مجلة الرسالة/العدد 78/توماس كارليل

مجلة الرسالة/العدد 78/توماس كارليل

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 12 - 1934



نظره إلى التاريخ

للأستاذ محمود محمود محمد

(ليس التاريخ العام في روحه ومغزاه - تاريخ ما أحدث الإنسان في هذا العالم - إلا تاريخ عظماء الرجال الذين ظهروا في هذه الدنيا، فقد كانوا أئمة، وكانوا مثلاً وكانوا قدوة لغيرهم، بل كانوا مبدعين لكل ما مارس الإنسان من أعمال، وكل ما حقق من أماني. إن كل ما نراه قائماً في هذا الوجود كاملاً متقناً إنما هو نتيجة مادية محسوسة، وتحقيق عملي مجسم لكل ما جال في رؤوس أولئك الرجال من أفكار، أولئك الرجال الذين هبطوا إلى هذا الوجود فكان تاريخهم بحق هو لحمة التاريخ وسداه)

بهذه العبارة يفتتح كاريل كتابه (الأبطال وعبادة البطولة) فيلخص لنا نظريته في التاريخ. يرى كارليل أن الفرد هو كل شيء، وأن قادة الشعوب هم خالقوها ومكيفوها، يؤثر الفرد في الجماعة ولا يتأثر بها. والبطولة في نظره تتقمص في فحول الرجال على صور شتى، فالرسول والشاعر والكاتب والمصلح والفيلسوف كل هؤلاء من طينة واحدة، ليس بينهم من خلاف، اللهم إلا في الهيئة التي يكتسون والأسلوب الذي ينتحون (ويصح لنا أن نعتبر هؤلاء الرجال من فصيلة فوق البشر، فصيلة غير آدمية، فكلهم رسول مبعوث إلينا برسالة خاصة من الأبدية المجهولة، من الحقائق الباطنة للأشياء، لا تحجبها عنه أباطيل الناس، وكيف ذلك والحقيقة تسطع على عينيه حتى يكاد ليعشى لنورها. . . الرجل العظيم مخلوق من فؤاد الدنيا وأحشاء الكون، وهو جزء من الحقائق الأولية للأشياء) لا تعميه عن واجبه جهالة عصره أو نقص في نفسه؛ هو يرمي إلى الحقيقة الثابتة، إلى الحقيقة الحية. ومن هذا الحق يستمد قوته، والى هذا الحق تصغي الجماهير، رسالته أبدية مثمرة (وأعمال الرجال! خبئها تحت رواسي الجبال، أو في أعشاش البوم، فهي لا تموت ولن تموت)

ويرى كارليل أن الناس مسوقون بطبيعتهم إلى عبادة البطولة (وإن الإعجاب بمن هم أعلى منا إدراكاً لأسمى شعور يتردد في الصدور، وليس روح الوجود وحياة الشعوب وكيان الجماعة الإنسانية إلا خضوعاً للعظماء وعبادة لأفكار العظماء)

وهذا الشعور كامن في الإنسان في كل زمان ومكان حتى في هذا العصر الحديث الذ تحاول فيه الإنسانية أن تتخلص من سلطة الزعماء وتقيم الديمقراطية مكان الديكتاتورية كلما اتسع المجال وأتيحت الفرص

لم يكن كارليل مبتدعاً في الرأي حين رفع البطولة إلى هذا المقام وقدسها هذا التقديس، فقد سبقه إلى ذلك هيجل الفيلسوف الألماني إذ كان يقول: إن وراء كل أمة أو عصر أو مدنية (فكرة) تسيرها. هذه الفكرة هي السمة الكبرى لذلك العصر أو تلك المدنية، منها تتفرع وإليها تنتهي جميع مناحي التفكير من فلسفة أو دين أو فن أو أخلاق. هذه (الفكرة) عند هيجل هي (روح البطولة) عند كارليل. ومن ثم نرى أن كارليل كان أشد وضوحاً وأدق تعبيراً من صاحبه الألماني، وقد أراد أن يزيد وضوحاً ويتخلص من غموض (الفكرة) تماماً، فجسد (روح البطولة) في شخص (البطل) فانتقل بذلك من المعقول إلى المحسوس، ومن الفكرة المجردة إلى الحقيقة الملموسة

ومع ذلك فإن كارليل لم يتخلص من تجريد الفكرة تماماً فإن هذا (البطل)، هذا (الكائن الحي) الذي تتجسد فيه الفكرة هو في ذاته معنى مجرد تتجمع فيه فروع الحياة الشتيتة. البطل في نظر كارليل يمثل المدنية التي يعيش فيها، ورأي البطل نبراس يهتدي به بنو عصره. فلو أردنا معرفة تاريخ عصر من العصور بحثنا عن زعيمه وقائده. ولا يريدنا كارليل في دراسة هذا الزعيم أن ندرس تاريخ حياته ومجراها وإنما واجبنا أن نحلل آراءه ومعتقداته حتى نستطيع أن نفهم مدنية العصر الذي نشأ فيه بمظاهرها المختلفة، لأن المدنية - كما كان يرى - كل لا يتجزأ لها مرمى واحد ومعنى واحد.

وروح البطولة هي رائد التاريخ ومنشأ المدنيات، ومجددة الحياة الإنسانية، وما دامت كذلك منبع كل حركة فلا ينبغي أن نفهم التاريخ إلا عن طريقها وبواسطتها. ليضع علماء الاجتماع ما شاءوا من القواعد والقوانين، وليضع رجال السياسة ما شاءوا من نظم ودساتير، وليفرض علينا المؤرخون ما شاءوا من أسباب تسير هذا العالم، فليس الإنسان بكائن جامد تكيفه قاعدة، ويعبر عنه بقانون، وإنما هو روح حي يفكر ويشعر ويتأثر، يخضع لأفذاذ الرجال كلما ظهروا برغم كل قانون

وأحسن مثال يتمثل فيه بكل جلاء، نظر كارليل للتاريخ كتابه عن (كرومويل). أراد كارليل أن يؤرخ البيورتيانية، فكتب عن كرومويل زعيمها الأكبر، وحامل لوائها تاريخاً مفصلاً حين تقرأه تسمع كلمات الرجل ونبرات صوته وتتخيل صورته ورسمه. يعرض عليك المؤلف صورة واضحة يضعها أمام ناظريك لتبلغ من قرارة نفسك بقدر ما فيها من قوة وتأثير، ولا يفرض عليك رأيناً بعينه ولا فكرة بذاتها، يعرض عليك الحقيقة مجردة من غير تعليق، فلا ترى المؤلف ولا أثراً من نفسه، كان البيورتان يتطلعون إلى إنشاء حكومة على دينهم ومبادئهم فوجدوا في كرومويل الرجل الذي تتجسد فيه ميولهم وأهواءهم، فوضعوه على رأس حكومتهم ورضوا به حاكماً مستبداً، ذلك لأن كرومويل بطل تتمثل فيه آراء جيل كامل وأمة بأسرها

كان كارليل يرى في كرومويل مثلاً للبطولة الحق، وينظر إلى الثورة الإنجليزية التي قام بها نظرة الإعجاب، لأنها كانت تقوم على أساس ديني متين، ولكنا نجده في كتابه عن (الثورة الفرنسية) لا ينظر بعين الرضا إلى هذه الثورة لأنها لم تخضع لزعيم واحد يمثلها ويسير بها إلى الأمام، كما أن فلسفتها كانت في صميمها غير دينية، اندفع فيها الفرنسيون وراء غرائزهم الوحشية وعملوا على إشباع شهواتهم البهيمية وإحلال الفوضى محل النظام

وظاهر أن كارليل لم يكن عادلاً في حكمه هذا. نعم كان في الثورة الفرنسية الكثير من الوحشية والهمجية، ولكنا لا نستطيع أن ننكر أن فيها خيراً كثيراً، وإنها وإن تكن ثورة غير دينية إلا أن الفلسفة التي كيفتها تنطوي على كثير من المبادئ القديمة، وإذا كانت الثورة الإنجليزية قد خدمت إنجلترا فإن الثورة الفرنسية قد خدمت العالم أجمع، وما تزال تخدمه إلى يومنا هذا

وكما انقلب كارليل على الثورة الفرنسية لخروجها عن الدين، فهو كذلك ثائر على إنجلترا الحديثة لإهمالها هذا الجانب الهام في حياتها العامة، ثائر على هذه الديمقراطية الواسعة التي تفسح المجال لكل من هب ودب ليكون ذا رأي محترم وقول مسموع، وليس من سبيل إلى خلاص البلاد إلا بعد أن تسلم زمام أمورها لزعمائها غير منازعين

وهنا نقف عند هذا الحد من بسط آراء كارليل في البطولة وأثرها في التاريخ ونسائل أنفسنا: هل كان كارليل مصيباً حينما رفع أفذاذ الرجال إلى هذا الحد من القوة وهذه المكانة من التقديس؟

إن من يتصفح تاريخ الحياة وتقدمها يرى أن الإنسانية في كل عصورها تنقسم إلى شطرين: رعية كبيرة وطائفة قليلة من الرعاة، تدق هذه الرعية أمامها، هؤلاء الرعاة هم أدوات التقدم الإنساني وهم عظماء الرجال الذين يمثلون الآداب والآراء التي هي على اختلافها وتباين فنونها ومنازعها بمثابة ظواهر اجتماعية أكثر منها ظواهر فردية، أي أنها أثر من آثار الجماعة والبيئة أكثر من أن تكون أثراً من آثار الفرد الذي رآها ونشرها بين الناس. وإذا كان الأمر كذلك فليس من الحق في شيء أن ننسى الجماعة التي هي المؤثر الأول في ظهور الآداب والآراء والفلسفة، ونقصر عنايتنا على الفرد الذي كان مظهراً لهذه الآداب وتلك الآراء فنمحو الجماعة محواً ونهملهاً إهمالاً، إذ الفرد لم ينشئ نفسه وإنما الجماعة كلها متعاونة متظافرة على تنشيئه وتربية عقله وجسمه وشعوره، فهو صورة منها وظاهرة من ظواهرها. الفرد مدين بلغته ودينه وخلقه إلى الجماعة، إذن فليس من البحث العلمي القيم في شيء أن نقدس الأفراد كل هذا التقديس ونحتقر الجماعة كل هذا الاحتقار. وأنا لو صورنا لأنفسنا طائفة من أواسط الناس متوسطي الذكاء ليس لهم مواهب خاصة ولا عقلية ممتازة فد رحلوا إلى جزيرة جرداء ليس فيها من أثر من آثار المدنية ولا عمل من أعمال الإنسان أدركنا بسهولة كيف يظهر بينهم المخترع والفيلسوف والسياسي والقائد، ولا يلبثون أن يعيدوا في خلال جيل أو جيلين تاريخ التقدم الإنساني كله، ويصبح هؤلاء الأوساط صورة مصغرة من نيوتن ووطسن وكرومويل ونابليون وغيرهم، لأنهم في حياتهم الأولى كانت تعوزهم الفرصة التي أتاحتها لهم الجزيرة الجرداء، فظهرت عبقرياتهم بعد كان مقضياً عليها بالموت والفناء

ويتبين لنا من هذا أن الإنسانية لا تتقدم بظهور الرجال، وإنما يظهر الرجال لأنها تريد أن تتقدم، وفي علم الحياة نظرية ثابتة تقول أن الوظيفة تخلق العضو ولا يخلق العضو الوظيفة، فالإنسان لا يمشي لأن له قدمين، وإنما له قدمان لأنه أراد أن يمشي، ولا ينظر لأن له عينين، ولكنه ذو عينين لأنه أراد أن ينظر

ومن يتدبر التاريخ ير أن الإنسانية تعتريها فترات من الجمود تعقبها النهضات التي تظهر فيها الشخصيات البارزة، ولا تعلل هذه الظاهرة إلا بأن الظروف الاجتماعية والزمنية في فترات الجمود تخالف مثيلاتها في فترات النهضات، فالأولى لا تدعو إلى ظهور الرجال بينما الثانية تتطلب الرجال العاملين وتخلقهم خلقاً فإذا صح لنا أن نقول أن النهضة أوجدت أبطالاً لا يصح أن نقول أن الأبطال أوجدوا النهضة

ولكن كارليل أراد أن ينزههم عن البشرية ويرفعهم إلى مصاف الآلهة.

محمود محمود محمد