مجلة الرسالة/العدد 790/مسكويه
مجلة الرسالة/العدد 790/مسكويه
أبو علي الخازن
الأديب، الفيلسوف، المؤرخ، الحكيم، القصصي، توفي (421
هـ) - (1030 م)
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
نشأ في كنف آل بويه، وهم على رأي ابن طباطبا في الفخري من الفرس وليسوا من الديلم، وإنما سموا بالديلم لأنهم سكنوا بلاد الديلم، وهي في الناحية الجنوبية الغربية من بحر قزوين، كثيرة الأشجار والغابات، غزيرة الأمطار، يشتغل أهلها بصيد الأسماك والتحطيب.
وقد سميت هذه العائلة بآل بويه، نسبة إلى بويه جدّ العائلة ومؤسسها، وكان صياد سمك، وكان أحد أبنائه الثلاثة معز الدولة (أبو الحسين أحمد) يقول بعد تملكه البلاد (كنت احتطب الحطب على رأسي).
نشأت هذه العائلة المالكة من هذا الأصل الوضيع، واستولت على الخلافة العباسية، فعزلت الخلفاء وولتهم، واستوزرت الوزراء وصرفتهم، وانقادت لأحكامها أمور بلاد العجم وأمور العراق. وملكوا مائة عام من 323هـ إلى 421هـ حين انقرض ملكهم وهي السنة التي توفى فيها مسكويه، ربيبهمن وخازنهم، ومؤرخهم بل صديقهم الذي عاش في نعمائهم وترعرع في قصورهم فكان نعم الصديق الحكيم المشير.
تتلمذ على الرئيس أبو علي ابن سينا (توفي 428هـ 1036م) ولم يقدر الرئيس مواهبه، وليس هو بأول نابغة يخيب ظن الأساتذة فيه. وقد ذكره الرئيس في بعض كتبه قال (فهذه المسألة حاضرت فيها أبا على بن مسكويه فاستعادها كرات وكان عسر الفهم، فتركته ولم يفهمها على الوجه). هذا معنى ما قاله ابن سينا لأنني كتبت الحكاية من حفظي (كذا يقول ابن القفطي في أخبار الحكماء ص - 127).
أما أبو حيان في كتابه الإمتاع فقد وصفه بقوله (وأما مسكويه ففقير بين أغنياء، وغني بين أنبياء؟) (كذا) لأنه شاذ، وإنما أعطيته في هذه الأيام صفو الشرح لإبساغوج وقاطيغورياس من تصنيف صديقنا في الري (معجم الأدباء لياقوت ج5 - ص5).
واتصل مسكويه بكبار أدباء زمانه ومنهم ابن العميد واتخذه هذا خازناً لكتبه كما ذكره أبو حيان في كتاب الوزيرين، وراسل بديع الزمان الهمذاني وتدرج حتى صار خازناً للملك عضد الدولة بن بويه وكان مأمونا لديه أثيراً عنده وله مناظرات ومحاضرات. . .
على أن مسكويه لم يكن أديباً بارعاً فحسب بل كان مؤرخاً ممتازا فلقد ألف كتابه الشهير (تجارب الأمم) بلغ فيه إلى بعض سنة 372هـ وهو السنة التي مات فيها عضد الدولة بن بويه صاحبه وهو كتاب جميل كبير يشتمل على كل ما ورد في التاريخ مما أوجبته التجربة وتفريط من فرط وحزم من استعمل الحزم.
ولم تقتصر جهوده على الناحيتين الأدبية والتاريخية بل كان (فاضلاً في العلوم الحكمية متميزاً فيها خبيراً في صناعة الطب جيداً في أصولها وفروعها وله من الكتب كتاب الأشربة وكتاب الطبيخ).
ويقول عنه ياقوت في معجم أدبائه (ويظهر أنه كان مشغولا بطلب الكيمياء مفتوناً بكتب أبي زكريا وجابر بن حيان فلم يكن يلتفت لغير ذلك. وقد قطن العامري الري خمس سنين يدرس ويملي ويصنف ويروي، فما أخذ مسكويه عنه كلمة واحدة، ويظهر أنه ندم على ذلك وأنبه أصدقاؤه. ومع هذا فهو ذكي حسن الشعر، نقي اللفظ، ويظهر أنه كان بخيلاً)!.
وقد ترك لنا صاحب الترجمة كتباً قيمة في الأخلاق والتربية والفلسفة منها (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق) و (كتاب تهذيب الأخلاق) في التربية، و (الطهارة في تهذيب الأخلاق) و (الفوز الأصغر) و (لغز قابس) وكتاب (الفوز الأكبر) و (كتاب ترتيب العادات) الخ.
وله وصية أنهاها بهذه التذكرة وهو يدعو للعمل بموجبها، وهو تشتمل على أرقى المثل العليا وأسماها، وتلخص لنا فلسفته في الحياة ومذهبه في السلوك. وهي خمسة عشر باباً:
1 - إيثار الحق على الباطل في الاعتقادات والصدق على الكذب في الأقوال والخير على الشر في الأفعال.
2 - كثرة الجهاد الدائم لأجل الحرب الدائم بين المرء وبين نفسه. . .
3 - والتمسك بالشريعة ولزوم وظائفها، وحفظ المواعيد حتى ينجزها. وأول ذلك ما بيني وبين الله جل وعز.
4 - وقلة الثقة بالناس بترك الاسترسال.
5 - ومحبة الجميل لأنه جميل لا لغير ذلك.
6 - والصمت في أوقات حركات النفس للكلام حتى يستشار فيه العقل.
7 - وحفظ الحال التي تحصل في شئ حتى تصير ملكة ولا تفسد بالاسترسال.
8 - والأقدام على كل ما كان صواباً.
9 - والإشفاق على الزمان الذي هو العمر ليستعمل في المهم دون غيره.
10 - وترك الخوف من الموت والفقر لعمل ما ينبغي.
11 - وترك التواني، وترك الاكتراث لأقوال أهل الشر والحسد لئلا يشتغل بمقابلتهم، وترك الانفعال لهم.
12 - وحسن احتمال الغنى والفقر، والكرامة والهوان بجهة وجهة.
13 - وذكر المرض وقت الصحة، والهم وقت السرور، والرضا عند الغضب، ليقل الطغي والبغي.
14 - وقوة الأمل وحسن الرجاء.
15 - والثقة بالله عز وجل وصرف جميع البال إليه.
هذه الشخصية النابغة، قد تركت لنا آثاراً خالدة في الأدب والتاريخ، والكيمياء والطب والحكمة والأخلاق والفلسفة، تشتمل على ناحية مجهولة لم يشر إليها الكتاب قبل الآن على ما نعلم، تلك هي ناحية القصص.
فقد جاء في أخبار الحكماء لابن القفطي، أن من تصانيف ابن مسكويه كتاب أنس الفريد وهو أحسن كتاب صنف في الحكايات القصار والفوائد اللطاف. ويصف لنا ياقوت في معجم أدبائه هذا الكتاب النادر فيقول (كتاب أنس الفريد، مجموع يتضمن أخباراً وأشعاراً وحكما وأمثالاً غير مبوب).
وقد لفت نظر هذا الكتاب، وخصوصاً وإن ابن القفطي يقول عنه أنه أحسن كتاب صنف في الحكايات القصار، والفوائد اللطاف.
ولما كان هذا النوع من الأدب العربي نادراً أخذت أفتش عن هذا الكنز الضائع في مكتبات فلسطين ومصر، والأستانة وإيران الخ. واستعنت بقناصل تلك الدول وحكوماتها ولكن جهودي المتكررة لم تثمر مع الأسف حتى الآن.
إن الذي يكتشف لنا (كتاب الأنس الفريد) لابن مسكويه الخازن إنما يعثر على كنز ثمين، ويضيف ثروة أدبية قيمة إلى تراث السلف الصالح.
أحمد سامح الخالدي