مجلة الرسالة/العدد 798/من صميم القلب:

مجلة الرسالة/العدد 798/من صميم القلب:

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 10 - 1948



لك الله أيها العربي!. . .

للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

لك الله أيها العربي! كم ثارت في وجهك الشدائد فصمدت لها في بطولة، واعتراضت طريقك العقبات فذللتها برجولة! وكم أتى الدهر بنيانك من القواعد فاستأنفت البناء، وداهمت حياتك النائبات فصبرت على القضاء!

لك الله ما أفقر دنياك وأغنى قناعتك، وما أقسى عيشك وأسمى غايتك، وما أبخل زمانك واسخي راحتك!

أنت للفقر تدافعه، وللبؤس تصارعه!

أنت للضعف تغالبه، وللذل تحاره!

أنت للعدو تجاهده، وللدهر تعانده!

أنت لوزرائك تدينهم على التكاسل، ولزعمائك تحاسبهم على التخاذل، ولعلمائك تشكو ما هم فيه من تجاهل!

أنت لأغنيائك تألم من بخلهم، ولفقرائك تبكي على ذلهم، ولنفسك تتوجع على ماأصابهم من حرمان، وما تجرعت من كؤوس الهوان!

بل أنت للمصائب كلها، وللخطوب جمعها. . . فما أعظم ما تلقاه، وما أقل حظك في الحياة!

كأني بفتن الدنيا تبحث عن محتمل لها فلا تظاهر إلا عليك، وبمحن الزمان تنشد صابرا عليها فلا تداعي إلا إليك، فإذا عسف القوى يلقى الأشواك في دربك، وإذا ضعف الموروث يدفن الاستغاثة في قلبك!

فلك الله من شاك كظيم لا يجد سميعاً!

ولك الله من مجاهد عظيم لا يلقى تشجيعاً!

أين رجالك الذين وعدوك الكرامة فأذلوك، وزعماؤك الذين لبسوا مسوح الرهبان فأضلوك، وأغنياؤك الذين شربوا دمك ثم استأكلوك، وعلماؤك الذين اتخذوا آلهتهم هواهم ثم أهملوك؟

أين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم ليقاتلن صفا كالبنيان المرصوص أو يحرروا فلسطين ولينهض نهضة واحدة للغاصبين الغادرين، وليعاقبن بالطرد أنذال الشعوب، جرائم الفساد، لصوص العالمين؟

أين الذين أشعلوا بنارهم حماستنا ثم أطفئوها بمائهم، وفتحوا بهتافهم عيوننا ثم أطبقوا برقادهم، وما زالوا يعالجوننا بالعاطفة ونحن إلى العقل أحوج، ويأخذوننا بالارتجال ونحن نروم النظام، ويرقدوننا بالمسكنات ونحن نلتمس الشفاه!

إن هؤلاء سواء عليهم أدللتهم أم لم تدلهم لا يكترثون، وسواء عليهم أذكرتهم بتقصير أم لم تذكرهم لا يأبهون، وسواء عليهم أصرحت لهم أم عرضت بهم لا يبالون.

ولو أنك أكثرت الصراخ المختنق، ومزقت الصدر الحرج، وقطعت الحنجرة المكروبة، وأطلقت الحشرجة المكبوتة، فلن تسمع منهم إلا ألسنة بليلة، وأصواتا ندية، ربما أرضت البيان الرفيق، ولكنها لا ترضى الحق الصريح!

ولكن. . . هون على نفسك، فلا تريض باليأس قلبك، ولا تعصر بالقنوط فؤادك، بل اصرخ أيها العربي في النفوس الراقدة علها تفيق، وفي الأروح الهامدة علها تتحرك، وفي الضمائر الميتة علها تحيا، وفي المشاعر الساكتة علها تنطق، فقد اقتربت النار وقضى الأمر، وقد داهمك اللصوص بالخيانة والغدر، وقد سرقوا متاعك بالخداع وبالمكر. على أنك إذا وثبت وثبك، وأطعت قلبك، أطفأت النار قبل أن تلتهم الديار، ولحقت باللصوص الجبناء قبل أن يولوا الأدبار، واسترجعت متاعك قبل أن يتواروا عن الأبصار!

وإنى لأحذرك أيها العربي قوما كالثعالب، أنت تعرفهم بلحنهم الكاذب، فقد لدغت من جحرهم مرات (والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين) ولقيت من مكرهم وبلات، والمكر لا يخفى على ذي عنين. . .

حذار من أولئك الثعالب لا تبذل لهم مقادتك، فإنهم لا أيمان لهم، ولا عهود عندهم، ول مواثيق لديهم (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون. الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون).

فثق بنفسك، وتوكل على ربك، واستعنبإخوانك العرب في مصر التي تعلم سهولها الكرامة، وفي سوريا التي تلقى بطاحها دروس الشهامة، وفي لبنان الذي تعود جباله الشم على الصبر، وفي الحجاز الذي يهدى صعيده الطيب إلى الطهر، وفي العراق التي تلهم واحاتهم الشجاعة، وفي الأردن الذي توحي وديانه البسالة، وفي اليمن التي تحبب رياضها بالإيمان، وفي الجزائر التي تزين رمالها الكفاح، وفي كل قطر عربي لا ينام عن حقه، ولا يفقد ثقته بنفسه، ولا يزيد - إذا ما بهرته الشدائد، وعصفت به الأهوال - على أن يهتف بملء صوته، ومن أعماق قلبه، هتاف فخر العرب وسيد الخلق محمد بن عبد الله صلوات الله عليه يوم قال لعمه أبي طالب: (والله يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).

فلتأس جراحك بهذه الكلمة النبوية الطاهرة فإنها خير بلسم؛ ولتمسح بها الدموع عن وجنتيك ولا تضرب بكفك ولا تلطم. ثم إذا بقى الدهر وظل العدو يجالدك، فلك الله أيها العربي وهو خير الناصرين.

(طرابلس الشام)

صبحي إبراهيم الصالح