مجلة الرسالة/العدد 800/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 800/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 11 - 1948



تنسيق الزهور

للدكتور أحمد موسى

ليس من الغريب أن يكون تنسيق الزهور فنا، ولكن الغريب أن يتصور البعض أن الأزاهير وما يتعلق بتنسيقها لا يهم إلا فريقا معينا من الناس؛ والحق هو أن هذا الفن الذي قد يبدو ضئيلا عند النظرة الأولى يهم كل مثقف وكل متعلم لأن الاستمتاع بمرأى الزهر في أكمل واجمل صورة له من شان الراغب في التذوق، ولا يوجد مثقف أو متعلم لا يرغب في هذا التذوق!.

والتذوق بذاته لا يتم إلا بدراية الفن ولو في أبسط معانيه وصوره، لذلك نعني في هذا المقال بإيضاح الموضوع بغية الوصول إلى النتيجة المرجوة التي تتلخص في فهم الوسائل والطرق التي يسير الناس عليها في تنسيق الزهور في بيوتهم وفي حجرات جلوسهم وغرف استقبال ضيوفهم، ينظرون إليها على اعتبارها جزءاً متمماً للجو البيتي الذي ينشدون فيه الجمال.

ولتذوق جمال الزهر تاريخه القديم وتاريخه المتوسط وتاريخه الحديث، ولكنا لسنا في مجال تاريخ الفن في هذه المرة وإنما نحن في معرض تذوق جمال الزهر نتيجة تنسيقه؛ فإذا رجعنا إلى معابد المصريين ومقابر ملوكهم رأينا عجبا، ففي ممفيس وطيبه ودندره وأبي دوس وغيرها مناظر تسجل افتتان المصريين بالزهر وإمعانهم في تنسيقه.

ولا يقل الحال شأنا عند الإغريق الذين اتخذوا من وحدات الزهر والنبات مادة لزخارفهم ونقوش مبانيهم، والرومان من لم يكونوا أقل اهتماما من أساتذتهم.

والمستعرض للفن الإسلامي يجد فيه الكنوز الحافلة بما يسجل عشق المسلمين للأزاهير، وفي اشعارهم القدر الكافي مما يؤيد ذلك، وحتى في غزلياتهم كانوا يقتبسون من حسن قوام الغصن ولون الزهر صفات طبقوها على المحبوب اعترافا منهم بما للأزاهير من جمال وبهاء.

فكأننا أمام موضوع له خطره وله قيمته! وعليه فلا بد لنا من إن نعرف كيف نحب الزهر وكيف نحافظ عليه منتعشا أطول مدة ممكنة.

والذي يجب أن نعرفه مبدئيا أنه لا يشترط لجعل الزهور بادية في أجمل وضع لها أن تكون سيقانها موضوعة داخل زهرية جميلة في ذاتها، أو قيمة من ناحيتها المادية، ذلك لأن من الجائز جدا أن تكون المشكاة بسيطة التكوين قليلة الألوان ليس فيها ما يبهر النظر، ومع هذا تكون مناسبة لإبراز معالم جمال الزهر ولفت حاسة الانتباه إليه، وهذه مسألة فاتت الكثيرين الذين يضعون الزهر في مشكاة ثمينة رائعة الألوان؛ فيطغى جمال الصناعة على جمال الطبيعة، ويكون الإعجاب والاستمتاع موزعا.

وربما كانت أبسط القواعد لمعرفة طبائع الزهر وأنواعه وعلاقة لونه بتأثيره في مكان أو ركن معين من البيت خير رائد لنا للوصول إلى الغاية.

فمما لا شك فيه أن لون الحائط خلف الزهرية ولون المائدة وكذلك لون الزهرية نفسها، كل هذه الألوان متجمعة تلعب دورا هاما في إظهار الورود والزهور في أجمل صورة وأقوى وضع لها، أو على النقيض تبعد النظر عنها وتضعف من قيمتها.

هذا إلى جانب الدور العظيم الذي يلعبه الضوء بقوته حيناً وضعفه حينا آخر، إلى جانب وقوعه على الزهر مباشرة أو انحرافه عنه.

وإذا كان لون الحائط والمائدة، والنور وزاوية وقوعه على الأزهار ذات أثر بالغ، فمما لا نزاع فيه أن مساحة الحجرة ومساحة المكان المخصص للأزاهير لا يمكن إغفالها، وهذا معناه أنه لا يجوز وضع مجموعة كبيرة من الزهور في حجرة صغيرة والعكس بالعكس.

وعلى ذلك تكون القاعدة الأولى هي التنسيق والتناسب مع المكان وليست غنى المظهر، وأنت تعلم أن شقة حجراتها معدودة في نظام فنيو خير من مبنى متسع الأرجاء لا نظام فيه ولا ارتباط بين أثاثه.

وربما كان من الضروري أن نذكر أنه لا بد من اختيار الأزهار ذات الألوان المنسجمة مع طراز الأثاث ولونه، وهذا القول وإن بدا على شيء من الغرابة فإنه صحيح، فإذا وضعت زهر عباد الشمس وهو شديد الصفرة متوهجا، داخل حجرة أثاثها من خشب الفرو وهو لون باهت أقرب إلى الصفرة، فإنك تجد هذه الزهور الجميلة فاترة ضعيفة على الفور، على النقيض وضع هذه الزهور نفسها في حجرة أثاثها من خشب المهاجوني الداكن اللون، على مائدة تعلوها سجادة داكنة أيضا، على أن تكون بالحجرة نافذة كبيرة يدخل منها نور قوي.

ولتكوين سيقان الزهر وطولها قيمته الفنية، للسيقان وطولها علاقة وثيقة مع الزهرية، فلا ينبغي وضع أزهار ذات سيقان رفيعة قصيرة في مشكاة طويلة واسعة.

وليس من الغريب أن يكون قانون التماثل أو التناظر أو ما يسمونه (قانون السيمتري) باطل الأثر بالنسبة إلى فن تنسيق الزهور. بل إن الخضوع له وتطبيقه يؤديان إلى التقليل من الجمال المظهري لها، لما ينطوي عليهما من وجوب وضع زهريتين متشابهتين في مكانين متقابلين وما يؤدي إليه هذا من التكرار الممل

ولكل وقت من أوقات النهار ما يناسبه من الزهر، فعلى مائدة الإفطار ذات المفارش الخاصة بها يمكن وضع زهر الجرونيا أو منقار الغرنوق والأقحوان أو كحلة الجنائن والتيولب أو الخزامي والنستوريوم أو زهر أبو خنجر وهي أنواع إذا نظرت إليها وجدت أن تأثيرها على المشاهد ينحصر في وضعها متقاربة غير منثورة قي الزهرية، على حين يناسب مائدة الغذاء خليط من مختلف ألوان الزهر يوضع في زهرية واطئة أشبه شيء بطبق، بحيث لا يحول بين وجوه الجالسين حول المائدة، هذا فضلا عن عدم قابلية الطبق للسقوط على المائدة أو ميله على أحد جوانبه عند أقل حركة أثناء الجلوس أو القيام. أما الأزهار الملائمة لمائدة العشاء فهذه تكون عادة ذات أغصان طويلة رقيقة تمتد رؤوسها إلى أعلى وليس إلى اليمين أو اليسار فيتخللها النور الساقط من المصابيح المثبتة بسقف الغرفة فتبدو في أروع مظهر، على أنه لا ينبغي أن تكون متعددة الألوان، ولعل الورود أحسن من غيرها في هذه الحالة.

ومما لا ينبغي الوقوع فيه وضع بعض الأوراق أو الأغصان على المفرش سواء أكان العشاء لأصحاب البيت أو لزائريهم. وقد رأينا البعض يضع لوحا من البلور أو زهرية أمام مرآة المشجب وهذه لا غبار عليه، ما دامت الأزهار لا تمتد كثيرا إلى أعلى فتحجب المرآة. ولون الزهرية وموضوع اختياره من المشاكل الجديرة بالدرس، فالثابت أننا إذا نظرنا في ضوء الشمس الساطع إلى الأزهار ذات اللون الأحمر والأزرق والأصفر وإلى جانبها جميعا اللون الأخضر وهو لون الورق والأغصان والحدائق والحقول، فإنها عندئذ تبدو في حلتها الطبيعية، حالة كونها تبدو على نقيض ذلك في النور الخافت نهارا والضوء الضعيف ليلا، ونجد لونها ليس طبيعيا، وعلى ذلك يجب مراعاة هذه العوامل عند التنسيق. واللون الأصفر مما يناسب معظم الحجرات والأماكن، وهذا هو السر في أن معظم العارفين يتخيرون الكالندولا أو كحلة الجنائن في غالب الأحوال، على حين نجد أن الزهور الزرقاء مجردة عن رونقها في الأركان القليلة النور، وهذا لا يمنع من اعتبارها جميلة ذات تأثير محبب إلى النفس متى وضعت بالقرب من شباك يدخل منه النور القوي، أما في الليل فهي تفقد رونقها وتبدو كالحة اللون رمادية أو سنجابية.

على أن أوراق الشجر وأغصان الزهر تلعب دورا هاما بوضعها إلى جانبها، فالالتفات إلى إيجاد الانسجام بين هذه الأوراق والأغصان وبين الأزهار نفسها أمر لا مناص منه. فوضع الورق الأخضر الداكن إلى جانب الأزهار الباهتة يميت لونها، كما أن وضع الورق الباهت إلى الزاهي من الأزاهير يضعف من رونقها

وكأننا أمام قاعدة ثابتة تتلخص في وضع اللون السمني إلى جانب الحمر الدافئ واللون الأبيض إلى جانب الرمادي. واللون الوردي إلى جانب الأبيض!

ومما لا يحتاج إلى بيان أن ذوي الذوق الجميل يجدون فرصة مواتية للتصرف حسب ما يمليه الذوق عليهم، فتكون لديهم المقدرة على حذف زهرة وإضافة أخرى أكثر انسجاما، هذا إلى جانب ما يكتسبه المرء من المران والاختبار للوصول إلى الغاية المثلى.

مما تقدم يمكن أن نصل إلى القول بأنه إذا أريد تنسيق بعض الأوراق الخضر مع لزهر الأحمر والصفر والأبيض فإنه يجب والحالة هذه الاعتناء التام باختيار الموضع الملائم لكل منها في الزهرية، ذلك لأنك إذا وضعت الأزاهير الداخلية بل ينصرف عنها إلى خارجها لشدة لونه وقوة شخصيته.

ومن بين الأزهار ما يبدو في أجمل صورة له عندما يكون مستقلا قائما بنفسه إذ استثنينا بضع أوراق خضر تعين المشاهد على التركيز النظري. والزهور كائن حي رقيق الحس ولذلك لا مناص من معرفة بعض القواعد عن كيفية قطفها ومعاملتها والمحافظة عليها أطول مدة ممكنة فيطول بذلك أمد الاستمتاع بها.

فأنسب وقت لقطفها وقت بزوغ ألوان الفجر أو عند الصباح الباكر وقتما تكون قطرات الندى قد رصعت تيجانها وبدت فوقها كحبات اللؤلؤ. أما القطف فلا يكون كما اتفق بل نلاحظ فيه أن تكون السيقان طويلة بقدر الإمكان ليمكن تنسيقها حسب الإرادة ووفقا لعمق الزهريات التي ستوضع فيها والواني المخصصة لها.

كما ينبغي عدم تجريدها كلية من أوراقها تمهيدا لتنسيقها. والقطف لا يكون قاصرا على الزهور المفتحة فحسب بل يجب أن يشتمل على درجات النضوج الثلاث وهي بدء التفتح وتوسطه وكماله، كما أن من الأوفق كثيرا استخدام المقص المخصص لهذا الغرض أو على الأقل استعمال سكين حادة، على أن يكون القص أو القطع مائلا كثيرا بقدر المستطاع وليس قصا أو قطعا أفقيا وذلك لتمكين ساق الزهر من امتصاص الماء وهو غذاؤه داخل الزهرية.

وأول عمل نجريه عند وصول الزهور إلى البيت هو غمرها في الماء البارد داخل إناء كبير يتسع لها دون ثنيها أو كسرها بحيث يصل الماء قمة العنق، مع تركها بعض الوقت بحالتها هذه في مكان قليل النور رطب الهواء بقدر المستطاع.

ولا يتسع المجال لذكر كل أنواع الزهور ومعالجتها بالوصف الخاص - والإجمال لا يخل بالموضوع ما دمنا نستعرض أكثر الزهور استعمالا، فزهر الخنجر يقطع بمجرد بدء الزهرة الثانية على الساق في التفتح، لأن البقية تتفتح بعدئذ في ماء الزهرية خلال الأسبوع الذي تعيشه في البيت. وعندما يلاحظ أثناء تغيير الماء - وهو أمر لازم يومياً - إن نهاية السيقان قد أصبحت لينة لزجة، فإن الضرورة تقضي بقص هذه النهاية بعد عصر الساق.

أما زهرة الداليا فهي من الزهور الطويلة العمر إذا قطفت عندما يقرب تفتحها من الكمال ويكون القطف فوق الوصلة مباشرة حتى تكون الساق مفتوحة من أسفلها، فلا تقابل الماء عقبة أثناء مروره للتغذية.

وفصيلة السوسن أو الزنبق تقطع عندما يبدأ أول زر في التفتح، وذلك لن التي تفتحت يوما أو يومين قبل القطع تكون قصيرة العمر.

والورود تقطع بسيقان طويلة قدر الإمكان، بعد ترك جزء من ساقها في الأرض لاستكمال نموه. ويضع بعض المغرمين بالأزاهير قطعة من الفحم النباتي في قاع الوعاء ليكون الماء عذبا أطوال مدة ممكنة. وهناك فريق يضع قرصا من الأسبرين لإنعاش الزهر. وغير هؤلاء وهؤلاء نجد من يمزج فنجانا من السكر على لتر من ماء توضع فيه زهور الكريزانتينم فتظل حافظة نضارتها أسبوعا كاملا.

أما ضرورة قص أطراف السيقان يوميا إكمالا لعملية تغيير الماء فهذه مسألة يعرفها معظم الناس ولكن هناك ما يدعو إلى التنبيه وهو أن عملية القص يجب أن تجري تحت حنفية الماء مفتوحة يتدفق ماؤها على السيقان حتى يحول هذا العمل دون دخول الهواء إلى ساق الزهر فيقضي عليه. ولا يصح وضع الكثير من الزهور في زهرية ضيقة العنق لأنها بهذه الكيفية تختنق إذ لا يمر الهواء من بينها ولا يستطيع الماء الوصول إلى قممها.

وأنواع الزهريات كثيرة وألوانها متباينة وطرزها بين قديم وحديث لا حصر لها، فالعبرة بحسن الاختيار والتفرقة بين ألوان الزهر وبين ألوان الزهريات ووضع ما يلائم واحدة منها في مكانها المناسب لها. وكلما كانت الزهور رقيقة كانت الأوعية الزجاجية الرفيعة اكثر صلاحية لها.

والفن داخل البيوت موضوع قديم عند كل الأمم المتمدينة وإن يكن حديث العهد في بلادنا، وهو في وقتنا الحاضر يتلخص في البساطة والبعد عن الزخرفة والزركشة والازدحام، مما أدى إلى الاستعانة بالزهر على تجميل البيوت، التي إن عرفنا كيف نجملها لما احتملنا البعد عنها.

ويستعين العارفون بما يسمى (الماسك) أو القابض على سيقان الزهر للربط بينها لتظل في وضعها المرغوب، وغير هذا توجد قطع مستديرة من البلور ذات ثقوب وهذه القطع توضع في قاع الزهرية التي تكون عادة متسعة العنق أو على هيئة طبق ذي قطر كبير، وذلك لتثبيت السيقان في أوضاعها المختارة بوضع نهاياتها السفلى في تلك الثقوب. ويلعب الرمل النظيف دورا هاما في المساعدة على تنسيق الزهر، فبوضعه في قاع الزهرية يعين على التثبيت، فضلا عن أنه لا يعوق وصول الماء إلى السيقان لتغذية الزهر الذي يكون غالبا من النوع الرقيق القصير كزهرة البانسي والفيوليا ويسمونها زهرة الثالوث وهما من فصيلة البنفسج، وزهرة الزعفران وزنبق الوادي على أنه لا ينبغي أن يبدو الرمل ظاهرا أمام عيني المشاهد.

ومما تحسد عليه بلادنا العزيزة أن الزهر لا ينقطع طوال أيام العام على حين تجده في اوربا نادرا لا سيما في الشتاء القارس. والعقبة التي تصادف هواة الزهر في الأقطار الشرقية هي سرعة ذبوله في الأوقات الحارة، ولكنا إذا عالجناه كما ينبغي أمكن البقاء عليه مدة كافية.

وكقاعدة عامة نقول أن كلما قل الزهر عددا وحسن تنسيقه كلما كان مظهره بسيطا جميلا. والعجيب أن تجد الفنان الياباني يأبى إلا يسير على هذه القاعدة؛ فتراه حتى في لوحاته المصورة لا يأبه إلا بغصنين أو غصنين تعلو كلا منهما زهرتان، يصورها في أروع ما يكون من الجمال وحسن التنسيق وإبداع الإنشاء الفني

وإذا كان القارئ من المحظوظين اللذين يملكون بستانا، فإن عليه أن يختار الأغصان ذات الأنثناءات فهي في الزهرية تكون رشيقة كالحسناء ذات القوام الممشوق، وتبدو الأغصان مائلة بعضها نحو بعض كأنها تتحدث حديث حب وغرام.

فأغصان الرمان المزهر وأغصان الليلك (لعلى) والكمثرى لها تكوين ساحر خلاب يحمل أزاهير يانعة رقيقة إن تأملتها عن كثب زدت إعجابا بقدرة الخالق وعملت بأن الطبيعة هي ام الفن وأننا مهما اوتينا من العلم فلن نصل إلى قطرة من ذلك الخضم اللانهائي

أحمد موسى