مجلة الرسالة/العدد 790/الاتجاهات الحديثة في الإسلام:

مجلة الرسالة/العدد 790/الاتجاهات الحديثة في الإسلام:

مجلة الرسالة - العدد 790
الاتجاهات الحديثة في الإسلام:
ملاحظات: بتاريخ: 23 - 08 - 1948



أسس الفكر الإسلامي

للأستاذ هـ. ا. ر. جب أستاذ اللغة العربية بجامعة اكسفورد وعضو

مجمع فؤاد للغة العربية.

إذا أردنا أن نحيط علماً بالتيارات الفكرية الدينية بين المسلمين اليوم، واجهتنا صعوبة عملية. فلم تحدث حركة فكرية من غير أن يكون لها تأثير. وسواء كانت دوافعها كثيرة وقوية أو قليلة وضعيفة؛ فلابد من حدوث صدى لها. ولا يمكننا أن نتتبع الحركات الحديثة في الإسلام بدون أن نرفع القواعد من الأفكار الإسلامية.

وقد يبدو واضحاً أن الأساس المقنع هو الدولة الإسلامية في القرن التاسع عشر. . أو على الأقل الإسلام في القرن الثامن عشر. ولكن هذه موضوعات لا زالت معلوماتنا عنها محدودة. وقد ذهب كتاب الإسلام إلى الاهتمام بالقرون الأولى إبان التقدم العلمي والديني، وظهور حركة الصوفية وإخوان الصفاء. وبعد القرن الثالث عشر أو ما يقرب من ذلك، كان معتقداً أن الإسلام باق على قواعده الثابتة التي خلقها له العلماء والمشرعون والحكماء والروحانيون، فلن يتقدم بل يتأخر. وهذا الرأي يتراءى لنا - من بعض الوجوه - أنه صحيح. والحق أنه صدر عن أحد علماء الإسلام المحدثين. ولكن لم تبق نظم العقيدة والفكر سائدة أكثر من ستة قرون. وإذ تقدمت القواعد الظاهرية للعقيدة الإسلامية في هذه الفترة، فإن التكوين الأصلي لحياة المسلمين الدينية، قد اعتراه التغيير والإصلاح.

وسنمعن النظر فقط في الظواهر الحيوية الخارجية التي ظهرت في الإسلام، مثل تكوين الإمبراطورية العثمانية في الشرق الأدنى، وقيام إمبراطورية المغول في الهند، ونشاط الشيعة في فارس، والتوسع في إندونيسيا وشبه جزيرة الملايو، ونمو المجتمع الإسلامي في الصين، وطرد الأسبان والبرتغال من مراكش، وامتداد نطاق الإسلام في شرقي أفريقيا وغربيتا. وقد اعتبرها قدماء المؤرخين حركات حربية، وإن عقيدة الغزو والتوسع عقيدة حية. ونحن نعرف - أكثر من قبل - الدور الذي لعبته هذه العقيدة.

إن أساس الفكر الإسلامي هو بالطبع: القرآن. وليس القرآن - كالإنجيل مجموعة كتب ذات تواريخ مختلفة وبأيدي متباينة؛ إنه سفر من السور بلغها محمد (ص) في السنو العشرين الأخيرة من حياته تقريباً. فيشتمل على تعاليم دينية وأخلاقية، ومجادلات ضد الكفار، وخلاصات للحوادث السابقة، وقواعد للشؤون الاجتماعية والمسائل الشرعية. وقد أعتقد محمد (ص) أن كل ما جاء به من هذه الأمور كان بوحي من الله، إذ لم يكن مصطبغاً بفكره الخاص. إنه كلام الله نفسه قام بتلقينه الملاك جبريل. وبعد ما قاله الأستاذ دنكن بلاك مكدونلد من اقتراب العالم المجهول من العقل السامي وعن نظرة الشرقيين للنبوة، فإن من الضروري أن أتتبع الأسس النفسية لهذه العقيدة.

إننا قد نحيد عن الصواب إذا اعتبرناها مجرد نظرية (بديهية) متوارثة جيلا بعد جيل منذ ألف وثلاثمائة عام. بل هي على النقيض من ذلك اعتقاد حي طالما تجدد وثبت في عقل المسلم - وخاصة العربي - بدراسته للكتاب المقدس.

لقد عارض المسلمون المتدينون عامة في ترجمة القرآن، حتى إلى اللغات الإسلامية الأخرى.

وهذا الاتجاه تؤيده أدلة نظرية، منطقية في حد ذاتها، ولكن يمكن أن تعارض من اعتبارات مختلفة. ذلك أن القرآن أساساً غير قابل للترجمة، كما هو الحال في الشعر الرصين. إن المتنبئ لا يستطيع أن ينقل نبوءته إلى لغة عادية، يمكنه أن يعبر عن نفسه في صور متكسرة، كما تلعب موسيقى الأصوات دوراً غير محدود في جذب عقل السامع لتلقي الرسالة. مثلاً حالة الترجمات اللاتينية والإنجليزية لكتاب الإغريق والعبريين؛ فقد أعطوا الكلمات الجديدة شيئاً من القوة العاطفية، بدون اعتماد على التركيب - وأحياناً المعنى - الأصلي.

وإن ترجمة إنجليزية للقرآن، ينبغي أن تستخدم تعبيرات دقيقة صحيحة للعبارات الرقيقة الذهبية في اللغة العربية، وفي نواحي القصص والتشريع وما أشبه ذلك، تكون الخسارة أقل خطراً، بالرغم من أن تفكك المعلومات، بل والظلال الجميلة والجوانب البليغة، قد يكون لها تأثير غير محدد. ففي جملة بسيطة مثل (بالتأكيد نحن نحيي ونميت وإلينا الرحيل (المصير):

يستحيل علينا أن نظهر - في الإنجليزية أو أية لغة أخرى - قوة الضمير (نحن) المكرر خمس مرات في الكلمات الست الأصلية.

إننا لن نتطلع إلى معنى القرآن عند العربي، حتى نتبين قيمة الدور الذي تقوم به اللغة في تحديد المواقف السيكولوجية.

فبزوغ الحياة العقلية عند العرب - كما بين الآخرين - قد ازدهر بالخيال، الذي ظهر في الإبداع الفني. ولطالما قيل إنه ليس للعرب فن، وقد يكون هذا صحيحاً إذا حددنا الفن بأعمال كالنحت والطلاء. . . ولكنه يكون تحديداً ظالماً خاطئاً. فالفن هو أي إنتاج يعبر فيه الشعور الجمالي عن نفسه. وهناك شك في حاجة الناس إلى التعبير الفني بأي شكل، سواء في الموسيقى أو الرقص، أو الفنون المادية والنظرية الأخرى. . . وميدان الشعور الجمالي عند العرب هو أساساً الكلمات واللغة، وهذا أكثر إغراء بل أعظم ثباتاً وخطراً من سائر الفنون. إذن فمن السهل أن نفهم السبب في أن العرب - الذين عندهم استخدام الكلام البليغ أسمى الفنون - يرون في القرآن أعجوبة حقيقية وعملاً فوق طاقة البشر.

ولقد كان العرب والمسلمون عامة مجبرين على إنكار الأفكار العالمية مثل (القانون الطبيعي) أو العدل المثالي، وأظهروا الثنائية أو المادية على أنها مؤسسة على طرق مزيفة في التفكير تنتج خيراً قليلاً وشراً كثيراً. وسنرى كيف أن مصلح الإسلام الكبير - في القرن التاسع عشر - جمال الدين الأفغاني، صب جام غضبه على المجددين الهنود الذين حاولوا إثبات صدق الإسلام بمناقشة (تلاؤمه مع الطبيعة). ومع أن العلماء المسلمين قد وجدوا في المنطق والرياضات - مثلاً - فائدة، وشجعوا الأسلوب (العلمي في التفكير؛ إلا أنهم قد أبقوا هذه الأمور في مراتب ثانوية.

والإجماع من مميزات الفكر الإسلامي. وهناك من حاولوا تحديده بإجماع المتعلمين، ولكن حادثاً عجباً في القرن السابع عشر يبين كيف كان هذا النوع لا فائدة منه، حتى ولو آزرته القوة الحاكمة ضد الرأي العام. فعند ما بدأ استعمال القهوة ينتشر في الشرق الأدنى، أجمع العلماء على أن شرب القهوة حرام، وعقوبته مثل عقوبة شرب الخمر. وفعلاً حوكم بعض الأفراد لانغماسهم في شربها علانية! ولكن إرادة المجتمع تغلبت. واليوم يحتسي الجميع القهوة بحرية حتى المتزمتون الذين يعارضون الإجماع في المبدأ.

ومن الواضح أن الإجماع كان دائماً موضع خلاف بين المحافظين والمجددين، وهو ليس مبدأ حرية بل أساساً للسلطة، ولو أن حكمه يقتصر على المسائل التي لم يحكم فيها القرآن أو السنة، لذلك ولأنه قوة تسمح بما يسمى تجديداً، فإن العلماء الروحانيين على مر العصور - من القرن الثالث إلى الوهابيين اليوم يعارضون فيما يترتب عليه، ويقصرون شرعيته على الجيل الأول من المسلمين. هذا في حين أن المجددين على الدوام قد اعتمدوا عليه في توسيع مدى عدالة أعمالهم.

والاجتهاد عكس الإجماع. وقد أطلق عليه إقبال (مبدأ الحركة في الإسلام) ولابد من معرفة معنى الاجتهاد والدور الذي لعبه في تاريخ الفكر الإسلامي. وهو - كما يعتقد بعض المجددين حرية الحكم. ومن الناحية الأدبية يعني الاجتهاد: إجهاد النفس في محاولة الكشف عن الأغراض الحقيقية لتعاليم القرآن والسنة. وقد عمل المتدينون على تحديد موضوعه خوفاً من أن يفتح باب المعارضة الفردية والانقسام. وأخيراً لم تبق ثغرة في هذه المسائل لم تسد، فأقفل باب الاجتهاد تماماً.

ومهما يكن من شيء فإنها ظاهرة خطيرة للسنة الإسلامية في قبولها للاختلافات الواقعة في الرأي في المجتمع - ولطالما فخرت بهذا - وأحسن مثل هو المذاهب الأربعة في الشرع: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، أسسها الأئمة الأربعة في القرنين الثاني والثالث، وهم جميعاً من السنيين. فهذه المذاهب - مثلا - تدرس في جامعة الأزهر الدينية. حقاً إن الاختلافات بينها تنحصر في نقط ضيقة في الشرع والشعائر، بالرغم من أن الحنابلة - بعدائهم المستحكم لكل المجددين - يعارضون الإجماع من الناحية الدينية - في كل شيء إلا مدلوله الضيق، وأحياناً يظهرون عدم رضائهم عن الآراء الأخرى.

يتبع

ترجمة محمد محمد علي