مجلة الرسالة/العدد 78/زواج الشاعر
مجلة الرسالة/العدد 78/زواج الشاعر
للأديب حسين شوقي
(س) شاعر شاب تزوج منذ عام بزوجة من الريف لأنه كان يريد فتاة ساذجة طاهرة الجسم والعقل - وذلك ما يندر في المدن الكبرى - يستطيع أن يصوغها على ما يلائم ذوقه الفني، وما يتفق ومثله العليا. . .
عاد (س) بالفعل من الريف بالزوجة المنشودة، إلا أنه وجد من الصعوبة في تكوينها ما وجده آباؤنا في نحت الجرانيت؛ لأن الفتاة كانت ساذجة جداً. . . ثم وجد مع الأسف أنها أقل عاطفة من فتيات المدن وهي بنت الريف التي نشأت وترعرعت بين الحدائق والزهور. . فإن حب الفتاة لشاعرنا كان حباً ضئيلاً جداً إذا قيس بحبه لها، لأن الشاعر احتفظ بطهارة قلبه طوال شبابه من أجل هذا اليوم المشهود (مع استثناء بعض جولات في الغزل البريء) فكان ما به من احتياطي الحب قد يعادل ما في خزائن بنك فرنسا من احتياطي الذهب. . . أما قلب الفتاة فكان أشبه بجليد (الأسكيمو). . .
ولما كان (س) شديد الإحساس كمقياس الحرارة، فإن كان يتألم من الحركات والإشارات غير الموفقة التي كانت تأتيها زوجته كي تغطي حبها الضئيل له. . . ولشد ما كان الشاعر شديد الإشفاق عليها من أجل هذا. .!
انقضى عام على زواج الشاعر، فخرج بهذه المناسبة إلى الخلاء يشكو همه إلى الأطيار والأزهار، أصدقاء الشاعر الحقيقيين. . .
جلس الشاعر هناك على بساط من الخضرة، ثم أخذ يستعيد في ذاكرته حياته الزوجية خلال العام المنصرم، فأحس من جراء ذلك بهم شديد وحزن بالغ. . . فكم من حوادث محزنة وقعت خلال تلك السنة!
إنه ما زال يذكر مع الأسف والحسرة تلك الليلة التي أتفق فيها الزوجان على الذهاب إلى المسرح ليشهدا رواية مشهورة. . إلا أن الزوج مرض في اللحظة الأخيرة، فقال عندئذ من باب المجاملة لزوجه، وقد ظن أنها ستبقى بجانبه لتمريضه وتسليته: إذا شئت فاذهبي أنت يا عزيزتي إلى المسرح. . سأطلب م. . (صديق للشاعر) في التليفون ليأتي فيصطحبك. . ولشد ما كانت خيبة أمله كبيرة حينما أجابته: حسن. . سأذهب مع م. . بعد أن أقيس حرارتك لأطمئن عليك! أرادت الزوجة بقولها هذا أن تظهر اهتمامها بجسمه. . . ولكن هل فكرت في قلب الشاعر المسكين؟
وفي ليلة أخرى ذهب الزوجان إلى حفلة رقص. . . فلما عزفت الموسيقى بلحن (الدانوب الأزرق الجميل) الذي كان الشاعر يحبه حباً جماً، ذهب من فوره إلى حيث كانت تجلس زوجه ليطلب منها أن ترقص معه هذا الدور، فاعتذرت إليه لارتباطها بوعد سابق! مع علمها بحب زوجها الشديد لهذا اللحن. . . وكان قد أهدى إليها قبل الذهاب إلى الحفلة وردة بيضاء حلت بها صدرها. . . فافتقدها أثناء الحفلة فلم يجدها على صدرها، فسأل عنها وقد ظن أنها سقطت منها أثناء الرقص، إلا أنها أجابته بكل سذاجة: الوردة؟ إن صديقتي البارونة ل. . أظهرت إعجابها بها فأعطيتها إياها! كاد الشاعر يموت في تلك الليلة من الغم. . .
وفي مرة أخرى سافرت زوجته إلى الريف تعود أمها وكانت مريضة مرضاً خطيراً. . ومكثت هناك أسبوعين لم ترسل خلالهما إلا كتابين قد احتويا على عواطف تشبه تلك العواطف الأنموذجية الموجودة في كتب (برليتز) للتمرين والترجمة!. . وفي يوم عودتها من الريف، بدلاً من أن تقضي السهرة على انفراد مع زوجها بعد تلك الغيبة، دعت بعض الأصدقاء إلى السينما لمشاهدة الممثلة جريتا جاربو في فلمها الأخير
بينما كان الشاعر يعيد هذه الحوادث في مخيلته إذ به يسمع تغريد عصافير على الشجرة، فرفع إلى الشجرة نظره، فإذا به يبصر عصفورين على غصن، متعانقين في شوق وحنان، عندئذ سقطت دمعة كبيرة على خد الشاعر، ثم نظر في ساعته فوجد أنه قد تأخر في نزهته، فبادر بالعودة إلى المنزل، لأن زوجه كانت قد دعت بعض الأصدقاء للاحتفاء بمرور عام على زواجهما السعيد!
كرمة ابن هابي
حسين شوقي