مجلة الرسالة/العدد 802/القبائل والقراءات

مجلة الرسالة/العدد 802/القبائل والقراءات

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 11 - 1948



للأستاذ عبد الستار أحمد فراج

تمهيد:

لكل قبيلة أو جهة عادة لغوية تميزها عن غيرها وهي ما تعارف الناس الآن على تسميتها لهجة: تتحكم فيها عند نطقها بالألفاظ وأدائها للكلمات ويلحظها من استمع إلى المتكلمين بها فلا يكاد يخطئ في إلحاق المتحدث بقبيلته أو جهته إذا أوتي شيئا من الدراية بتلك اللهجات، وهذه العادة كانت تندرج قديما تحت كلمة اللغة حيث أطلقوها في الصدر الأول على عدة معان.

1 - على الخلاف بين القبائل في إعرابها الكلمات وبنائها وصيغها؛ حكى علي بن محمد النوفلي قال سمعت أبي يقول لأبي عمرو: خبرني عما وضعت مما سميته عربية أيدخل فيه كلام العرب كله؟ فقال لا. فقلت كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهو حجة؟ قال أعمل على الأكثر وأسمى ما خالفني لغات.

2 - على تباين الألفاظ التي تترادف على معنى واحد. وذلك مثل ما يرد في معاجم اللغة كقولها: الزمهرير القمر بلغه هذيل.

3 - على طريقة أداء الكلمات وإعطائها نغمة أو غنة تميزها عن غيرها من القبائل كالإمالة والتسهيل والتفخيم والترقيق. وذلك مثل ما يروى في كتب اللغة والأدب من قولها: وليست الإمالة لغة جميع العرب، وأهل الحجاز لا يميلون، وأشدهم حرصا عليها بنو تميم.

وفي الحديث عن صفوان بن سالم أنه سمع رسول الله يقرأ يحيى قيل له يا رسول الله تميل وليس هو لغة قريش؟ فقال هو لغة الأخوال بني سعد.

ويروى أن أبا عمرو كان أوسع علما بكلام العرب ولغاتها وغربيها، وأن سيبويه أخذ النحو عن الخليل ويونس وعيسى ابن عمر وغيرهم وأخذ اللغات عن أبي الخطاب الأخفش الكبير.

أما اللغة باصطلاحنا الحديث فقد كانت تسمى اللسان. والقرآن الكريم لم يستعمل غيرها عند إرادتها.

(وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) سورة إبراهيم. (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) سورة النحل.

(التكون من المنذرين بلسان عربي مبين) سورة الشعراء.

(ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم). سورة الروم.

(وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا) سورة الأحقاف.

وقد سمى ابن منظور كتابه (لسان العرب) وسميت المدرسة التي كان يرأسها رفاعة بك الطهاوي (مدرسة الألسن).

هذا وقد أباح رسول الله للمسلمين أن يقرءوا القرآن بلهجات العرب.

وتلك الإباحة تفهم من الحديث الذي رواه صفوان بن سالم ويرشد إليها الحديث المرفوع (اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها).

وقد جاءت تلك الإباحة لأنها في الواقع لا تؤثر في المعنى ولا تخل بنظم الآية، وهذا النطق من القبائل مترتب على عادتهم اللغوية وطرية أدائهم للألفاظ؛ فالقبيلة التي اعتادت ألسنتها على الإمالة يكون العسير عليها أن تنطق بالفتح، التي تسهل الهمزة يكون من الشاق عليها تكلف النبر.

فليس من الممكن إذن التضييق على القبائل العربية يجعلها على نهج واحد وتسلك طريقا يعينها مخالفة بذلك عادتها اللغوية أو لهجتها؛ ودين الله يسر لا عسر؛ إلا أن اللهجات المستكرهة التي فيها إبدال حرف مكان حرف أو زيادته كطمطمانية حمير وكشكشة أسد وعنعنة تميم واستنطاء هذيل وسعد بن بكر والأزد والأنصار وغير ذلك من مستكره اللهجات تعتبر القراءة بها شاذة من الناحية الشرعية حيث لا تصح بها الصلاة والعبادات؛ أما من الناحية اللغوية والأدبية فلا خلاف في أنها منهل مورود لطلاب اللغة وآدابها.

ويرجع الخطر من الناحية الشرعية على اللهجات المستكرهة إلى ما اشترطه أئمة الشريعة في القراءة الصحيحة من أنها يجب ألا تخرج عن كونها.

1 - صحيحة السند.

2 - ووافقت العربية ولو بوجه.

3 - ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا. فإذا جمعت هذه الشروط تعد واجبة القبول سواء كانت من القراء السبعة المشهورين أم العشرة أم غيرهم من الأئمة المقبولين.

والذين انتهى إليهم من الصحابة سند القراء هم عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن عباس والحسين بن علي وعبد الله بن عياش المخزومي وعبد الله بن السائب المخزومي وهم قرشيون، وعبد الله ابن مسعود من هذيل، وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وهم من الأنصار، وأبو موسى الأشعري من الأشعرين وهي قبيلة يمنية، وأبو هريرة من الأزد، ثم صارت مكة والمدينة والبصرة والكوفة ودمشق مقراً لشيوخ القراءات في صدر الإسلام.

فبمكة عبد الله بن كثير من القراء السبعة، ومحمد بم محيصين من الأربعة عشر؛ وبالمدينة نافع من السبعة، وأبو جعفر من العشرة؛ وبالكوفة عاصم بن أبي النجود، وحمزة، والكسائي من السبعة، وخلف من العشرة، وسليمان الأعش من الأربعة عشر وبالبصرة، أبو عمرو من السبعة، ويعقوب من العشرة، والحسن البصري واليزيدي من الأربعة عشر؛ وبدمشق عبد الله بن عامر من السبعة.

وقد اشتهر غير هؤلاء جماعة بالأمصار الخمسة السابقة كحميد بن قيس بمكة، وشيبة بن نصاح بالمدينة، ويحيى بن وثاب بالكوفة، وعبد الله بن أبي اسحق الحضري بالبصرة، وعطية ابن قيس الكلابي بالشام. إلا أن رواية قراءاتهم كاملة لم تدون كما دونت قراءات الأربعة عشر ولا يعرف عنهم إلا ما تناثر في كتب التفسير والتراجم؛ وما كان لهم من استاذية على بعض القراء المشهورين حيث اختاروا من قراءاتهم لأنفسهم ما وافق شروط الاختيار.

وأول من تتبع وجوه القراءات وتقصى الأنواع الشاذة فيها وبحث عن أسانيدها من صحيح ومصنوع هو هرون بن موسى القارئ المتوفى سنة 170هـ إلا أنه لم يؤلف باستقصائه كتابا. ثم جاء أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224هـ فكان أول من استقصاها في كتاب، يقال إنه أحصى منها خمساً وعشرين قراءة مع السبع المشورة.

أما أول من اختار السبعة المشهورين في عهدنا هذا فهو أبو بكر بن مجاهد وذلك في أواخر القرن الثالث الهجري ومفتتح الرابع.

ولم يكن الكسائي معدوداً من السبعة قبل عهد المأمون؛ وقد كان من الأئمة قبل ابن مجاهد من أخرج حمزة والكسائي من السبعة وأدخل بدلا منهما أبا جعفر ويعقوب؛ فلما جاء الإمام الشاطبي اختار من اختارهم ابن مجاهد وألف منهم منظومته حرز الأماني المسماة الشاطبية فاقتصر عليهم المتأخرين تبعاً له اختصاراً واختيارا.

وقديماً كانت ثقافة القراء واسعة فلم ينصب أحد نفسه للإقراء بعد استنباط النحو ما لم يكن عالما بالعربية وأوجه الخلاف فيها، كما أنهم لم يعدوا المرء عالماً بالعربية ما لم يكن ملماً بالكثير من القراءات.

وفي بدء الإسلام لم تكن هناك حاجة إلى علم القارئ بالنحو الذي لم تستوف أصوله بعد وإن كان له مع ذلك إلماماً واسع بمأثور العرب في حين أن اللسان العربي صحيح والسليفة لم تفسدها العجمة. فإذا سرنا مع الزمن وجدنا كل قارئ إماما في العربية بجانب إمامته في القراءات.

فهذا أبو عمرو بن العلاء كان حجة في كلام العرب ولغاتها وغريبها.

وهذا الكسائي جمع إلى إمامته في القراءة إمامة الكوفيين في النحو.

وهذا ابن مالك صاحب الألفية صارت مرجع كل عالم في النحو كان حجة في القراءات وإماما. قدم الشام من الأندلس وصار الشيخ لإقراء بالمدرسة العادلية بدمشق وألف قصيدة دالية في القراءات السبع؛ أما الإمام الشاطبي صاحب المنظومة المشهورة في القراءات فقد كان أعلم الناس بالعربية وعلومها.

هذه نبذة مختصرة رأيت الإلمام بها قبل أن أعرض للقبائل ولهجاتها وأثرها في القراءات.

قبيلة تميم:

هي من أشهر القبائل التي كان للهجاتها أثر في القراءات والعربية أقامت قديماً بتهامة ثم نزحت في أواسط القرن الثاني قبل الهجرة نحو العراق واستقرت في باديته وما يليها جنوباً آخذة جزءاً من نجد، وتجاورها من ناحية الغرب قبائل أسد شمالا وقيس جنوباً، وتجاورها من ناحية الغرب بنو حنيفة من بكر بن وائل وعبد القيس من جديلة، وتفصل بين بعض بطونها قبائل من بكر ابن وائل. وقد توزع كثير من التمميمين في الفتوح الإسلامية وشملت البصرة والكوفة في مبدأ إنشائها عدداً كبيراً منها.

ديانتها:

كانت الوثنية شاملة لجزيرة العرب قبل الإسلام، وقد اتخذت القبائل بيوتاً للعبادة وأصناما خاصة بها بجانب احترامها للكعبة. والأصنام المشهورة اللات والعزى ومناة، فما كانت تتفرد به تميم صنم اسمه تيم ولهذا قيل لتميم كلها في الجاهلية عبد تميم؛ وكان لها بيت للعبادة اسمه (رضاء) ولها يقول المستوغر بن ربيعة حين هدمها في الإسلام.

ولقد شددت على رضاء شدة ... فتركتها قفر بقاع أسحما

وقد دخل جماعة من التميمين أيام الجاهلية في المجوسية لقربهم من العراق التابع للفرس. وعبد جماعة منهم نجما يسمى الدبران، وأسلمت تميم في حياة الرسول، فلما قبض إلى الرفيق الأعلى ادعت سجاح بنت الحارث فيهم النبوتة فتبعوها ثم عادوا إلى الإسلام مرة أخرى وأسلمت متنبئتهم سجاح.

نسبها:

تميم قسمان: الصغرى وهم أبناء تميم بن عبد مناة بن أد بن طانجة ابن إلياس بن مضر، ومنهم قطام صاحبة عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب التي اشترط في مهرها.

ثلاثة آلاف وعبد وقينسة ... وضرب على بالحسام المصمم

والكبرى وهي صاحبة الشهرة التي تراد عند الإطلاق وهي التي نعنيها بالبحث والمقصود دائما في جميع الكتب هم أبناء تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، ولها بطون وعشائر كثيرة أصبحت شبه مستقلة في منازعتها ومفاخرتها بل وفي بعض لهجاتها.

عاداتها:

كان للعرب في الجاهلية عادات مختلفة شملتهم جميعا، منها وأد البنات وزجر الطيور والاستقسام بالإزلام، والعقر على القبور؛ غير أن أهل نجد ومنهم تميم قد يخالفون الحجازيين في بعض العادات كما يخالفونهم في اللهجات، فالسانح من الطير والظباء وهو ما مر من مياسرك إلى ميامنك تيمن به أهل نجد ويتشاءمون بالبارح وهو ما مر من ميامنك إلى مياسرك بعكس الحجازيين فيهما قال ذو الرمة وهو نجدي:

خليلي لا لاقيتما ما حييتما ... من الطير إلا السانحات وأسعد

وقال النابغة متشائما بالبارح وهو نجدي.

زعم البوارح أن رحلتنا غداً ... وبذاك تنعاب الغراب الأسود وقال كثير وهو حجازي ممن يتشاءم بالسانح.

أقول إذا ما الطير مرت مخيفة ... سوانحها تجري ولا أستثيرها

هذا هو الأصل عندهم؛ ثم قد يستعمل النجدي عادة الحجازي فمن ذلك قول عمرو بن فميئة وهو نجدي.

فبيتي على طير سنيح تحوسه ... وأشأم طير الزاجرين سنيحها

رجالاتها:

اشتهر من تميم كثير من الحكماء والزعماء والعلماء والشعراء وغيرهم في الجاهلية والإسلام منهم أوس بن حجر شاعر مضر في الجاهلية ومن قوله:

أيتها النفس أجملي جزعاً ... إن الذي تحذرين قد وقعا

ومنها: الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا ومن قوله:

ولست بخابئ لغد طعاماً ... حذار غد، لكل غد طعام

ومنهم أكتم بن صيفي حكيم العرب في الجاهلية، ومن حكمه: مصارع الرجال تحت بروق الطمع، ومن جعل عرضه دون ماله استهدف للذم، ومقتل الرجل بين فكيه. ومنهم حاجب بن زرارة من مشاهير فصحاء زمانه وفد على كسرى وضمن قومه برهن قوسه عنده، ولذلك قصة مشهورة. ومنهم الأقرع بن حابس وفد على النبي وشهد فتح مكة وحنينا والطائف. ومنهم الأحنف بن قيس سيد تميم البصرة وعروة بن جرير أول خارجي قال: لا حكم إلا الله يوم صفين، والمنذر بن ساري صاحب هجر وقطري بن الفجاءة الخارجي الأزرقي ومن قوله:

أقول لها وقد طارت شعاعاً ... من الأبطال ويحك لا ترعي

فإنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لن تطاعي

فصبراً في مجال الموت صبراً ... فما نيل الخلود بمستطاع

ومنهم عبد الله بن أباض رئيس الأباضية من الخوارج، وعبد الله ابن صفار رئيس الصفرية وجرير والفرزدق الشاعران ورؤبة ابن العجاج الراجز والسليك بن سلكة من العدائين المشهور بن ومية صاحبة ذي الرمة وسجاح المتنبئة.

أما علماؤها فمنهم زفر الفقيه الحنفي وأبو عمرو بن العلاء وسنفرد له ترجمة خاصة، وأبو عثمان المازني النحوي والنضر بن شميل النحوي ويحيى بن أكثم قاضي المأمون غلب عليه حتى لم يتقدمه أحد من الناس جميعا، ولى أول الأمر قضاء البصرة وهو صغير فاستصغره أهلها وقالوا كم سن القاضي؟ فعلم أنه قد استصغر فقال أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به النبي قاضيا على مكة يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به النبي قاضياً على اليمن.

(للبحث بقية)

عبد الستار أحمد فراج

محرر بالمجمع اللغوي