مجلة الرسالة/العدد 798/الاتجاهات الحديثة في الإسلام:
مجلة الرسالة/العدد 798/الاتجاهات الحديثة في الإسلام:
3 - الاتجاهات الحديثة في الإسلام:
القانون والمجتمع
للأستاذ هـ. ا. ر. رجب
. . . كانت هناك من الجهة الأخرى حق واحد - كان التشريع الاجتماعي في الإسلام حازما فيه، ومشدداً، هو حق العلاقات الشخصية التي تشتمل على الزواج والطلاق والإرث. وليس السبب في هذا الحزم أن هذه العلاقات عامة يمتد تأثيرها إلى كل فرد في المجتمع فقط، بل أيضا لأن تنظيماتها الأساسية واضحة في القرآن. وليس هناك - كما رأينا - مسلمون - إلا قليلا - يرغبون في الجدل في أن القرآن هو الكلام الحقيقي لله. ولئن كانت الثغرة التي بين الاعتقاد في ضرورة التغير، وبين التغيير الحقيقي في القانون، لا يمكن وصلها بسهولة وسرعة في أي نظام، فإنها ستتأثر قطعا بالثورة؛ كما قد حدث في تركيا. ولذلك نجد في كل دولة إسلامية - ما خلا تركيا - أن القانون الفردي للمسلمين لا تنفذه المحاكم الأهلية، وإنما تنفذه المحاكم الدينية أو الشرعية. بل كان لكل طائفة من الطوائف الدينية المختلفة محاكم تنفذ قوانينهم، طبقا لنظمهم المرعية في تقاليدهم الدينية.
وفي الحق أن ميدان العلاقات الشخصية هذا، هو الوحيد الذي طالب المجددون فيه بالإصلاح، وقد بلغ الخلاف أشده بين الأحرار والمحافظين. فليس من شك في أن الوعي الاجتماعي عند الطبقات المثقفة قد أيقظته المساوئ التي صبحت انتشار الطلاق وتعدد الزوجات، فهم قد تنبهوا إلى نتائج قانون الميراث في القرآن وقانون الأوقاف والصدقات. . . .
ويصف القرآن في تفصيل دقيق، الأنصبة والنسب التي توزعبمقتضاه التركة بين الورثة والمستحقين فأعطى لمن يرث من النساء بوجه عام - نصف ما يخص زملاءهن من الورثة المذكور. وليس من الصعب أن نلمس مدى عدالة هذه القاعدة، عندما تطبق على الملكية المنقولة (آلت يكانت الشكل البدائي للملكية في بلاد العرب) بيد أنه حينما تطبق على الملكية الزراعية، أو رأس المال في الصناعة، تكون النتائج وخيمة من الناحية الاقتصادية. فأوقاف الأسر المعوزة وهباتها كانت سببا في التدهور الأخلاقي والخسارة الاقتصادية. لزمن مضى كانت هناك حركة جامحة في مصر وبعض الأقطار الأخرى لوضع حد لها.
ومن السهل أن نفهم المصلح المسلم الملخص ونواسيه في المأزق والذي قد يجد نفسه واقعا فيه؛ فليس هو معاديا لمجرد سلطان التراث الاجتماعي الذي مضى عليه اكثر من ألف عام من الحكم المطلق، بل هو معاد كذلك للمعارضة الطبيعية للرجل العادي، في التنازل عما يتمتع به من امتيازات. ثم إن عليه - بعد ذلك - أن يواجه الحقيقة، وهي ا، هذه التقاليد والعادات الاجتماعية في حاجة إلى أن تغذيها نصوص واضحة مباشرة من القرآن. وهذه الصعوبة ليس لها نفس الأهمية عند غير المتدين، على الرغم من أن المدنيين من غير رجال الدين يلقون نصبا في منعهم الجدل الديني، لدرجة أن الإنسان لا يستطيع أن يتأكد دائما من أن كتابا أو مقالة عن (المسألة النسائية) في الإسلام، هي من وضع عالم دنيوي أو مصلح حديث!
وليس من شك في أن الأمثلة على الجدل الدنيوي يمكن أن نجدها في الأدب التركي الحديث، وفي الأدب الهندي ايضا؛ ولكن لاشك في مدى ما تظهره هذه الأمثلة من رأي إسلامي عام - إلا في تركيا. وإنه لعلي جانب كبير من الأهمية هنا أن ننظر في بعض السبل التي اتبعها المصلحون المسلمون لمواجهة المشكلات.
ففي قصيدة من أشهر القصائد التي نقلها إقبال نادي الشاعر الاجتماعي بالمساواة الشرعية للنساء:
هناك المرأة؛ أمي، وأختي، وابنتي.
إنها هي التي تناجي العواطف المقدسة من أعماق نفسي.
هنالك محبوبتي؛ شمسي وقمري ونجمي.
إنها هي التي تعلمني كيف أفهم شعر الحياة!
كيف استطاع القانون السماوي أن يحط من قدر هذه المخلوقات الجميلة؟
لعمري إن المتعلمين قد أخطئوا في تفسير القرآن:
أساس الأمة والدولة هو الأسرة.
وما دامت المرأة من غير اعتبار تبقى حياة الأمة ناقصة غير كاملة.
إن الأسرة يجب أن ترعاها العدالة.
لذلك كانت المساواة ضرورية في ثلاثة؛ في الطلاق والانفصال وفي الوراثة!
وربع الرجل في الزواج، فما أبعد الأسرة والأمة عن الرقى والعلا. . .!
على أن زيا جوك ألب لم يقنع باحتجاجاته الشعرية، فقد أخذ على عاتقه - كاجتماعي - أن يستنبط مبادئ تفسير القانون، من جديد. ولهذا الغرض نجده قد ميز بين العوامل (الآلهية) والعوامل (الاجتماعية) في الشريعة، فالعوامل (الاجتماعية) في رأيه، لم تكن مؤسسة على نصوص واضحة، بل كان أساسها (العرف). وهذه الكلمة - التي تعني القانون التقليدي في عرف العلماء - عرفها هو بأنها (القرارات القيمة للناس بأية وسيلة يطالببها (الرأي الجمعي) أو (الشعور الوطني) وعلى كل حال فمن الواضح أن هذه المحاولة لبسط الاختلافات ذاتية خالصة، وأن وضع القانون التقليدي على قدم المساواة مع القانون السائر - ولو اعتبر خلاصة للتجارب التاريخية - يتعاض مع أسس الفكر الإسلامي.
ولست أعرف في أية كتابات للمجددين العرب الذين نقلت عنهم، أسلوبا مشابها لهذا في المناقشة.
ولقد ألح ممثلوا الحركة النسائية العربية القديمة، في القضاء على نواحي الضعف الاجتماعي - أكثر من القانونية، وكان الشاعر العراقي: جميل صدقي الزهادي، أحد الأبطال الأوائل الذين نقدوا عزلة النساء الاجتماعية، وصرحوا مرارا وتكرارا بميوا أعظم نبلا نحوهن قال ما ترجمته:
إن المرأة والرجل سواسية في الجدارة.
فعلموا المرأة، لأن المرأة عنوان الحضارة!
وأعظم القصائد انتشارا قصيدته: (السفور):
اخلعي الحجاب يا ابنة العرب! لأن الحجاب داء يفتك بالمجتمع. كل شئ يسمو إلى التجديد، فلماذا تظل هذه الأعجوبة جامدة! لم يناد نبي بالحجاب بشكله هذا، لا، ولا فاهت به أية حكمة!
إنه جدير باللوم في نظر القانون السماوي والطبيعة، والذوق والعقل والضمير!
لقد ادعوا أن في الحجاب وقاية، بل كذبوا لأنه في الحق يجلب العار!
لقد أدعو ان في التبرج مخل بالآداب، بل كذبوا لأنه أفضل طهر ووقار! ليس الحجاب هو الذي يرعى شرف الفتاة!
إنما تحرسها تربيتها ومشاركتها في الثقافة!
فهذبوا عقول العذارى، حتى تظل أجساد العذارى في مأمن من الشرور والآثام!
ومهما يكن من شئ، فإن الزهاوي لم يفعل أكثر من التلميح والإشارة إلى قوانين الزواج والطلاق. وأعظم من ذلك. الكاتب الاجتماعي التونسي طاهر الحداد الذي نشر في عام 1930 كتابا عن (نساؤنا في الشرع وفي المجتمع). وقد ذكر فيه أن قوانين القرآن وأصول التشريع الإسلامي لا ينبغي أن تعتبر نهائية، وثابتة لا تتغير، بل يجب أن ينظر إليها بعين التطور، ورأى أن روح الحضارة الإسلامية تتطلب عمليات مستمرة من هضم مميزاتها الخاصة للرقي الحضاري.
كما أن الأدب العربي في مصر - في تصويره وتحليله للمشكلات الاجتماعية - قد دخل فيهنقد مفهوم ضمنا للعقبات القانونية التي تقف في سبيل المساواة التامة للنساء. وكان من بين الاقتراحات الأولى التي حيرت وزارة الشئون الاجتماعية الجديدة - نشئت في مصر عام 1929 - تقييد تعدد الزوجات، وتحديد حالات الطلاق. ولكن على الرغم من أن الحلول التي وضعتها الوزارة لم تشتمل على أكثر من جزء معقول من الإصلاحات التي يرغب فيها الرأي العام المثقف، فإنها قد تسببت في ظهور شكوى ممثلي الرأي العام في الأزهر، من أنها كانت تناقض الشريعة، وأن الأجدر بالوزارة أن تنتبه إلى سباق الخيل والميسر وسائر المساوئ الاجتماعية الأخرى التي نهى عنها القرآن والسنة.
إن المجدد الحقيقي لا يمكنه أن يتخلص من مأزقه، بتشتيته الشمل بسهولة؛ إذ أ، القرآن ينبغي أن يكون حقيقيا ونهائيا. ومع ذلك فليس من السهل أن نشعر بوجود شئ من الخطأ في السلوك الاجتماعي السائد بين المسلمين. ثم إن مما يجرح شعوره كمسلم، أو يخدش كرامته كرجل، أن يرى أن الشيء الوحيد الذي يعرفه رجل الغرب العادي عن الإسلام، هو أن المسلم قد يكون له أربع زوجات! ويزيد آلامه استفادة إرساليات التبشير من مشكلاته. فليس لديه سوى مخرج واحد؛ فإن المثل العليا في الإسلام لا تقع في أي طريق من المستويات العليا، وعلى ذلك فلا بد أن علماء القرون الوسطى حادوا عن الروح الحقيقي للقرآن والإسلام.
وهذه الأخطاء يجب أن يقتفى آثارها إلى منابعها، ويشك فيها. وعندما تصبح واضحة فإن تعاليم القرآن والسنة، ستظهر عدالة هذه القواعد تجاه الرجال والنساء. وستعنى هذه التعاليم - قبل كل شئ - باتجاهات العامة، وتحدد ما يجب أن يكون عليه روح التفكير في القانون وتنفيذه. وهذه الروح - فيما يتعلق بالنساء - لا يمكن أن تكون سوى جزء من المواساة الإنسانية، واحترام الشخصية، واجتهاد لدفع المساوئ التي خلفتها طبيعة المجتمع القاسية الغاشمة.
وبعد فهم هذا الاتجاه ومعرفة قيمته وهضمه تماماً، فأن التشريع القرآني سيفهم على وجهه الصحيح. ويرى المحدد أنه عندما يحدث كل هذا، فإن موقف المسلمين تجاه المرأة، ونظرتهم إلى شخصيتهم ومركزهم الاجتماعي، والتشريعات الخاصة بحمايتهم، كل هذه ستكون أعظم وأكثر سماحة في نوعها، بل إنها تفوق مثيلاتها في سائر الأديان.
إذن فهذا هو العمل أمام المجدد. أن تكون القول بأن أول أعمال المجدد المعارض هو إعادة مجد العقيدة في الإسلام، بين المسلمين الجاحدين؛ وذلك بإثبات أبهى محاسن دينهم بجلاء. ثم إقناع المسلمين المتأخرين (الطراز القديم) بأنهم بمحافظتهم الاجتماعية، وتمسكهم بنصوص القانون الحرفية، إنما يطفئون النور! وإلى جانب ذلك لا يستطيع المجدد أن يقاوم الفرصة للقضاء على الابتسام الكاذب في وجه المبشر، بمهاجمة التقاليد الجنسية في المسيحية. وعلى ذلك ففي مناقشة المسائل الدينية قلما يختلف المعارضون والمخالفون. وليس عجيبا أن المسلمين الذين يعرفون الغرب عن طريق الحياة في المدن الكبرى، والأفلام والقصص والمجلات؛ إن هؤلاء المسلمين ينظرون بازدراء إلى المستويات والتقاليد الجنسية في المجتمع الغربي.
(يتبع)
محمد محمد علي