مجلة الرسالة/العدد 784/من مآثر الأمير عبد القادر

مجلة الرسالة/العدد 784/من مآثر الأمير عبد القادر

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 07 - 1948



(مهداة إلى حفيده الأمير سعيد الجزائري)

للأستاذ محمد أسامة عليبة

لمناسبة قيام الدول العربية بتأديب العصابات الصهيونية في فلسطين رأيت نشر ذَرْو من أخبار هذا الزعيم المجاهد:

في وقعة (خنق النطاح) الأولى سنة 1247هـ كان الأمير بين الصفوف يحرض المحاربين على الثبات ويأمرهم بالتقدم، فحمل عليه أحد فرسان العدو برمحه فمر من تحت إبطه الأيسر فشد عليه بعضده وهوى بسيفه على الفارس فقدَّه نصفين. ولما تولى النهار وقعت الهزيمة في عسكر الفرنسيين فولوا مدبرين واتبعهم المسلمون واستولوا على ذخائرهم. وفي هذا اليوم طُعن فرس الأمير، وكان أشقر اللون، ثماني طعنات بحربات العدو، ثم رماه أحدهم بالرصاص في رأسه فوقع به، فلم يبال الأمير بذلك بل قام في مكانه ثابتاً إلى أن قدَّم إليه جنده غيره فامتطاه، وظل يقاتل إلى أن انتصر المسلمون، وأشار إلى ذلك الأمير في بعض شعره بقوله:

توسد بمهد الأمن فدمرت النوى ... وزال لغوب السير من مشهد الثوى

وعرِّ جياداً جاد بالنفس كرّها ... وقد أشرفت مما عراها على النوى

وكم قد جرت طلقاً بنا في غياهب ... وخاضت بحار الآل من شدة الجوى

وإنا سقينا البيض في كل معرك ... دماء العدى والسمر أسعرت الجوى

ألم تر في (خنق النطاح) نطاحنا ... غداة التقينا كم شجاع لهم لوى

وكم هامة ذاك النهار قددتها ... بح حسامي والقنا طعنها شوى

وأشقر تحتي كلمته رماحهم ... مراراً ولم يشك الجوى بل وما التوى

بيوم قضى بحباً أخي فارتقى إلى ... جنان له فيها نبي الرضي أوى

فما ارتد من وقع السهام عنانه ... إلى أن أتاه الفوز يُرغم من غوى

ومن بينهم خلصته حينما قضى ... وكم رمية كالنجم من أفقه هوى

ويوم قضى تحتي جواد برمية ... وبي أحدقوا لولا أولو البأس والقوى

وإنا بنو الحرب العوان بها لنا ... سرور إذا قامت وشانئنا عوى وفي وقعة خنق النطاح الثانية استشهد السيد احمد ابن أخي الأمير وهو ابن خمس عشرة سنة بعد أن بدا من بسالته ما أذهل العقول. ولما وقع عن جواده ميتاً بين الصفوف هجم الأمير في طائفة من وجوه الأبطال جعلهم ردءاً له، فخرق صفوف العدو وانتشل ابن أخيه من بينهم، فعجب الأعداء من ذلك وأيقنوا أن القتيل أمير فحاولوا منعهم من أخذه فخابوا. . .

وفي معركة برج (رأس العين) أخذ العدو يرسل قنابله على جيوش المسلمين كالمطر، فلم يزدهم ذلك إلا شدة وحماسة، وجعل الأمير يسير بين المشاة والفرسان وسائر الصفوف يحرضهم على الثبات والصبر في مجال الموت ويذكرهم بأيام الله، وبينما هو على ذلك إذ عدا عليه أحد فرسان العدو بسيفه فحاد عن سرجه فجاءت الضربة في الفرس فوقع لحينه، فركب غيره واستمر على ما كان فيه من الحض على القتال. وبلغه أن المشاة فرغت أيديهم من الرصاص فأسرع إليهم بما يكفيهم منه، ولم يحفل في ذهابه وقفوله بقنابل العدو المتصلة وصواعقه المتتابعة من البرج والبلد.

وفي غزوة (المقطع) التي شنها الجنرال تريزيل ناقضاً بها المعاهدة بينه وبين الأمير، خرج الجنرال من وهران في خمسة آلاف راجل وفرقة من الفرسان وأربع قطع من المدافع الجبلية وعشرين مركبة للتموين عدا المركبات الاحتياطية، فنهض له الأمير في نحو ألفي فارس وألف من المشاة فاحتل (بسبك) عازماً على الإقامة هناك إلى أن يتلاحق الناس بالجيش، ولكن تريزيل عاجله بالزحف إليه، فعبأ الأمير كتائبه ورتب جنده، وعين للميمنة قائداً وللميسرة كذلك، وثبت هو في القلب، وتزاحف الجمعان واحتدم القتال واستمر يومين فارتدت عساكر الفرنسيين على الأعقاب، وقتل منهم على ما ذكره (روا) في تاريخه جم غفير، فيهم الكمندان أودينو ابن المارشال دوك دي تريجو، وكان قتله سبباً في هذه الهزيمة النكراء. وكان الظمأ والتعب أنهكا الجيش الأمير فتفرقوا، ثم شعروا بأن العدو بات قريباً منهم فرجعوا أفواجاً أفواجاً، وتوجه الأمير في ألف فارس اختارهم من جنده وأردف كل فارس جندياً من المشاة، وخفوا إلى (المقطع)، وسدوا على الجنرال سبيله، وأحاط جيش الأمير بجيش الجنرال وأضرموا عليه نار الحرب، فاضطرب الجيش الفرنسي وقتل كثير منه وأسر عدد كبير وغرق في نهر هبره أكثر، وغنم المسلمون ذخائره، وانسل الجنرال إلى ساحل البحر بمن بقي معه. ثم أرسلت فرنسة المارشال كلوزيل والدوك دورليان ولي عهد ملك فرنسة إلى الجزائر مع الجند والعتاد نجدة وإمداداً لمن هناك ممن عجزوا عن مكافحة الأمير، فكانت الحرب بينهم سجالا في عدة وقائع، ثم تغلب عليه العدو لوفرة عَدده وقوَة عدده، فاستولوا على حاضرة الأمارة. ثم لمَّ الأمير شعثه واستجمع قوته، ونازل عدوه واسترد الحاضرة، ثم ظهر عدوه عليه مرة ثانية وغزا تلمسان، فحصره الأمير وانقض عليه

ويذكر المؤرخ إسكندر بالمار شديد عجبه من استجماع الأمير قوته ورجوعه إلى حاله الأولى بعد أن اضمحلت ثلاث مرات، وكل واحدة منها كافية لسقوط أعظم سلطان راسخ القدم.

وقال تشرشل في تاريخه: بعد أن سرد تاريخ حروب الأمير مع فرنسة: إن هذه الأعمال كبيرة جداً بالنسبة إلى سن الأمير وكان في الخامسة والعشرين مع عدم الاطلاع على أحوال العالم، لكنها صغيرة بالنسبة إلى ذكائه الفريد. ويعجب العاقل متى سمع أن دولة فرنسه احتاجت إلى مائة ألف عسكري تقاتل بها الأمير عدا المساعدات الداخلية والخارجية. . . مع أن الأمير لم تزد قواته على عشرة آلاف مقاتل.

ولما تواطأ العدو مع جيران الأمير على خذلانه، وتوالت النجدات للجيوش الفرنسية التي تقاتله مع فيض من السلاح والذخيرة ضعف أمره، واستولى العدو على المدن والقلاع، فاتخذ الأمير عاصمة كبيرة متنقلة مؤلفة من خيام كثيرة ومضارب وثيرة، وسمى ما يخصه منها (الزمالة) وما يخص الأعيان والعامة (الدائرة) وما يخص الجند (المحلة)، واتخذ جملة مضارب لمصانع السلاح، وأعد فسطاطاً واسعاً لاجتماع المجلس العام، وآخر جعله مسجداً ورتب مضارب للباعة وأهل السوق، تضرب بعيدة عن الزمالة والدائرة. . .

ويقول روا في تاريخه: إن الأمير عبد القادر كان لا يمل من التعب ولا يكل من الحرب ومشقاتها، وكان يشاهد انتصارات فرنسة، ولا يرى نفسه مغلوباً لها. واستمال بحكمته قلوب كثير من القبائل رغبة ورهبة وصاروا في جيوشه. وقال تشرشل: لما رأى الفرنسيون ذلك بادروا بذر الذهب والفضة رشوة لزعماء القبائل، فلم يجدهم ذلك نفعاً. . .

وكان في بضع معاركه يقيم مع كثير من فرسانه في جهات بعيدة عن جيوشه، وينفد زادهم فيضطروا أن يقتاتوا بالبلوط، ثم يعثرون على خروف فيقدمونه إلى الأمير فيؤثر جنوده به مع أنهم في المخمصة سواء. وكان العدو يبذل كل شيء في سبيل نقض الزمالة مقر الأمير وبيت ماله فركبوا الأهوال من أجل ذلك. وبعد معارك عنيفة وبعد أن انتقل بها الأمير إلى أراض قاسية استطاعوا أن يكتسحوها، فحزن الأمير لذلك ولكنه لم يهن بل قال: سبحان الله! كل شيء كنا نحبه وتعلقت أفكارنا به كان يعوق حركاتنا ويحول دون الوصول إلى مطلوبنا، والآن صرنا أحراراً متجردين لا شغل لنا إلا مقارعة الأعداء ومصاولتهم ومن فقدناه من الرجال فهم شهداء في الفردوس ونعيمه، وأما الأموال فسيخلفها الكريم الوهاب، ويجب أن لا نجبن بل نكون أشد ما كنا أملا.

وبعد استيلاء العدو على حاضرة الأمير (معسكر) خطر للأمير مرة أن يدهمها فزحف عليها بجيش قليل من عدده، كبير في شجاعته وإيمانه، فخرج إليه الأمير الاي جيري بجيشه وانضم إليهم الجنرال بيدو والأمير الاي تاميور ومعهما الفرق التي كانت في تلمسان، ولحقت بهم الفرق التي كانت في قسطنتينة، والأمير في قلة من الجيش والذخيرة، فحمى وطيس الحرب بينهم فطوقوا جيش الأمير، فأبلى الأمير ومن معه بلاء حسناً، فأصيب جواد الأمير، فدافع عنه قومه واستشهد بسبب ذلك عدد منهم، وركب الأمير جوداً آخر ونجا مع بعض قومه، وحال الليل بينهم وبين باقي جند الأمير، فأشاع المرجفون أن الأمير استشهد فقالت شقيقته لوجوه القوم: إن فقد شقيقي وذهب فإن كفاحكم ودفاعكم عن الدين والوطن باق في عنقكم إلى الأبد. فأثارت فيهم روح الشجاعة والفتوة.

وكان من عادة الأمير أن يلقى العدو وهو في طليعة الجيش، ومع ذلك فلم يصب في جسمه سوى مرة واحدة؛ فقد مسحت رصاصة طرفاً من أذنه اليمنى، فصلى لذلك ركعتي الشكر لله على ما أصابه في سبيله. وكان بعضهم يظن أنه يتخذ حجباً وتعاويذ تقيه الأذى فأخبرهم أنه لا يعوذ نفسه إلا بما ورد في السنة من الأذكار المشهورة.

ولجأ الأمير في عاقبة أمره إلى حرب العصابات فكان يظهر في اليوم الواحد في غدوته في مكان، وفي عشيته في آخر بعيد عنه كل البعد. قال تشرشل: لقد عجب الفرنسيون من بسالة الأمير عبد القادر وسرعة اختفائه هو ومن معه، وذكرت ذلك في بعض المحافل السياسية مدهوشاً من أمره فشهد له بعض القواد بعجيب البسالة والحماسة والثبات مع السرعة في الحركات الحربية.

وقد أفرد تشرشل الإنكليزي الفصل السادس عشر من تاريخه لذكر حسن معاملة الأمير للأسرى ورحمته بهم والشفقة عليهم، وكان يكافئ من يأتيه بالأسير حياً أكبر مكافأة، وكانت والدة الأمير تعنى بأسيرات النساء عناية تنسيهن ما هن فيه. وجاءه مرة أحد أعوانه بأربع من أسيرات النساء، فحول الأمير وجهه وقال: الأسد يقنص الحيوان القوي، وأما ابن آوى فيقع على الضعيف. وقال فاليوت في تاريخه: كان الأمير عدواً كريم الأخلاق فإن كل من كان أسيراً عنده قد أثنى عليه.

واضطر الأمير في بعض معاركه إلى الأمر بإحضار جملين فشدوا على كل واحد حزمتين من الخلفاء بعد أن لاشوهما بالقطران والزفت، وأمر أن تضرم النار فيهما حين الحمل على العدو، فلما أحسن الجملان بالنار نفرا وذهبا يجوسان خلال خيام العدو، والجيش من ورائهما، فما راع العدو إلا مشاعل النار تجول بين الخيام، ومطر القذائف تنزل عليهم من حيث لا يحتسبون، فلم يسعهم إلا الفرار مخلفين الذخائر والمتاع. ولما اضطر الأمير إلى التسليم بشروط وافق عليها الجنرال لامورسيير، ومنها أن يذهب بأهله وحاشيته إلى بلاد المشرق، خدعته فرنسة وحملته إلى بلادها ولامت الجنرال لامورسيير وأنبته على عدم أسر الأمير بدلاً من قبول تسليمه، فقال الجنرال: لو حاولت أسر الأمير وزحفت عليه لهذا الغرض ما رجعت بغير خيمته وسجادته. وإنه ليذهب إلى الصحراء بحيث لا أستطيع الوصول إليه، لأن عبد القادر ذو صلابة في دينه مشتهر بالصدق والأمانة في وطنه شديد التمسك بمبادئه، وهذا هو السبب الذي جمع القلوب عليه، والظفر الذي أحرزه في حربه معنا هو ثمرة ما قررناه، فلو ترك في بلاده لكان خطراً علينا، وما فعلت أنا غير الصواب، وأرجعوه إذا شئتم إلى موطنه وردوا إليه القوة التي بقيت معه واقبضوا عليه عنوة إن قدرتم، وما قبلت أنا والحاكم العام تسليمه على شروطه إلا حرصاً على راحة فرنسة وجنودها التي أنهكها الحرب، وضنا بأموالها الكثيرة التي تنفق في هذه السبيل.

ثم طلبت فرنسة من الأمير أن يتخذ فرنسة وطناً له على أن تمنحه أملاكاً واسعة تجعله من كبار أغنيائها. فأجابهم بأن الحرية أفضل عند من أموال فرنسة كلها.

ومما نظمه في تلك الأيام قصيدة طويلة، منها في حنينه إلى الأوطان: ومن عجب صبري لكل كريهة ... وحملي لأثقال تجل عن العد

ولست أهاب البيض كلا ولا القنا ... بيوم تصير الهام للبيض كالغمد

ولا هالني زحف الصفوف وصوتها ... بيوم يشيب الطفل فيه مع المرد

وأرجاؤه أضحت ظلاماً وبرقه ... سيوفاً وأصوات المدافع كالرعد

وقد هالني بل قد أفاض مدامعي ... وأضنى فؤادي بل تعدى عن الحد

فراق الذي أهواه كهلا ويافعاً ... وقلبي خلى من سعاد ومن هند

وبعد إقامته في بلاد الشرق سار مرة إلى باريس لبعض الشئون فرار قصر فرساي ودخل إلى مكان فيه صور الوقائع التي جرت بين جنوده وجنود فرنسة وكان النصر فيها لهم، فقال للجنرال المحافظ على القصر: لماذا لم تثبتوا صور الملاحم التي كانت الهزيمة فيها لجيوشكم والديرة عليهم؟ فضحك الجنرال ومن حضر من الأعيان وأيدوا كلام الأمير.

ودعاه إمبراطور فرنسة إلى معسكر شالون ليشهد معه موسم عيده، فكلمه في شئون كثيرة، ثم قال له: إن الإمام الشيخ شامل السجين عند ملك الروس يود الذهاب إلى بلاد الإسلام وقد قاربت سنه السبعين. ولما كنت في الآستانة كلمت سفير روسيا في شأنه، فقال إن الملك وعده بإطلاقه في نهاية الحرب في الداغستان، وقد انتهت، ولكن لابد من انتظار انتهاء هجرة الجراكسة من بلادهم إلى بلاد الدولة العلية. وتحدثت في الآستانة إلى الصدر الأعظم ووزير الخارجية في هذا الشأن فقالا إن الدولة العلية تقبل إقامته في بلادها. وأنا لم أعن بأمر الشيخ شامل إلا لأنه قام بما قمت به، والإنسان يميل بطبعه إلى شبيهه.

طيب الله ذكرى هذا الأمير الباسل، وأجزل له من مثوبة المجاهدين. . .

محمد أسامة عليبة