مجلة الرسالة/العدد 790/ما أشبه الليلة بالبارحة؟
مجلة الرسالة/العدد 790/ما أشبه الليلة بالبارحة؟
مكر يهود
للأستاذ عمر الخطيب
(إن في الغار الذي يكال رؤوس العرب، وإن في الغار الذي
يجلل رؤوس اليهود، لمادة ثرة للخيال المبدع، ومداداً فياضاً
للقلم الخالق)
(الأستاذ الزيات)
على البطاح المطلة على (يثرب)، وبين تلك الشعاب البيض التي تعج بالرمال، وتنام في أحضان الجبال، تسكن قبيلتان جمعت بينهما وشائج القربى وأواصر النسب، وفرقت بينهما شريعة الصحراء، والجهالة الجهلاء، هما (الأوس والخزرج) اللتان استفحل العداء بينهما، وأكل قلوب زعمائهما وأودى بهما إلى حروب طاحنة ومعارك دامية، أرّثت بينهما نوازع الشر، والتهمت الشباب الغض، حتى أصبحوا لا يفترقون من وقعة حتى تجمع بينهما أخرى، وما يجف الدم من معركة حتى يسيل ثانية ويفور:
إذا افترقوا من وقعة جمعتهم ... دماء لأخرى ما يطل تجيعها
وآخر ما تمخضت عنه هذه الأحداث النكراء، والتراث الدكناء حرب كبرى لم يشهد العرب لها مثيلاً، أورت الجزيرة بزناد الفتنة، وشطرت العرب أشطاراً متناحرة، وجعلتهم أحزاباً متنافرة، تلك هي حرب (بُعاث) التي تجندل في حومتها الفرسان وسارت بحديثها الركبان، والتي كان للشعراء فيها معارك أخرى ليست الألسنة فيها بأقل إيلاماً من السيوف، ولا القصائد بأدنى تأثيراً من السهام؛ وإذا كان السيف المهنّد يطيح بالرأس، والسهم المرّيش يزهق النفس، فإن اللسان العضب يخدش العرض الكريم بالمذمة، والقريض القوي يطعن الأنف الحمى بالمهانة. . .
ولما أن ظهر في الجزيرة (محمد) ﷺ يحمل رسالة الله وشرعة الحق، ويدعو العرب إلى دين الإخاء والمساواة، ومبدأ العدالة والنور، استشار العربُ أحبار اليهود في أمر هذا النبي الجديد وقالوا لهم: (يا معشر يهود! إنكم أهل الكتاب الأول، وأهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، افديننا خير أم دينه؟ قالت اليهود: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه). فخالفوا بذلك شريعة التوحيد، وناقضوا تعاليم التوراة.
بيد أنه لم يمض غير قليل حتى اشتد أزر هذا الدين، وقوى ساعد هذه الدعوة، والتف العرب حولها، واستبسلوا في سبيلها، إذ كانت حمامة السلام بين القبائل المتلاحمة، والأحزاب المتخاصمة طمست من بينهم معالم الشر، وأطفأت نار الحرب، وجعلت من هؤلاء الأعراب الجفاة خير عون وأقوى نصير، وإذا بالأوس والخزرج تتآخيان بعد التلاحي، وتتصافيان بعد التجافي، وتسيران معاً في ركاب هذا الدين الجديد، تحت قيادة الرسول العظيم. . .
ولما هاجر إلى المدينة كانوا (أنصاره) الصادقين، وأصحابه المخلصين، آمنوا به وآزروه، وعاهدوه على أن ينصروه، وأن يمنعوه مما يمنعون من أبناءهم وأنفسهم، واستقبلوا إخوانهم المهاجرين أحسن استقبال، وأنزلوهم خير منزل حتى ليقول عبد الرحمن بن عوف في حديث له: (آخى رسول الله ﷺ بين المهاجرين والأنصار، وآخى بيني وبين سعد بن الربيع فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالاً، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتيَّ هويت، نزلتُ لك عنها، فإذا حلًّت تزوجتها. . .).
وهكذا تكوَّن من هؤلاء جيش الإسلام الأول وفرسانه الكماة وأبطاله المغاوير الذين بذلوا في سبيله أموالهم وأرخصوا أرواحهم، حتى أعزه الله، وساد الجزيرة، وعم صداه أرجاء المعمورة. . .
شهد (يهود) هذا التحالف القوي والإخاء المتين، وأوجسوا شراً من هذا الدين، وأجمعوا على الكيد بمحمد، والمكر بأصحابه لأنهم علموا أن هذا الدين - لا محالة - سيعلو، وإن هذا الرسول سيقوى، وإن القوة ستحمي ذمار الحق حتى ينتصر ويسود، ولما أنهم (أهل الكتاب) يعلمون صدق الرسول في دعواه، يئسوا من القضاء على دعوته، وأنفقوا على المكر به وبصحابته، واليهود أبطال الكيد في الخفاء، وأهل الخيانة والمكر، لا تعجزهم الحيل، ولا يتورعون عن الغدر!.
أما من حيث مكرهم برسول الله، فقد حرَّضوا (لبيد بن الأعصم) الذي أشتهر بعداوته للرسول وشدة البغض له فسحره، بيد أن جبريل أخبره بذلك السحر وبمكانه، ورد الله كيد الخائنين، وعفا رسول الله عن لبيد وقال: (أما أنا فقد عافاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شراً) (يعني بقتله).
وأرادوا بعد ذلك أن يمكروا بأصحاب الرسول ويفرِّقوا جمعهم، حتى ينفّضوا عن (محمد) ويعتزلوا دينه، فيبقى وحده في الميدان دون نصير يمنعه ويؤيده، بعد أن كذّبته (قريش)، واشتدت في إيذائه، وأجمعت على قتله، وتفريق دمه بين القبائل، فلبثوا يرتقبون الفرص، ويحيكون الدسائس. . .
خرج (شاس بن قيس)، وهو من أحبار اليهود وزبانيتهم يجوب في أطراف يثرب يوماً وحوله بعض أعوانه، وقد بيَّت في نفسه شراً، بعد أن ضاقت به الحيل، وتقطعت به أسباب المكر، فألفى (الأنصار) مجتمعين، وقد رفرف فوقهم طائر اليمن والخير مستبشرة نفوسهم، متهللة أساريرهم، ترقص قلوبهم طرباً بهذا (الإسلام) الذي جمع بينهم، ووحد صفوفهم، وأزال من بينهم الضغائن والإحن وأبدلهم بها حباً وأخاء، وألف بين قلوبهم برابطة الإيمان، فأصبحوا بنعمته إخواناً. . .
شهد هذا اليهودي الماكر، هذا المجلس الهادئ، فغاظه صلاح ذات بينهم، وقال: (قد اجتمع بنو قيلة والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار). وأزمع على أن يعكر صفوهم، ويوقع بينهم فرجع بذهنه إلى يوم (بُعاث)، وما كان فيه بينهم من هجاء وعداء، فوجد فيه مجالا للاستغلال، وموطناً لإثارة الأحقاد الدفينة، وأيقن أنه يستطيع أن يفيض مجلسهم، ويحرك أنفسهم، حتى تعود الخصومة بينهم أشد مما كانت، فتفل عزائمهم، وتحل روابطهم. . . ويرجعوا أقواماً متلاحين، وقبائل متخاصمين، ويتفرقوا عن (محمد)، ويتخلوا عن تأييد رسالته، وهذا ما تتقطع دونه أعناق يهود، وينفقون في سبيله أعز ما لديهم. . .
التفت هذا الغادر إلى واحد من أعوانه فوسوس إليه: أن يعمد إلى مجلس (الأنصار) فيجلس معهم ثم يذكر يوم (بُعاث) وينشدهم قصائد شعرائهم، ويعمل على المكر بهم، والقضاء على ألفتهم. . .
لم يدر (الأنصار) كيف تسلل إليهم هذا اليهودي الخبيث ولم ينتبهوا لمهمته، ولم يتيقظوا لمكيدته، فوقف بينهم يذكر يوم (بعاث)، وينشدهم ما كانوا يتقاولون به من أشعار، ويؤلَّب الأوس على الخزرج، حتى وقعت الواقعة، فذكر القوم ذلك اليوم، وتنازعوا وتفاخروا، وأنشد كل أقوال شاعرهم، ونادى هؤلاء: يا آل الأوس! ونادى هؤلاء: يا آل الخزرج! ولم ينصرف اللعين إلا بعد أن احمرت الإحداق، واحتدم الغيظ، وثارت الأحقاد، وتطايرت الدماء إلى الرؤوس، وافترقوا وقد تواعدوا على القتال. . .
سمع رسول الله بما أصاب الأنصار، فخرج إليهم فيمن كان معه من المهاجرين وفي وجهه الغضب، ووقف بينهم يرمقهم بنظرات أرجعتهم إلى صوابهم، وأعادت إليهم رشدهم، ثم تطلع إليهم بعينين دامعتين وقال - وقد ملك عليهم ألبابهم، وتمكن من شغاف قلوبهم -: (يا معشر المسلمين! الله الله! اتقوا الله! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم! بعد أن هداكم الله إلى الإسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم). . . ولم ينته ﷺ من كلامه حتى عرف القوم أنها نزعة شيطانية، ومكيدة يهودية، فتعانقوا وتمتعت ألسنتهم بكلمات الأخوة الحق، والتوبة الصادقة، وانتثرت من محاجرهم دموع الندامة، وانصرفوا مع رسول الله ﷺ، وقد عاهدوه على الإخلاص لهذا الدين، والاعتصام بحبل الله المتين. . . وإذا بوحي الله ينزل على الرسول بهذه الآيات:
(يا أيها الذين آمنوا، إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين، وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله، ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)
(دمشق - المزة)
عمر الخطيب
(فتى الفيحاء)