مجلة الرسالة/العدد 798/معاهد العلم في عصر الحروب الصليبية:

مجلة الرسالة/العدد 798/معاهد العلم في عصر الحروب الصليبية:

مجلة الرسالة - العدد 798
معاهد العلم في عصر الحروب الصليبية:
ملاحظات: بتاريخ: 18 - 10 - 1948



الجامع الأزهر في عصر الحروب الصليبية

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

الجامع الأزهر أول مساجد القاهرة، أنشأء جوهر الصقلي بأمر المعز لدين الله أول خلفاء الفاطميين في مصر وتم بناؤه سنة 361هـ، ومنذ ذلك الحين ظفر الأزهر بعناية الفاطميين جيلاً بعد جيل.

وكانت الغاية الأولى من تشييده إقامة الصلاة فيه، ولكن لم يمض على إنشائه وقت قصير حتى سأل الوزير يقعوب بن كلس الخليفة العزيز بالله في صلة رزق جماعة من الفقهاء، فأطلق لهم ما يكفي كل واحد منهم من الرزق؛ وأمر لهم بشراء دار وبنائها، فبنيت بجانب الجامع الأزهر، فإذا كان يوم الجمعة حضروا إلى الجامع، وتحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تصلى العصر، وكانت عدتهم خمسة وثلاثين رجلا، وكان لهم أيضا من مال الوزير صلة في كل سنة، كما كانوا موضع عطف الخليفة يخلع عليهم في عيد الفطر.

صار الأزهر منذ ذلك التاريخ من أهم مواطن الثقافة في مصر، ولكن التعليم قد اصطبغ فيه ولا ريب - بالصيفة المذهبية؛ فكان العفة يدرس فيه على مذهب الشيعة، وتقرأ فيه كتب هذا المذهب، من مثل كتاب الاقتصار الذي وضعه أبو حنيفة النعمان بن محمد القيرواني قاضي المعز لدين الله في فقه آل البيت، وكتاب دعائم الإسلام، وكتاب الأخبار في فضل الأئمة الأبرار له أيضا، كما كانت تقرأ فيه الرسالة الوزيرية، وهي كتاب الوزير ابن كلس في الفقة الشيعي على مذهب الإسماعيلية، وأفنى الناس بما فيه.

كانت الصبغة الدينية هي الغالبة على الأزهر، أما العلوم الفلسفية فقد نهضت بها دار الحكمة، وإن كان يبدو أن هذه العلوم أيضا كانت تدرس بالأزهر في حدود ضيقة؛ فقد كان الدعاة وهم أساتذة دار الحكمة يجلسون للتدريس في الجامع الأزهر أحيانا كثيرة، وكان داعي الدعاة يدرس فيه درسا خاصا للنساء.

ولست ادري إن كان غير مذهب الشيعة الإسماعيلية في الفقة وغيره قد وجد سبيله إلى الأزهر في الأوقات التي كانت تضعف فيها حدة الدعوة الإسماعيلية كما حدث في عهد الأفضل الأمامي المتسامح وزير الآمر، والعادل بن السلاء السنى وزير الظافر.

غير أنه مما لا شك فيه أن مذهب الشيعة قد اختفى تدريسه من الأزهر يوم قضى صلاح الدين على الخلافة الفاطمية، وأبطل الخطبة من الجامع الأزهر، ذلك أنه قلد وظيفة القضاء صدر الدين بن درباس، وهو شافعي، فعمل بمقتضى مذهبه، وهو امتناع إقامة خطبتين في بلد واحد؛ فأبطل الخطبة من الجامعالأزهر وأقرها بالجامع الحاكمي لكونه أوسع، والظاهر أن ذلك لم يكن إلا تبريراً لما أراده صلاح الدين من إهمال أمر الأزهر وصرف عناية الناس عنه، لأنه أقدم موطن لنشر دعوة الشيعة في البلاد، ولولا ذلك لأمكنه أن يجمع فيه مرة وفي الجامع الحاكمي أخرى، ولكن إهمال الأزهر كان خطه رسمها صلاح الدين وخلفاؤه من بعده، فأنشئوا المدارس المختلفة التي نافسته، وأقبل عليها المدرسون أكثر من إقبالهم على الأزهر، لكثرة ما تدره هذه المدارس وطلبتها، ولما كانت تظفر به من رعاية أولى الأمر؛ ولكن التدريس لم ينقطع من الجامع الأزهر برغم انقطاع خطبة الجمعة فيه، وإهمال السلاطين أمره، وها هو ذا عبد اللطيف البغدادي يأتي إليه في عصر العادل ويتردد عليه عشر سنين، مستمعا إلى الأساتذة المحاضرين حيناً، وقائما بتدريس الطب والفلسفة والمنطق طرفي النهار وحينا آخر.

وظل الجامع مهملاً من سلاطين الدولة، والجمعة فيه معطلة زهاء مائة عام إلى أن سيكون بجواره الأمير عز الدين أيدمر الحلي نائب السلطنة في عهد بيبرس، فانتزع كثيرا من أوقاف الجامع كانت مغصوبة بيد جماعه، وتبرع له، وأصلحه وأقام فيه منبراً، وأذن القاضي الحنفي بإعادة الخطبة فيه، فأعيدت يوم الجمعة 18 ربيع الآخر سنة 665هـ، وعمل الأمير فيه مقصورة رتب فيها مدرسا وجماعة من الفقهاء على مذهب الشافعي، ورتب محدثا يسمع الحديث النبوي والرقائق، ورتب سبعة لقراءة القرآن، ووقف على ذلك أوقافا دارة تكفيه، ولم يلتث الأوهر أ، ظفر بمكانة سامية يدل عليها أن الذي تولى أمر خطابته في عهد المنصور قلاوون وابنه هو عبد الرحمن ابن بنت الأعز، قاضي قضاة الشافعية، ومن بعده كذلك محمد بن إبراهيم بن جماعة، وذاع صيت الأزهر منذ ذلك الحين، وأصبح معهدا علمياً معهداً علميا يؤمه الناس من كل فج، ولقى الأزهر من العناية الشئ الكثير، وزاد في مجده أن عزوات المغول في المشرق فضت على معاهد العلم فيه، وأن الإسلام أصابه في المغرب من التفكك والانحلال ما أدى إلى دمار مدارسه الزاهية.

وحفظ التاريخ من أسماء مدرسيه في عصر الحروب الصليبية محمد بن بركات بن هلال الصوفي، أحد فضلاء المصريين وأعيانهم أخذ النحو والأدب عن أبي الحسن بن بايشاذ فأتقنهمها، وله أيضا معرفة حسنة بالأخبار والأشعار، ولكنه كان منحطا في الشعر، يقول السيوطي عنه: ليس له احسن من هذين البيتين:

يا عنق الإبريق من فضة ... ويا قوام الغصن الرطب

هبك تجافيت وأقصيتني ... تقدر أن تخرج من قلبي؟!

والظاهر أنه كان مضيقا عليه في الرزق، يدلنا على ذلك ما روى من أنه وقف للأفضل شاهنشاه أمير الجيوش، وهو راكب في الطريق فأنشده:

يا رحمة الله التي ... واسعها لم يضق

لم يبق إلا رمقي ... فاستبق مني رمقي

وعن قليل لا أرى ... كأنني لم أخلق

فسأل الأفضل عنه، فقيل له هذا بحر العلم ابن بركات النحوي، فقال له الأفضل أنت شيخ معروف، وفضلك موصوف، وقد حملنا عنك الوقوف وأمر له بشيء. ويبدو أنه اتصل بالأفضل بعدئذ، وألف له كتاب الإيجاز في معرفة ما في القرآن من منسوخ وناسخ، ولعل هذا الكتاب وما ألفه في النحو من تصانيف من بين ما قرأه في الأزهر على طلبته، كما أنه وضع كتابا في خطط مصر أجاد فيه، وتوفى في ربيع الآخر سنة 520 وله مائة سنة وثلاثة أشهر.

ومنهم الحسن بن الخجطير أبو علي النعمان الفارسي المعروف بالظهير؛ وقد اشتغل زمنا طويلا بالتدريس في الأزهر، روى عنه ياقوت أنه قال: أنا من ولد النعمان بن المنذر، ومولدي بقربة تعرف بالنعمانية، ومنها ارتحلت إلى شيراز، فتفقهت بها، فقيل لي الفارسي، وأنتحل مذهب النعمان وأنتصر له فيما وافق اجتهادي. قال ياقوت: وكان عاملا بفنون من العم، قارئا بالعشر والشواذ، عالما بتفسير القرآن وناسخه ومنسوخه والفقه والخلاف والكلام والمنطق والحساب والهيئة والطب، مبرزا في اللغة والنحو والعروض والقوافي ورواية أشعار العرب وأيامها وأخبار الملوك من العرب والعجم. ومما ساعده على معرفة ذلك كله أنه كان يحفظ في كل فن من هذه الفنون كتابا، فكان يحفظ في التفسير كتاب لباب التفسير لتاج القراء، وفي فقه الشافعي كتاب الوجيز للغزالي، وفي فقه أبي حنيفة كتاب الجامع الصغير لمحمد بن الحسن الشيباني، نظم النسفى، وفي الكلام كتاب نهاية الإقدام للشهر ستاني، وفي اللغة كتاب الجمهرة لابن دريد، وكان يسردها - كما قيل - كما يسرد القارئ الفاتحه، وكان يحفظ في النحو كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي، وفي العروض كتاب الصاحب بن عباد، وكان يحفظ المنطق أرجوزة أبي علي بن سينا، وكان قيما بمعرفة قانون الطب له، وكان عارفا باللغة العبرية ويناظر أهلها بها وقد ظل يحفظ متون هذه العلوم مدة أربعة عشرة سنة كان يكتبها الواحا، ويحفظها كما يحفظ القرآن.

وكان الغالب عليه الأدب واللغة يجلس بين يديه شيخ الديار المصرية عثمان بن عيسى النحوي، ويسأله سؤال المستفيد عن حروف من حوشي اللغة. وفي مرة سأله عن كلمة منحوتة، ففسرها له، وأملاه كلمات على مثالها في نحو عشرين ورقة من حفظه، وسمى ماأملاه كتاب تنبيه البارعين على المنحوت من كلام العرب. وكان ابن سناء الملك يسأله عن كلمات غريبة كلام العرب وهو يجيب عنها بشواهدها. وقد كانت معرفته باللغة سبا في انتصاره على المجير البغدادي عندما دخل خوزستان؛ فقد بدأ مناظرته إياه بألفاظ حوشية أحب المجير أن يستسفر عنها؛ رتبة الأمامية يجهل لغة العرب. . . والمناظرة إنما اشتقت من النظير، ليس هذا بنظيري، لجهله بأحد العلوم التي يلزم المجتهد القيام بها. وكثر لغط أهل المجلس وانفض، (وشاع في الناس أنى قطعته).

وكان الظهير قد أقام بالقدس مدة، فأغراء العزيز عثمان ابن صلاح الدين بالحضور معه إلى القاهرة، وأجرى عليه كل شهر ستين ديناراً أو مائة رطل خبزا، وخروفا وشمعة كل يوم ومال أليه الناس والعلماء، وصار له سوق قائمة، إلى أن قرر العزيز المناظرة بينه وبين شهاب الدين الطوسي، ولكن الطوسي في يوم عيد انتهز كلمة مجامله قالها الظهير للعزيز في أثناء الكلام، ولم يبرر الطوسي النطق بها فأصماه، وانكسرت حرمته عند العزيز، وشاعت القصة بين العوام، وانتهى أمره بأن انضوى إلى المدرسة التي أنشأها تركون الأسدي يدرس بها مذهب أبي حنيفة إلى أن مات سنة 598.

وكان قد أملى كتابا في تفسير القرآن وصل فيه إلى تفسير قوله تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض. في نحو مائتي ورقة، ومات ولم يختم تفسير سورة البقرة. وله كتاب في شرح الصحيحين، اختصره من كتاب الإقصاح في تفسير الصحاح للوزير ابن هبيرة، وزاد عليها أشياء وقع اختياره عليها، وكتاب في اختلاف الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ولم يتمه، وله خطب وفصول وعظمية مشحونة بغريب اللغة وحواشها.

ومن أساتذة الأزهر يؤمئذ نصرين محمود المظفر الأديب النحوي اللغوي، قرأ الأدب على ابن الخشاب والكمال الأنباري، وسمع بمصر من البوصيري، ولعله قرأ بالأزهر رسالته في الضاد والظاء، ومات سنة 630.

وممن تصدر للاقراء فيه شيخ الإقراء بالديار المصرية ابن يوسف الشطنوفي المولود بالقاهرة سنة 647، وقد تكاثر عليه الطلبة وكان الناس يكرمونه، وينسبونه إلى الصلاح ويحمدون سيرته، وانتفع به جماعة في القراءة، كما كان معدودا من النحاة، وله اليد الطولى في علم التفسير، أملى فيه تعليقا على طلبته، وكان أستاذه الروحي عبد القادر الجيلي، جمع أخباره ومناقبه في ثلاثة مجلدات، وسمى كتابه البهجة، ولشدة إعجابه به دون كل ما سمعه عنه ولو كان الراوي غير أهل للثقة، فدخل في الكتاب حكايات كثيرة مكذوبة. وقد ولى الشطنوفي أيضا تدريس التفسير بالجامع الطولوني والإقراء بجامع الحاكم، ومات بالقاهرة سنة 713.

ومن أعلام الصوفية الذين جلسوا بالجامع الأزهر، وتحدثوا بمبادئهم فيه يومئذ تاج الدين بن عطاء الله السكندري المتوفي سنة 709، كما كان يقيم عمر بن الفارض الشاعر الصوفي المشهور.

(حلوان الحمامات)

أحمد أحمد بدوي

مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول