مجلة الرسالة/العدد 790/يهوه على الأرض

مجلة الرسالة/العدد 790/يهوه على الأرض

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 08 - 1948


للأستاذ نقولا الحداد

جاءنا برنادوت المجيء الثاني بأوامر ما أنزل الله بها من سلطان، ولكنه هو أنزل أو يريد أن ينزل سلطاناً. جاءنا بأمر هدنة لا نهاية لها. والعادة أن الهدنة يقترحها أحد المتحاربين ويقبلها الآخر لأن كلا من الفريقين يحتاج إليها لغرض واحد كأن يتفقا على دفن قتلاهما. ولكن هذه الهدنة فرضها برنادوت فرضاً لأجل غير مسمى بلا لزوم. . . بسلطان مَن فرضها؟ - بسلطان مجلس الأمن. . . يحتاج إليها اليهود ولا يريدها العرب؛ ولكن مجلس الأمن أمر، وأمره الأمر لماذا! لعل هذا المجلس هو الله على الأرض؟. . . ونحن لا نعرف إلهاً على الأرض إلا ما نسمع اليهود ينادونه حيناً بعد حين: (يا إله اليهود) كذا يدعون ويتوسلون ويصلون. . فمن هو إله اليهود هذا؟ هل هو غير إله المسلمين والمسيحيين؟ - يظهر أنه إله آخر غير إله العالم كله. بحثنا عنه في توراتهم فإذا هو الجنرال يهوه رب الجنود. انظر سفر الخروج3: 6 ومعناه (سيصير) أي أنه سرمدي. واسمه أيضاً أهيه الذي أهيه ومعناه (يكون) خروج 14: 3 ونصوص التوراة تصور لنا يهوه إنساناً عظيما يخاطب البشر ويأمر موسى ويوشع أوامر لا تطابق التعاليم الدينية الصالحة كسفك الدم والنهب. ويغضب وينتقم، إلى غير ذلك من أخلاق البشر. والله منزه عن كل هذه الصفات.

فهل نزل إلههم إلى الأرض لكي يصدر أوامر كما كان يصدر أوامر إلى يشوع حين جعل يغزو أرض كنعان بسفك دم ونهب وتقتيل كبار وصغار ورجال ونساء؟

إذا كانت هذه الهدنة أبدية فالمعنى أن الحرب انتهت. على أي اتفاق انتهت؟

هل يريد مجلس الأمن أن يفرض معاهدة خاصة على اتفاق خاص فرضاً؟ العادة أن الاتفاق يتم برضى الفريقين وإلا فلا اتفاق وإذن فلا هدنة، وإذن يكون إرغام أحد الفريقين على المهادنة دون الآخر هو بأمر يهوه. وقد قال برنادوت أمس في صراحة بهذا الصدد (أنه سيبلغ مجلس الأمن عن الفريق الذي ينقض الهدنة والمجلس يقرر العقوبة. ولكن ليس معنى هذا أن الفريق الآخر يجوز له أن ينقضها بل يجب عليه يحافظ عليها) ومعنى هذا الكلام اللغو: أنه إذا هجم اليهود بألفي جندي على القدس القديمة يجب أن تبقى الحامية العربية التي فيها مكتوفة الأيدي تتلقى رصاص اليهود بصدورها.

وما على برنادوت إلا أن يبلغ الخير إلى مجلس الأمن وينتظر الجواب!

هذه هي شريعة يهوه جنرال اليهود الذي نزل إلى الأرض في هذه الأيام!

طلب السير ألكسندر كادوجان إلى مجلس الأمن أن يرسل 100 ألف جنيه للاجئين العرب فرفض المجلس هذا الطلب!

ألو كان شرتوك هو الذي طلب هذا الطلب فهل كان مجلس الأمن يرفض؟ من كلف كادوجان أن يطلب إعانة للاجئي العرب؟ ومن قال له أن العرب يقبلون إحساناً من أية أمة؟ في حين أن قسماً كبيراً من مالية هيئة الأمم هو من الدول العربية. والدول العربية كلها قررت أن تفرض ضريبة خاصة لإعانة المنكوبين. ولكن هي إنجلترا كالثعلب تتظاهر أحياناً بالعطف على العرب في حين أنها تغدر بهم في الخلفاء.

إن المائة ألف التي اقترحها كادوجان لا تكفي إلا أربعمائة ألف لاجئ أسبوعين. والملك عبد الله ينفق كل يوم 2200 جنيه ثمن خبز للاجئين عنده.

جاء برنادوت بمهمة وضع مشروع لفلسطين يقبله العرب واليهود. وقد جرب حظه في الهدنة السابقة فخاب سعيه؛ لأن المشروع عقيم، وبرنادوت لا يستطيع أن يخصب العقيم. وهو يعلم شرط العرب الذي لا يقبل الجدل بتاتاً، وهو عروبة فلسطين التامة. فلماذا يضيع وقته ووقتنا في طلب المستحيل. إذن ستبقى الهدنة إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين. فما معنى هذه الهدنة الأبدية وما الغرض منها؟ أيريد سمو الكونت برنادوت أن يصيف ويشتي، ويصيف ويشتي، في رودس إلى ما شاء الله على حساب هيئة الأمم؟ ما أسخف منه إلا المجلس الذي انتدبه. لو كان شرف المحتد كما يقال وله شيء من كرامة النفس لما قبل هذه المهمة غير الشريفة.

جعل برنادوت مسألة اللاجئين العرب في مقدمة مساعيه. يريد على زعمه رجوع العرب الفارين من وحشية اليهود وتفظيعهم على الرغم من أن اليهود يرفضون رجوعهم بل يريدون أن يؤتى بيهود من الخارج يحلون محل العرب المهاجرين.

على أي أساس يقترح برنادوت رجوع المهاجرين العرب؟ هل يضمن أن اليهود لا يعيدون تمثيل دور دير يس الفظيع؟ أم هل يسمح بأن يتسلح العرب الراجعون تسليحاً كاملا ضخماً لكي يدرءوا عنهم شر أولئك الوحوش الطغاة؟

أم يقول إنه يأخذ على اليهود عهداً بأن يكونوا قدسيين إنسانيين. وإذا كنا لا نصدق عهود كبريات الدول فهل نصدق عهود أبنائها اليهود المدللين؟

ثم يقترح برنادوت أن يغاث العرب اللاجئين مدة تشردهم عن بلادهم إلى أن يعودوا إلى بلادهم. وهناك ماذا يكون؟ هل يتقدم أصحابه اليهود لإطعامهم وإيوائهم بعد أن هدموا منازلهم ونهبوا بيوتهم وساقوا إنعامهم ولم يبق لهم لا مأوى ولا طعام حتى ولا زرع يستغلونه، لأن اليهود أحرقوا الزرع واستغلوا ما استغلوا منه.

هل فكر الفيلسوف برنادوت حلال المشاكل في كل هذا قبل أن يرحل إلى بلاده لكي يحضر مؤتمر الصليب الأحمر؟ أم أن المنكوبين يصومون نياماً تحت الشجر إلى أن يعود بالسلامة؟

يقول إنه سيعود إلى بلاده بكي يحضر مؤتمر الصليب الأحمر، وبعد ذلك يعود لكي يبسط مشروعه بشأن فلسطين ويهتم بالعقدة العربية الصهيونية. يعني ما دامت الهدنة أبدية فلا بأس أن يؤجل ويسوف ولا يهمه أن يقلق الناس في الشرق العربي على المصير. إذن لا يستطيع أن يفعل شيئاً الآن ونحن نعلم أنه لا يستطيع. فعليه إذن أن ينفض يده من هذه المهمة العقيمة والعرب وحدهم يمكنهم حل هذه المشكلة. فلماذا يتعب نفسه فيما لا طائل تحته؟ لسنا نصبر إلى أن يقوم في (كيف) برنادوت أن يقضي أمراً أو يقول كلمة. ونحن عندنا مشردون معذبون يجب أن يعودوا إلى بلادهم مطمئنين لا أن يحتلها قوم جاءوا من آخر الدنيا غزاة طغاة. وعندنا جيوش واقفة في الميادين معطلة عن العمل. فإذا لم يستطع برنادوت أن يأتي بحل للعقدة لكي ينفرط عقد هذه الجيوش وتعود إلى مواطنها، فلا أقل من أن تنزل الجيوش للميدان وتحل العقدة بسيف الاسكندر. دعنا نحن نحل العقدة، فنحلها بسهولة.

لا نسمح أن تحل العقدة بأن يرخي برنادوت العنان قليلا لليهود لكي يتقدموا خطوة، ثم يشد العنان للعرب لكي يتأخروا خطوة. هذه أسلوب ماكر خبيث لا يسمح به العرب. كفى ضحكا سخيفا على الذقون.

والآن نوجه العتاب إلى الجامعة العربية الموقرة: أن العالم العربي كله يضج بسبب طول أناة الجامعة ومراعاتها إحساس بعض الدول الكبرى وخاطر مجلس الأمن، وقد علمنا أن مجلس الأمن كهيئة الأمم مؤتمر للصوفية. وفهمنا أن الإنجليز الذين يتظاهرون بالعطف على العرب أحياناً وبالعطف على اليهود أخرى هم أروغ من ثعلب. فحتى متى تصبر الجامعة على هذا المكر الدولي؟

اليهود ينقضون الهدنة كل يوم، فهذا يسوغ لنا أن ننقضها أيضاً وأن توعز الجامعة إلى الجيوش العربية أن تنقض على اليهود في فلسطين في وقت واحد، وتقذف بهم إلى بحر تل أبيب، فتخلص البلاد من شرهم وتحرر إخواننا العرب الذين وقعوا بين براثنهم في يافا وحيفا وعكا.

كفى يا سادة صبراً وأملا بالسراب! إن كنتم تحسبون حساباً لمساعدة الدول عليها من أن ندع السرطان الإسرائيلي يتغلغل في بلادنا ويقضي على حريتنا قضاء مبرماً. الانهزام في حرب دولية ولا الاستخذاء للصهيونية. . .

نقولا الحداد