مجلة الرسالة/العدد 784/ترجمة وتحليل:

مجلة الرسالة/العدد 784/ترجمة وتحليل:



الغروب!. .

لشاعر الحب والجمال لامرتين

بقلم الأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

استلقى الشاعر على الرمال والريح بليل، فما كان أمامه إلا البحر الغضوب والشطُّ الجميل، ولا كان فوقه إلا السماء تسعى فيها إلى المغرب شمس الأصيل. . وراح يتأمل هذا البحر الهائج المضطرب تصطخب أمواجه وتتلاطم، وتعلو رءوسها وتهبط، وترغى أشداقها وتزبد، فخيل إليه أنه أمام قدر تغلي مياهها فتعلو أزبادها، وأن من تحت البحر ناراً تسجره، كما يكون تحت القدر مرجل تسعره؛ فاستشعر حلاوة هذا التأمل واستغرق فيه، فما أفاق على نفسه إلا وقد هدأ البحر بعد اضطرابه، وسكن موجه بعد اصطخابه، فقد خبت ناره فما تسجره، كما يخبو مرجل القدر فلا يسعره؛ ونهض الشاعر يريد العودة إلى منزله فما راعه إلا منظر جديد يتقلب تحت بصره. فلقد هب البحر هبة واحدة، ثم سحب من الشاطئ موجه الدافق المتلاحق، كما تسحب الغانية عن الأرض ذيول ردائها الفاتن، وأقبل والموج في استرخاء، على سرير سابح في الفضاء، ينشدان طيب المنام، بعد يوم شديد الخصام!

وكان حقاً للامرتين أن يظل مستلقياً على الرمال ليشهد هذا المنظر الجذاب، فيسجله بهذه الأبيات:

1 - (هدأ البحر كقِدر علا زَبَدُه،

ثم ذهب جُفاءً لما خبا موقده. . .

وهبَّ يسحب من الشاطئ موجه المتدافع،

كأنه يريد المنام في سريره الواسع!)

وفي الأفق البعيد، فوق هذا البحر الذي أخذته سِنة من النوم، وبين الغمام المخيم على البحر، كانت (ذكاء) تمشي على استحياء، وتهوي في خَفَر من سحاب إلى سحاب، وتُمدّ في تردد ظلها على الأمواج، فكان ظلا مرتعشاً مرتاباً، يطفو على وجه البحر تارة ويختفي بين طياته أخرى. . ثم اشتد خجلها من تردد ظلها وارتيابه، فاحمر وجهها حتى أضحى كوجه غانية مخضب بالدماء؛ وأبت أن تشمت الطبيعة بما عراها من اضطراب، فوارت في حجاب الأفق شطراً من وجهها القاني الذي ظل شطره الآخر براقاً يخطف الأبصار، وجلا يتأهب للتواري عن الأنظار، فكان كسفينة جميلة اشتدت بها الريح في يوم عاصف، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، ثم غرقت في الأفق البعيد؛ فانطوى منها شطر في أعماق الماء، وبدا شطرها الآخر على وجهه تندلع منه ألسنة اللهيب في حمرة الدماء!

2 - (والشمس التي كانت تهوي من سحاب إلى سحاب،

مدّتْ على الأمواج ظلَّها المرتاب. . .

ثم وارت شطراً دامياً من وجهها البراق،

كسفينة غرقت في الأفق بعد احتراق!)

وكأنما أسفت السماء لغياب الشمس، فشحب منها الجانب المواجه لما احتجب من ضيائها، وظهرت عليها إمارات الحزن والاضطراب؛ على حين غارت الصبا من الشمس فظنت تواريها في حجاب الأفق رشاقة ودلالا، فاستترت مثلها ببرقعها الشفاف، وأنشأت شفتاها الرقيقتان تنفحان من خلاله نفحات ألطفً من حفيف الورق، وأنعم من لمس الحرير؛ بينما كانت الظلال تدنو من أمها الشمس وتقترب، وتجتمع بأمرها وتتحد، ثم تعدو بين يديها وتستبق، وتمحو تحت ألوانها الداكنة السوداء كلَّ ما يدب على الأرض أو يجري، وما يسكن في مساربها أو يسري، ولك ما يطفو على وجه الماء أو يسبح، وما ينطوي في أعماقه أو يعوم.

3 - (وشحب شطر السماء. أما الهواء اللطيف

فتوارى في الحجاب ناعماً كالحفيف. . .

وعَدَتِ الظلال فمحتّ في ألوانها الدكناء؛

كلَّ سارب في الأرض أو سابح في الماء!)

وليت شعري، ماذا يصنع الشاعر أمام هذه المناظر؟

بحر يهدأ بعد اضطراب، وينام بعد اصطخاب. وشمس تمر بين السحاب، ثم تتوارى في الحجاب. . . وسماء تشحب وتصفرّ، وريح تسكن وتقرّ. . . وظلال تعدو وتستبق، وعوالم تنمحي وتختنق!!. .

أجل. . . ماذا يصنع الشاعر أمام هذه المناظر؟

لقد هدأت بعد ذهاب النهار كلُّ ضوضاء، وسكنت كل حركة، وسكت كل صوت إلا صوت باك من فؤاد حزين، أو متضرع بقلب سليم، أو شاك ظلم الأقدار، أو ناشد حقائق الأسرار!.

ألا وإن للشاعر روحاً تشحب إذا شحبت السماء، وفؤاداً يبكي إذا تذكر البكاء، ونفساً تشكو بألم الآخرين قبل شكواها، وعقلا ينشد الحقيقة ولو من صداها. وهذا ما صنعه لامرتين ووصفه في هذه الأبيات:

4 - (وفي أعماق روحي التي أمست بدورها شاحبة،

قرت بعد ذهاب النهار كل ضجة صاخبة.

وساور نفسي شيء كما ساور الخليقة؛

يبكي ويدعو ويشكو وينشد الحقيقة!)

ولو كنت تجلس مجلس الشاعر لرأيت في ناحية المغرب - وسط قرص الشمس الهلالي الأحمر - باباً واسعاً مفتوحاً على مصراعيه، تسطع منه الأنوار تتلوها الأنوار، وهاجة كالذهب، دّفاقة كالموج، فتصطبغ السحابة من فوقها بلون أرجواني جذاب، فتحسب هذه السحابة خيمة ضُربتْ أوتادها على نار يضطرم أوراها؛ ويشتد سعيرها، لتغطيها وتمنع الريح من إطفائها؛ وأن ليس هذا اللون الأرجواني إلا صبغة اللهيب، ارتسمت على الخيمة فلاحت من خلالها، في روعة مدهشة وجلال عجيب!

5 - (وفي ناحية المغرب باب واسع مفتوح،

ترك الأنوار كأمواج الذهب تلوح. . .

والسحابة الأرجوانية شابهت خيمة،

تغطي - ولا تطفئ - نيراناً مضطرمة!)

ومثل هذا المنظر الأّخاذ جدير أن يجذب إليه الظلال والرياح والأمواج، فإذا هي تعدو جميعاً صوت هذا القرص الجمري الملتهب، وتود لو تحول دون غوصه في الأفق، لأن شعاعه العسجدي هو الذي يمدها بالحياة، وأنها لتخشى الموت إذا فارقها الشعاع.

6 - (وبدت الظلال والرياح وأمواج البحر، كأنها تعدو صوب هذا القرص من الجمر،

كما لو كانت الطبيعة وكل ما يمدها بالحياة

يخشى الموت بعد أن فقد ضياه!. . .)

ومن عجب أن غبار المساء، أبى إلا أن يطير عن الأرض منتشراً في السماء، وأن زبد الموج آثر أن يطفو على وجه البحر رغوة بيضاء؛ فما بقى على الشاطئ إلا الشاعر حائراً أمام هذه المناظر، يرجع البصر في هذا السكون العميق، فتنحدر الدموع من عينيه على غير حزن، وتنهمر على خديه من غير أسى، فلا يدري ما الذي أبكاه، ولا يفهم كيف ذرفت عيناه. . .

7 - (وطار عن الأرض عِثْيَرُ المساء،

وطفا الزبد على الموج رغوة بيضاء؛

فأْتبعتها بصري الحائر المنكسر،

ودعوعي - من غير ما يحزنني - تنهمر!.)

بلى أيها الشاعر أن حري أن تعرف ما الذي أبكاك!

أبكاك هذا السكون المفعم بالأسرار، وروعة الليل بعد ذهاب النهار!

أبكاك شعورك بالوحدة إذ رأيت الأفق البعيد خالياً ليس ليس فيه شيء، مضروباً عليه الحجاب لا يكشف من دونه سر، وكان فؤادك الذي عذبه طلب الحقيقة وأضناه طامعاً فيما يحيط بالأفق من أسرار؛ فلما اختفى من أمامك كل شيء تحركت شجونك، وأحسست لوعة تحرقك، فجادلت عيناك بالبكاء، لتلهمك الصبر والعزاء.

ولكن. . . أما يزال فؤادك فارغاً لا تجول فيه الأفكار، أم أوحت إليك هذه المناظر بفكرة جديدة تناجي بها هذه الطبيعة التي تصلى في محرابها القدسي؟. .

كلا. . إنك تفكر. . . ولكنك لا تشعر بما يتلجج في صدرك، فحاول أن تصف حقيقة شعورك، لترى صورة من تفكيرك.

8 - (واختفى كل شيء. فبقى فؤادك المعذب،

فارغاً خالياً كالأفق المحجَّب. .

ثم تمثلت لي فكرة واحدة. . .

كأنها هرم في واحة راقدة. . .)

وإن هذه الفكرة التي هبطت عليك هبوط الوحي، ومثلت في ذهنك الخالي مثول الهرم في واحة ليس بها أنيس - لفكرة جليلة ما في ذلك ريب: فلقد ناجيت بها هذه الشمس التي ما تنفك تسبح في فلكها ما تستقر، وتدور حول العالم ما تعرف السكون، وتسعد بشروقها قوماً حين تشقى بغروبها آخرين، فإذا هم يعيشون على غير نور، أو يمشون في ضوء القمر المستمد من ضيائها، وهم يرتقبون طلعتها سافرة لا يسترها برقع، ووجهها براقاً لا يخفيه حجاب.

وناجيت بها السحب المتنقلة، والأمواج المتدفقة، والأعاصير المتلاحقة، إلى أين تسير، وعم تبحث، وماذا تروم؟

وناجيت بها الغبار الذي رأيته يتطاير، والزبد الذي شهدته يطفو، والليل الذي راقبته يدخل، وعينيك اللتين أبصرتها كل شيء، وروحك التي سبحت في الوجود، إلى أين الرحيل، وأيان السفر، وفيم الإسراع؟

فهل سمعت رداً، وهل تلقيت جواباً؟!. . .

9 - (يا فلكا ما انفك يدور، والعالم بعده بلا نور!

يا سحباً وأمواجاً وأعاصير: نبئيني أين المصير؟

أيها الغبار والزبد والليل! يا عيني وروحي خبرين

إلى أين رحيلنا أجمعين؟ هلا تعلمين؟)

دعها أيها الشاعر إن كانت تعلم أو لا تعلم، فبحسبك أنك لا تشك لحظة في أن كل شيء مردود إلى خالقه، وأن الشمس ما شحب لونها ثم احمر وجهها ثم غاص شطرها إلا من هيبة ربها؛ وأن الليل ما أقبل، والنهار ما ارتحل، والأرواح ما بكت وتضرعت وشكت إلا لأنها تمشي بخطى واسعة نحو بارئها: فهو الذي يقلب الليل والنهار، وهو الذي مد الظل، وهو الذي مرج البحر، وهو الذي سخر الشمس والقمر، وهو الذي جعل الحياة البشر خضماً يضطرب ويهدأ كهذا الخصم الذي تراه، ليمخر الناس عبابه فيصلوا إلى شاطئ السلامة.

ألا فلتطأطأ الرأس خشوعاً بين يدي ذي الجلال، فما أنت إلا سابح في موج كالجبال.

10 - (إليك يا رب. . . فالشمس من بهاء نورك شاحبة،

والليل والنهار والأرواح نحوك ذاهبة!

تقلب الكون كما تشاء في حياة شاملة،

كأنها خضم يغيب كل شيء في أمواجه الهائلة!)

وهنا يقوم الشاعر من مقامه، ويعود إلى منزله وفي عينيه صورة (الغروب)، صورة ما رسمتها ريشه فنان كما ارتسمت على صفحة الروح.

صبحي إبراهيم الصالح