مجلة الرسالة/العدد 78/محاورات أفلاطون

مجلة الرسالة/العدد 78/محاورات أفلاطون

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 12 - 1934


6 - محاورات أفلاطون

الحوار الثاني

كريتون أو واجب المواطن

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

أشخاص الحوار: سقراط. كريتون

مكان الحوار: سجن سقراط

سقراط - ما الذي أتى بك الساعة يا كريتون؟ إنها الآن جد باكرة

كريتون - بلى إنها لكذلك

سقراط - كم هي على التحديد؟

كريتون - الفجر في البزوغ

سقراط - عجيب أن يأذن لك الحارس بالدخول

كريتون - إنه يعرفني يا سقراط لأنني جئت مراراً، ولأنني فوق ذلك ذو فضل عليه

سقراط - أجئت الآن تواً؟

كريتون - كلا بل جئت منذ حين

سقراط - إذن فما الذي أجلسك صامتاً، وكان أخلق بك أن توقظني على الفور؟

كريتون - حقاً يا سقراط إني لم أكن لأرضى لنفسي كل هذا الغم والأرق، ولكني أخذت بالعجب أن رأيتك في نعاس هادئ، فلم أرد لهذا أن أوقظك، وآثرت لك أن تظل بعيداً عن الأسى، لقد عرفتك دائماً سعيداً بما لك من مزاج هادئ، ولكني لم أر الدهر ضريباً لك في احتمالك لهذا المصاب مستخفاً باسماً

سقراط - إن الإنسان يا كريتون إذا عمر ما عمرت فلا ينبغي له أن يجزع من شبح الموت

كريتون - ولكن سواك من الكهول، إذا ما نزلت بهم أشباه هذه الكوارث لا يمنعهم الهرم من الجزع

سقراط - قد يكون ذاك، ولكن هلا حدثتني عما أتى بك في هذه الساعة الباكرة؟

كريتون - أتيت أحمل نبأ مؤلماً يبعث على الشجن، لا بالنسبة إليك فيما أظن، بل بالنسبة لنا جميعاً - نحن أصدقاءك - وهو عندي أبلغ ما يكون إيلاماً

سقراط - ماذا؟ أحسب أن قد عادت السفينة من ديلوس ووصولها بنذير بموتي؟

كريتون - كلا لم تبلغنا السفينة بعد، ولكنها ربما وصلت اليوم، فقد انبأني أناس جاءوا من صونيوم، أنهم خلفوها هناك، إذن فآخر يوم من حياتك يا سقراط هو الغد

سقراط - مرحى يا كريتون، إن كانت هذه إرادة الله فمرحباً بها، ولكني أعتقد أن سيؤجل الأمر يوماً آخر

كريتون - ومن أنبأك هذا؟

سقراط - هاك الخبر. إني بالغ أجلي في اليوم التالي لوصول السفينة

كريتون - نعم، وهذا ما يرويه أولو الأمر

سقراط - ولكني لا أظن أن السفينة بالغتنا إلا غداً. عرفت ذلك من رؤيا رأيتها ليلة أمس. بل كنت أراها الآن تواً، حين تركتني - لحسن حظي - نائماً

كريتون - وكيف كانت رؤياك تلك؟

سقراط - جاءتني شبيهة امرأة جميلة وسيمة، تدثرت بثوب أبيض، وصاحب بي قائلة: يا سقراط، إنك ذاهب إلى أخراك في اليوم الثالث عداً من الآن

كريتون - ما أعجبه من حلم يا سقراط!

سقراط - معناه ظاهر يا كريتون، وليس فيه مجال للريب

كريتون - نعم إنه جلي غاية الجلاء، ولكن، أواه! يا عزيزي سقراط، دعني أتوسل إليك مرة أخرى، أن تأخذ بنصحي فتعمد إلى الهروب، لأنك إذا مت فلن أفقد فيك صديقاً فريداً وكفى، ولكن ثمة فوق ذلك شراً: سيزعم من لا يعرفك ولا يعرفني من الناس أني كنت أستطيع لك النجاة لو أنني رغبت في بذل المال، ولكنني لم أعبأ بك، أفيمكن أن يكون بعد هذا العار عاراً - أن يقال أني آثرت المال على حياة صديق؟ وهيهات أن يقتنع الدهماء بأني أردتك على الفرار فرفضت

سقراط - وفيم العناية بحديث الدهماء، يا عزيزي كريتون؟ سترى الفئة الصالحة في ذلك رأياً صواباً يطابق ما وقع، وهي وحدها جديرة بالاعتبار

كريتون - ولكنك ترى يا سقراط أن رأي الدهماء لا بد من اعتباره وذلك ظاهر في قضيتك أنت، ففي مقدورهم أن ينزلوا أفدح المحن بمن لم يظفر عندهم بالرضا كائناً من كان

سقراط - ليتهم يستطيعون ذلك يا كريتون فذلك كل ما أرجوه، إذ لو استطاعوا لكان كذلك في وسعهم أن يفعلوا أعظم الخير. فيكون ذلك منهم جميلاً. ولكنهم في حقيقة الأمر عاجزون عن فعل الخير والشر على السواء، وليس في مقدورهم أن يصيروا الرجل حكيماً أو فدماً، وكل أفعالهم وليدة المصادفة

كريتون - نعم ولست منازعك في ذاك، ولكن هلا تفضلت فأنبأتني يا سقراط - إن كنت لا تغض النظر عني وعن سائر أصدقائك فيما تصرف من الأمر -: ألست تخشى أنك إن فررت من هذا المكان فقد يصيبنا النمامون بالضر بسبب اختطافك، وإنا قد نفقد أملاكنا كلها أو جلها، أو قد ينزل بنا من الشر ما هو أشد من ذلك هولاً؟ فليطمئن قلبك إن كان ذلك ما تخشاه، فواجب حتم علينا أن نخاطر بهذا، وبما هو أعظم من هذا في سبيل نجاتك، فاقتنع إذن بما أقول، وافعل بما أشير

سقراط - نعم يا كريتون، وليس هذا الذي ذكرته كل ما أخشى، وإن يكن جانباً منه

كريتون - لا تخف. إن هناك نفراً يود لو ينجيك فينتزعك من غيابة السجن، ولن يكلفهم ذلك شططاً، أما النمامون فهم كما ترى لا يشتطون في الطلب، ويقنعهم من المال قليله. إن مالي بأسره رهن إشارتك، وهو كاف فيما أعتقد، فإن أشفقت أن ينفد كله، فهاهم أولاء نفر من الغرباء يمدونك بما يملكون، وهذا أحدهم سيماس الطيبي قد أحضر معه لهذا الغرض نفسه مبلغاً من المال. وذلك سيبس وغيره كثيرون، يتمنون أن يبذلوا في سبيلك أموالهم، إذن فلا تحسب لذلك حساباً، ولا تتردد في سبيل تنفيذ القرار. ولا تقل كما قلت في المحكمة أنك لا تدري ماذا عساك أن تفعل بنفسك إن فررت، فأنى حللت نزلت من الناس منزلاً كريماً، وليس ذلك قاصراً على أثينا، فثمة في تساليا ستجد من أصدقائي حماية وتقديراً إن أحببت الذهاب إليهم، ولن تصادف بين بني تساليا جميعاً فرداً يصيبك بالأذى، ولست أرى بعد هذا كله ما يبرر لك يا سقراط أن تفرط في حياتك، والنجاة ميسورة مستطاعة. إنك لتلعب بنفسك في أيدي أعدائك وقاتليك، بل إني لأزعم فوق هذا أنك إنما تسيء إلى أبنائك، لأنك آثرت أن ترتحل تاركهم لما قسمت لهم حظوظهم وكان في وسعك أن تقوم بنفسك على تنشيئهم وتربيتهم، فإن لم يصبهم ما يصب اليتامى عادة من قضاء، لما استحققت عندهم من الشكر إلا قليلاً، فليس للإنسان أن يقذف في العالم بأطفال لا يحب أن يستميت حتى النهاية في إطعامهم وتربيتهم، ولكنك تختار أيسر الأمرين، فيما أظن، لا أحسن الأمرين وألصقهما بالرجولة، وكان ذلك أجدر برجل مثلك يبشر بالفضيلة في أفعاله جميعاً. حقاً إني لأستحي منك بل من أنفسنا نحن أصدقائك، كلما دار بخلدي أن قصتك هذه جميعاً، ستنسب إلى نقص في بسالتنا، فما كان ينبغي أن تكون المحاكمة، أو يكن يجب أن تختم بغير ما ختمت به، وهذه النهاية التي أراها أسوأ العبث، ستبدو للناس كأنما صادفت منا ارتياحاً، لما أبديناه من ضعة وخور، نحن الذين كان بوسعنا أن ننجو بك، كما كان بوسعك أن تنجو بنفسك، لو كنا نملك لأي شيء نفعاً (إذ لم يكن الفرار أمراً عسيراً) وسيُظن يا سقراط أنا لم نقدر أن ذلك كله سينقلب علينا وعليك بؤساً وعاراً، ففكر إذن في الأمر إن لم تكن قد اعتزمت بعد شيئاً، فقد انقضت فرصة التفكير ولم يعد لديك إلا أمر واحد يجب إنجازه هذا المساء، لو كنت تريد له إنجازاً، فإن أرجأت أمرك تعذر واستحال، وعلى ذلك فأنا أتوسل إليك يا سقراط أن تسلس لي القياد وأن تفعل بما أشير

سقراط - أي عزيزي كريتون! ما أعز حماسك وما أنفسه، لو كان في جانب الحق، أما إن كان للباطل فكلما ازداد الحماس اشتعالاً ازداد الأمر سوءاً، فلننظر إذن إن كانت هذه الأعمال واجبة الأداء أم ليست كذلك، فقد كنت دائماً، وما أزال، من تلك الطبائع التي تلتزم دليل العقل، كائناً ما كان رأيه، ما دام يبدو عند التفكير أنه الرأي الأمثل. أما وقد أصابتني هذه المحنة فلا يسعني أن أهمل الآن ما ارتأيته قبلاً، فما زالت مبادئي التي طالما أجللتها وقدستها؛ تنزل عندي منازل الإجلال والتقديس. فثق أني لن أظاهرك في الرأي، اللهم إلا إذا اهتدينا الآن إلى مبدأ يكون خيراً منها. نعم، لن أصغي إليك حتى ولو زادني الدهماء حبساً ومصادرة وموتاً، ملقين في نفوسنا من أراجيف الشياطين المفزعة ما نرهص به الأطفال، فأي سبل التفكير أهدى إلى بحث هذا الموضوع؟ أعوْداً إلى رأيك الذي سقته من قبل عما يقول الناس عنا، وبعضه يستحق الاعتبار دون بعض كما سبق لنا القول؟ أكنا نصيب لو أننا أخذنا برأيك (وهو أن يقام وزن لما يقول الناس) قبل الحكم بالإدانة؟ أم هل ينقلب الرأي الذي كان صائباً حيناً ما، كلاماً لمجرد الكلام، ويتبين أنه لم يكن في الواقع إلا عبثاً اتخذ سبيلاً للتسلية واللهو؟ أبحث معي هذا يا كريتون: أترى أنه لم يعد منطقي الذي اتخذته أولاً يلائم على أية حالة ما يكتنفني الآن من ظروف، أم لست ترى الأمر كذلك؟ ثم هل هو حقيق عندي بالرفض أم بالقبول؟ إن كثيراً ممن يزعمون لأنفسهم رجاحة الرأي يذهبون فيما أعتقد إلى هذا الذي أشرت إليه من قبل، وهو أن من الناس بعضاً يجدر بآرائهم الاعتبار، وأما بعضهم الآخر فلا يصح أن يؤبه له. وإنك يا كريتون لست مقبلاً غداً على موت، أو ليس هناك احتمال بشري بهذا على الأقل، فأنت إذن حكم صالح، لا يؤثر فيك الهوى ولا تميل بك ظروفك وموقفك عن جادة الحق. حدثني إذن: ألست مصيباً فيما أزعم، بألا نقدر من آراء الناس إلا بعضها فقط؟ لقد أخذت بهذا الرأي، وأنا أسألك هلا تراني قد أصبت فيما ارتأيت؟

كريتون - ليس في ذلك ريب

سقراط - ألا يجب أن نحفل بما يقوله أبرار الناس دون شرارهم؟

كريتون - بلى

سقراط - وما يرى الحكماء فهو خير، وما يرى غير الحكماء فهو شر

كريتون - لا شك في ذلك

سقراط - لننظر ما قيل في غير هذا الموضوع، هل يطلب إلى طالب التمرينات البدنية أن يصغي إلى القدح والثناء، والى رأي كل إنسان فيه، أم يجب أن يستمع إلى رأي رجل واحد فقط - هو طبيبه أو مدربه كائناً من كان؟

كريتون - إنه يستمع إلى رأي رجل واحد فحسب

سقراط - أينبغي أن يخاف اللوم وأن يرحب بالثناء يوجهه ذلك الرجل وحده، وألا يأبه للوم الناس ومدحهم؟

كريتون - بدهي ما تقول

سقراط - ويجب أن يعيش ويدرب، وأن يأكل ويشرب، على نحو ما يبدو صالحاً لذلك المعلم الأوحد، وهو عليم بأمره، فذلك أجدى من السير تبعاً لما يراه سوى معلمه من الناس ولو كانوا أجمعين؟

كريتون - هذا حق

(يتبع) زكي نجيب محمود