لا تريد على ما يظهر أن تضطلع برعاية الحركة الفكرية العامة، وتريد أن تقتصر دائماً على شئونها الإدارية؛ ولدينا جامعة دينية عظيمة ولها ميزانية ضخمة، ولكنا لم نسمع أنها تقدمت ذات يوم لمؤازرة أي مجهود علمي حتى في دائرةمهمتها الدينية، فلم تساهم قط في تشجيع المباحث الإسلامية التي تنفق في سبيلها الجامعات الأوربية مئات الألوف تحقيقاً لمهمتها العلمية، ولم تساهم قط في إخراج أي أثر ديني أو عربي جامع؛ ولم نسمع أنها رتبت جائزة علمية محترمة؛ ولدينا الجامعة المصرية ما زالت تحتفظ بأفقها المدرسي، وما زالت بعيدة عن أن تخلق ذلك الجو العلمي الذي يمكن أن تنضوي تحت لوائه الجهود العلمية الفردية؛ ولم نعرف أن الجامعة ساهمت في تشجيع مجهود علمي فردي، ولا نعلم أنها على استعداد لذلك؛ كذلك لم تعرف الجامعة المصرية بعد نظام الجوائز العلمية والأدبية المحترمة، وإن كانت تعرف كيف تغدق على الأساتذة الأجانب؛ ولدينا عدة جمعيات علمية تتمتع بالرعاية الرسمية وبأموال الدولة، ولكنها جميعاً أجنبية في روحها وعواطفها، ولا يمكن أن تعتبر بحال ما مصرية، ولا يمكن أن تضطلع بمثل هذه المهام العلمية المحلية، التي يجب أن تتوفر لمؤازرتها عاطفة قومية لا توجد في هذه الجماعات

على أن هناك لدى جهاتنا الرسمية نزعة أخرى إلى تشجيع الجهود (العلمية) لا يمكن تجاهلها، ولكنها مع الأسف وقف على الأجانب؛ ونستطيع أن نحصي عشرات العلماء الأجانب الذين يفوزون بتعضيد الهيئات الرسمية المصرية للقيام بمختلف المهام العلمية أو لإخراج جهودهم، وهم لا يجدون مشقة في الحصول على هذه الهبات والجوائز السنية؛ ولكنك لا تجد مفكراً مصرياً استطاع أن يحظى بهذه الرعاية. ولا ريب أن تشجيع الجهود العلمية مبدأ محمود في ذاته، والعلم لا وطن له؛ ولكنه لا يقتضي الإيثار وحرمان المفكرين المصريين من كل تعضيد ومعاونة، بينما يرتع العلماء الأجانب في أموال الأمة المصرية؛ وما زلنا نذكر الضجة التي قامت منذ أشهر حول المنح المالية الباهظة التي أغدقت على أستاذ إنكليزي هو الكبتن كرزويل، لكي يخرج كتاباً له ولم يخرج منه سوى مجلد واحد، وكان مجموع الهبات التي استولى عليها من مختلف الجهات الرسمية يبلغ بضعة آلاف جنيه؛ وهنالك علماء أجانب يتقاضون الألوف المؤلفة من الأموال المصرية لكي يضعوا كتباً معينة؛ وتطلع علينا هذه الكتب من آن لآخر باللغات الأجنبية، فلا نراها ترتفع إلى مستوى المؤلفات العلمية القيمة، ولا نرى فيها سوى كتب دعاية ينقصها الطابع العلمي المحترم؛ وما زلنا نذكر تلك البدعة التي ظهرت في الأعوام الأخيرة، وهي انتداب بعض الجهات الرسمية لبعض العلماء الأجانب الذي يؤمون مصر في الشتاء زائرين متنزهين، لإلقاء بعض المحاضرات، ومنحهم عن المحاضرة الواحدة مكافآت باهظة تبلغ أحياناً خمسين جنيهاً!

لقد كانت الرعاية العامة وما زالت أكبر عامل في تشجيع الحركات الفكرية وازدهارها. ومع أن قسطاً كبيراً من هذه الرعاية تضطلع به الهيئات الخاصة والأفراد النابهون في الأمم الحية، فإن الحكومات والجامعات وما إليها من الهيئات العلمية الرسمية تقوم بتنظيم هذه الرعاية والسهر على توزيعها حيثما تبزغ بوادر النبوغ. ذلك أن النبوغ يعتبر في الأمم الحية ثروة قومية تجب المحافظة عليها واستثمارها وحمايتها من عوامل الخمول واليأس. ولقد مرت عصور كثيرة في تاريخنا كانت الحركة الفكرية فيها تأخذ حظها من الرعاية والمؤازرة؛ وكان العلماء والمفكرون يتبوءون أرفع مكانة وتغدق عليهم المنح والهبات الوفيرة لكي يتفتح نبوغهم ويستطيعون العمل في دعة وسكينة؛ وكان الخلفاء والسلاطين يأخذون بأعظم قسط في تشجيع الحركات الأدبية، وكان من بواعث الفخر أن يكون القصر أو العاصمة ملاذاً لأكبر عدد من الكتاب والشعراء؛ وكان من زينة العصر والدولة دائماً أن تزدهر الحركات الفكرية في ظل الرعاية الرسمية؛ وهاهو ذا الأزهر لم يعاونه على الحياة حتى عصرنا سوى التفات السلاطين إليه وتعهد علمائه وطلبته بالبذل والعون. ولم يكن الملق، دائماً، كما هو الشأن في أيامنا ثمن هذه الرعاية. ذلك أن رعاية العلم والعلماء في تلك العصور كانت تعتبر من واجبات الدولة القوية المستنيرة، وكان العلماء يعملون في ظل هذه الرعاية مستقلين في الغالب، ولم يكن يطلب إليهم دائماً أن يكونوا أذناباً أو دعاة للأسر أو الحكومات التي تشملهم برعاية يعتبرونها حقاً عاماً لهم يجب تأديته إليهم

ومن العبث أن ندعي أن الحكومات والهيئات الرسمية المصرية المختلفة قد استطاعت أن تؤدي هذا الواجب العام أو بعضه نحو رعاية الحركات الفكرية في عصرنا. والحركة الفكرية لم تفد شيئاً من تلك الدعايات الواسعة التي تذاع حولها، وتلك المنشآت العقيمة التي تقام باسمها، والتي يراد أن تكون هياكل فقط تمجد العصر وتنسب إليه؛ وما نخشاه هو أن الجهات الرسمية ما زالت بعيدة عن تقدير هذا الواجب، بعيدة عن تأديته. إن النبوغ في مصر ما زال يعني الفقر والبؤس، إذا لم يوفق من تلقاء نفسه إلى الخروج من غمرة الظلمات والصعاب التي ينشأ فيها؛ بل نستطيع أن نقول أكثر من ذلك، هو أن النبوغ يعتبر في مصر أحياناً خطراً يخشى منه ويجب اتقاؤه؛ وعندئذ يشترى لا ليعضد ويزدهر، بل لكي يسكت ويقبر. أما أغنياؤنا فلن نطمع أن نجد بينهم واحداً يقدر واجباً لا تقدره الحكومة؛ ومن المحال أن يروا مثلهم الأعلى في رجال كألفرد نوبل يرون ذخر الإنسانية في صون التفكير الإنساني، والارتفاع به إلى ذرى التقدير والإجلال

محمد عبد الله عنان المحامي